د. خالد شوكات: هل بمقدور سعيّد إلغاء السياسة!؟

د. خالد شوكات
كنّا أيام المعارضة قبل الثورة نتهّم الرئيس بن علي رحمه الله، بالنظر إلى خلفيته العسكرية والأمنية، أنّه قام بتضييق هامش العمل السياسي إلى أدنى حدّ، من خلال الحدّ من حرية الاعلام، وجعل الحياة السياسية مقصورة على حزبه الحاكم وما يسمى بأحزاب المعارضة “الإدارية” أو “الكرتونية” التابعة له، فضلا عن تحويله الحزب الحاكم نفسه، أي التجمع الدستوري الديمقراطي، إلى مؤسسة “أمنية واستخباراتية وزبونية” آخر وظائفها التأطير السياسي للمواطنين، خلافاً لما كان عليه الحال أيام المرحوم الزعيم الحبيب بورقيبة .
وكنّا في هذا السياق نستهول صنع الرئيس بن علي ونراه مخالفا لقواعد الاجتماع السياسي ومناقضاً للطبيعة البشرية التي تعترف بوجود رغبة أصلية لدى الناس للمشاركة في تسيير الشأن العام، سواء بمجرّد الحديث أو ممارسة المسؤولية، وكنت شخصيا استغرب كيف يصبر التونسيون على هذه الطريقة في ادارة البلاد، فقد فتحتُ عيني على السياسة ايام حكم الاستاذ محمد مزالي رحمه الله، حيث كان عقد الثمانينيّات من القرن الماضي عقدا سياسيا بامتياز، وكان المجال العام في تونس حينها، بجميع أجزائه، يمور بالحديث السياسي والحراك الاجتماعي والحزبي والطلابي، وكان تقديرنا اننا سننعم بنظام ديمقراطي كامل بعد مغادرة الزعيم بورقيبة للحكم، لكنّنا فوجئنا بالعكس تدريجيا، حيث سنشهد تحوّلا ابتداءا من التسعينيات نحو “مثقّف خائف يحسب كلماته بالقطّارة” ومواطن “منسحب” يبحث عن قضاء حاجاته الخاصة وتشغيل أبنائه العاطلين.
ودون اطالة أقول بأنّني “مندهش” تماما لهذه التجربة “الفريدة” في التاريخ والجغرافيا، التي يقودها الأخ الرئيس قيس سعيّد، تجربة يتطلع من خلالها إلى “إلغاء” النخب السياسية والاحزاب و”السياسة” برمتها ب”جرّة قلم”، من خلال إزالة الطابع السياسي عن مؤسسات الحكم، عبر إلغاء البرلمان، وتحويل الحكومة إلى مجرّد “مجلس إدارة”، والاخطر من كل ذلك التخلّي عن أدوات العمل السياسي في ممارسة رئاسة الدولة، بالامتناع عن أي حوار سياسي أو شبه سياسي، حتّى مع مؤيديه والمتحمسين لاجراءاته الانقلابية على الدستور ومسار الانتقال الديمقراطي، مكتفيا في مخاطبة الجمهور على عشر دقائق أو ربع ساعة منقولة على صفحة الرئاسة في الفايسبوك، أغلبها هجوم “أخلاقوي” على خصومه وأعدائه المنسوبين الى المجهول دائما والى ضمير الغائب “هم”، وحتى التفاعل مع رسائل الخارج السياسية فإنه يتم في الحد الأدنى الخطابي وبتجاهل غريب ومُريب ورهيب.
فإذا ما أضفنا إلى هذا الحال، الطابع الخاص لجمهور الرئيس، الذي يريد ان يعوّض التنظيمات السياسية، فإن الحكم الاقرب الى الواقع عليه، أنه جمهور معادٍ للسياسة غارق في السباب والشتيمة والهمجية والسوقية والرداءة، ذو طبيعة “رعاعية” بامتياز، تجمعه الاحكام الاخلاقوية والعداوات المشخصنة والمصالح الفردية الضيقة أكثر مما تربط بينه افكار محددة ورؤى واضحة تجاه القضايا الكبرى للبلاد اكانت سياسية أو تنموية.
تبقى الإشارة إلى ان الجزء الغالب من النخب السياسية المسايرة لسيرة الأخ الرئيس العجيبة الغريبة الرهيبة في إلغائه السياسة واحتكاره جميع السلطات، لا تعود الى “قناعة” بل الى عداوة ايديولوجية مرضيّة مستحكمة مفادها “حكم الشيطان نفسه ولا حكم الاسلاميين”.
وخلاصة القول في رأيي أننا نعيش حقبة حكم شاذ، يشبه في شذوذه تجارب حكم عرفها التاريخ الاسلامي في فترات محددة من قبيل “الحكم القرمطي” مثلا أو حكم “الحاكم بأمر الله الفاطمي” في مصر، والتاريخ الغربي في تجربة “اليعاقبة” عقب الثورة الفرنسية، أو تجربة “أنور خوجا” الشيوعية المطلقة في ألبانيا، والتاريخ الآسيوي المعاصر من قبيل تجربة حكم “الخمير الحمر” في كمبوديا ..
ويبقى السؤال إلى أي مدى يمكن أن تستمر تجربة “الحكم بلا سياسة” هذه، خصوصا مع حرص الاخ الرئيس قيس سعيّد على أن لا يكون ديكتاتوراً يؤذي الحرّيات وينتهك حقوق الانسان ويسمح للإعلام بالنقد والتحليل، وفيّ هذه الخاصية تحديدا تكمن الغرابة والقيمة المُضافة، فقد كانت تجارب الحكم المقارنة المشار إليها دموية خالصة، سائلين المولى استدامة الأمن في بلادنا واللطف بها !!؟