19 أبريل 2025

شادي‭ ‬زريبي: أعلام التجديد الشعري في العراق وتونس خلال العهد الملكي (1920-1958)

1 min read

شادي‭ ‬زريبي

لقد‭ ‬مر‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬تاريخه‭ ‬بالعديد‭ ‬من‭ ‬المنعرجات‭ ‬والهزات‭ ‬والتغيرات‭ ‬حسب‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان،‭ ‬وحسب‭ ‬المتغيرات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية‭ ‬وحتى‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬هذه‭ ‬العوامل‭ ‬شكلت‭ ‬مجتمعة‭ ‬أشكالا‭ ‬جديدة‭ ‬للقصيدة‭ ‬العربية‭ ‬مع‭ ‬مضامين‭ ‬خرجت‭ ‬عن‭ ‬السائد‭ ‬والمألوف،‭ ‬والتي‭ ‬تناولها‭ ‬النقاد‭ ‬القدامى‭ ‬بالبحث‭ ‬والتمحيص‭. ‬

والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬الواقع‭ ‬الذي‭ ‬عاشته‭ ‬البلدان‭ ‬العربية‭ ‬مع‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬وحتى‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬التاريخ،‭ ‬جعلت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المفاهيم‭ ‬تنحو‭ ‬نحو‭ ‬التبدل‭ ‬بحكم‭ ‬واقع‭ ‬الاستعمار‭ ‬الغربي‭ ‬الذي‭ ‬عاشته‭ ‬والذي‭ ‬ساهم‭ ‬بقسط‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬تفشي‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المظاهر‭ ‬القاسية،‭ ‬كالفقر‭ ‬والمرض‭ ‬والجوع‭ ‬والآفات‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬العلامات‭ ‬القاتمة،‭ ‬هذه‭ ‬المظاهر‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬ظهور‭ ‬أصوات‭ ‬شعرية‭ ‬نادت‭ ‬بضرورة‭ ‬التغيير‭ ‬ورفض‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬المفروض‭ ‬بقوة‭ ‬السلاح‭ ‬ومنطق‭ ‬الترهيب‭ ‬والتركيع‭.‬

وفي‭ ‬هذه‭ ‬الورقة‭ ‬سنحاول‭ ‬تسليط‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬الشعر‭ ‬الثوري‭ ‬بداية‭ ‬من‭ ‬العشرينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬في‭ ‬المشرق‭ ‬العربي،‭ ‬العراق‭ ‬نموذجا،‭ ‬ومثله‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬العربي،‭ ‬تونس‭ ‬مثالا‭ ‬لذلك،‭ ‬وإلى‭ ‬حدود‭ ‬نيل‭ ‬استقلال‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬البلدين‭ (‬تونس‭ ‬سنة‭ ‬1956‭ ‬والعراق‭ ‬سنة‭ ‬1958‭).‬

ولعل‭ ‬الأحداث‭ ‬التي‭ ‬مرت‭ ‬بها‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬العشرية‭ ‬الثانية‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬أي‭ ‬بداية‭ ‬العشرينات‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬الوقع‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬الشعراء‭ ‬الذين‭ ‬هبوا‭ ‬لنصرة‭ ‬القضايا‭ ‬العربية‭ ‬وكشف‭ ‬حقيقة‭ ‬المحتل،‭ ‬سلاحهم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬وقع‭ ‬الكلمة‭ ‬وسلطة‭ ‬القول،‭ ‬وتأثير‭ ‬القصيدة‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬الشعوب،‭ ‬فبرزت‭ ‬القصيدة‭ ‬الثورية‭ ‬التي‭ ‬سنت‭ ‬معانيها‭ ‬لاستنهاض‭ ‬همم‭ ‬الشعوب،‭ ‬فجاءت‭ ‬المعاني‭ ‬صاخبة‭ ‬بروح‭ ‬التمرد‭ ‬وانثالت‭ ‬الكلمات‭ ‬برداء‭ ‬الثورة‭ ‬والرفض،‭ ‬هذه‭ ‬القصائد‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬عنوانا‭ ‬للثورة‭ ‬والبداية‭ ‬الفعلية‭ ‬لخط‭ ‬سير‭ ‬المناداة‭ ‬بالتحرر‭ ‬من‭ ‬نير‭ ‬الاستعمار،‭ ‬يقول‭ ‬الشاعر‭ ‬التونسي‭ ‬أبو‭ ‬القاسم‭ ‬الشابي‭ (‬1909-1934‭) ‬في‭ ‬ديوانه‭ “‬أغاني‭ ‬الحياة‭”:‬

‭”‬ألا‭ ‬أيها‭ ‬الظـالم‭ ‬المستبد‭   ‬حبيب‭ ‬الظلام‭ ‬عدو‭ ‬الحياه

سخرت‭ ‬بأناة‭ ‬شعب‭ ‬ضعيف‭   ‬وكفك‭ ‬مخضوبة‭ ‬من‭ ‬دماه‭”.‬

هذه‭ ‬الصرخة‭ ‬النابعة‭ ‬من‭ ‬نفس‭ ‬ثائرة،‭ ‬وهذا‭ ‬النفس‭ ‬القوي‭ ‬الصادر‭ ‬من‭ ‬ذات‭ ‬هادرة،‭ ‬وهذه‭ ‬العبارة‭ ‬الملخصة‭ ‬لفعل‭ ‬المستعمر،‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬إلا‭ ‬صورة‭ ‬حقيقية‭ ‬عما‭ ‬كان‭ ‬يعانيه‭ ‬التونسي‭ ‬إبان‭ ‬فترة‭ ‬الاستعمار،‭ ‬من‭ ‬قتل‭ ‬وتجويع‭ ‬واضطهاد‭ ‬وتشريد‭.‬

كما‭ ‬عرف‭ ‬الشابي‭ ‬بمناهضته‭ ‬للاستعمار،‭ ‬وجاهر‭ ‬بذلك‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬قصائده‭ ‬التي‭ ‬تلونت‭ ‬واصطبغت‭ ‬باللون‭ ‬الأحمر،‭ ‬لون‭ ‬الدم‭ ‬المراق‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬تونس،‭ ‬فجاء‭ ‬شعره‭ ‬فاضحا‭ ‬لأفعال‭ ‬المستعمر‭ ‬الماعن‭ ‬في‭ ‬الترويع‭ ‬والتجويع‭ ‬والتهجير،‭ ‬هذه‭ ‬الأفعال‭ ‬حذر‭ ‬الشابي‭ ‬الطغاة‭ ‬من‭ ‬الثورة‭ ‬الآتية،‭ ‬والتي‭ ‬ستنبع‭ ‬يوما‭ ‬من‭ ‬إرادة‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬ستنتصر‭ ‬على‭ ‬فعل‭ ‬الموت‭ ‬المبثوث‭ ‬هنا‭ ‬وهناك،‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ “‬إرادة‭ ‬الحياة‭”:‬

‭”‬إذا‭ ‬الشعب‭ ‬يوما‭ ‬أراد‭ ‬الحياة‭   ‬فلابد‭ ‬أن‭ ‬يستجيب‭ ‬القدر

ولابد‭ ‬لليـل‭ ‬أن‭ ‬ينجــــلي‭      ‬ولابد‭ ‬للقــــيد‭ ‬أن‭ ‬ينكسر‭”.‬

ونجد‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬العربي‭ ‬الحديث‭ ‬مجبول‭ ‬على‭ ‬السياسة،‭ ‬لأنه‭ ‬مدفوع‭ ‬إليها‭ ‬بدافع‭ ‬غريزي،‭ ‬فهو‭ ‬لم‭ ‬ير‭ ‬حوله‭ ‬غير‭ ‬النكسات‭ ‬المتعاقبة‭ ‬منذ‭ ‬نهايات‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬وتوغل‭ ‬الاستعمار،‭ ‬وبزوغ‭ ‬كيانات‭ ‬سياسية‭ ‬اتسمت‭ ‬بالاستبداد‭ ‬وغياب‭ ‬الحرية،‭ ‬ومصادرة‭ ‬حق‭ ‬المواطنين‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬آرائهم،‭ ‬فكان‭ ‬الشعر‭ ‬صرخة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬حرية‭ ‬التعبير‭ ‬والمناداة‭ ‬بالديمقراطية،‭ ‬والنضال‭ ‬ضد‭ ‬الأنظمة‭ ‬الفاسدة،‭ ‬وتحقيق‭ ‬شروط‭ ‬الوجود‭ ‬الإنساني‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يفسر‭ ‬لنا‭ ‬الدوافع‭ ‬النفسية‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬يخوضون‭ ‬تجربة‭ ‬مغامرة‭ ‬الشعر‭ ‬السياسي،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬معرفتهم‭ ‬المطلقة‭ ‬بأن‭ ‬نشاطهم‭ ‬الشعري‭ ‬الهجائي‭ ‬لن‭ ‬يعود‭ ‬عليهم‭ ‬سوى‭ ‬بالسجن‭ ‬والنفي‭ ‬والمطاردة‭ ‬والتشريد‭ ‬والتصفية‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬صور‭ ‬الشعر‭ ‬العراقي‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬العذاب‭ ‬الذي‭ ‬يلاقيه‭ ‬الشعب‭ ‬جراء‭ ‬الاستعمار‭ ‬البريطاني‭ ‬الذي‭ ‬أوغل‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬الوحشية‭ ‬والعنف،‭ ‬يقول‭ ‬محمد‭ ‬مهدي‭ ‬الجواهري‭ (‬1899-1997‭)‬،‭ ‬الملقب‭ ‬بشاعر‭ ‬العرب‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬مجاهرة‭ ‬الطغاة‭ ‬وبنبرة‭ ‬المتحدي‭:‬

‭”‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تبكي‭ ‬النبوع‭ ‬المضاعا

سب‭ ‬من‭ ‬جر‭ ‬هذه‭ ‬الأوضاعا

سب‭ ‬من‭ ‬شاء‭ ‬أن‭ ‬تموت‭ ‬وأمثا

لك‭ ‬هما‭ ‬وأن‭ ‬تروحـوا‭ ‬ضباعا

سب‭ ‬من‭ ‬شاء‭ ‬أن‭ ‬تعيش‭ ‬فلول

حيث‭ ‬أهل‭ ‬البلاد‭ ‬تقضي‭ ‬جياعا‭ ‬

خبروني‭ ‬بأن‭ ‬عيشه‭ ‬قومــــي

لا‭ ‬تســــاوي‭ ‬حذاءك‭ ‬اللماعا‭”.‬

ولأن‭ ‬الشعر‭ ‬كان،‭ ‬ولا‭ ‬يزال،‭ ‬ملجأ‭ ‬الفرد‭ ‬من‭ ‬بطش‭ ‬السلطة،‭ ‬وأداة‭ ‬لكسر‭ ‬القيود‭ ‬التي‭ ‬تفرضها‭ ‬عليه،‭ ‬نشأ‭ ‬الشعر‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬يعرف‭ ‬بأنه‭ ‬أحد‭ ‬أشكال‭ ‬الشعر‭ ‬الذي‭ ‬يهدف‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬الشاعر‭ ‬إلى‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬رأيه‭ ‬السياسي‭ ‬فيما‭ ‬يجري‭ ‬حوله‭ ‬من‭ ‬أحداث‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬رؤيته‭ ‬الخاصة‭ ‬التي‭ ‬تكشف‭ ‬حقيقة‭ ‬الواقع‭ ‬السياسي‭ ‬وتجلياته‭.‬

نشأ‭ ‬الشعر‭ ‬السياسي‭ ‬نتيجة‭ ‬سوء‭ ‬الأحوال‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وتدهور‭ ‬الأوضاع‭ ‬السياسية،‭ ‬وضراوة‭ ‬الأنظمة‭ ‬الحاكمة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تعبأ‭ ‬بالفرد‭ ‬وهمومه‭ ‬وآلامه‭ ‬وآماله،‭ “‬فحين‭ ‬تفسد‭ ‬السياسة‭ ‬يظهر‭ ‬الشعر‭”‬،‭ ‬في‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬العلاقة‭ ‬المشوبة‭ ‬بالتنافر‭ ‬والعداوة‭ ‬بين‭ ‬السياسة‭ ‬والشعر‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬المسار‭ ‬أدركت‭ ‬الشاعرة‭ ‬نازك‭ ‬الملائكة‭ (‬1923-2007‭) ‬أن‭ ‬الحل‭ ‬الوحيد‭ ‬لتحرير‭ ‬الوطن‭ ‬السليب‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬الثورة،‭ ‬والتمرد،‭ ‬ورفع‭ ‬راية‭ ‬المقاومة‭ ‬عاليا،‭ ‬دون‭ ‬خوف‭ ‬أو‭ ‬وجل‭ ‬من‭ ‬المصير‭ ‬القادم،‭ ‬تقول‭ ‬في‭ ‬قصيدتها‭ ‬ذائعة‭ ‬الصيت‭ “‬كوليرا‭”:‬

‭” ‬سكن‭ ‬الليل‭ ‬

أصغ‭ ‬إلى‭ ‬وقْع‭ ‬صدى‭ ‬الأناتْ‭ ‬

في‭ ‬عمْق‭ ‬الظلمة‭ ‬تحت‭ ‬الصمت‭ ‬على‭ ‬الأمواتْ‭ ‬

صرخاتٌ‭ ‬تعلو‭ ‬تضطرب

‭ ‬حزنٌ‭ ‬يتدفق،‭ ‬يلتهب‭ ‬

يتعثر‭ ‬فيه‭ ‬صدى‭ ‬الآهاتْ‭ ‬

في‭ ‬كل‭ ‬فؤادٍ‭ ‬غليان‭ ‬

في‭ ‬الكوخ‭ ‬الساكن‭ ‬أحزان‭ ‬

في‭ ‬كل‭ ‬مكانٍ‭ ‬روحٌ‭ ‬تصرخ‭ ‬في‭ ‬الظلماتْ‭ ‬

في‭ ‬كل‭ ‬مكانٍ‭ ‬يبكي‭ ‬صوتْ‭ ‬

هذا‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬مزقه‭ ‬الموتْ‭ ‬

الموت‭ ‬الموت‭ ‬الموتْ‭ ‬

يا‭ ‬حزْن‭ ‬النيل‭ ‬الصارخ‭ ‬مما‭ ‬فعل‭ ‬الموتْ‭ ‬

طلع‭ ‬الفجر‭ “.‬

كما‭ ‬لفت‭ ‬المفكر‭ ‬والنقابي‭ ‬والسياسي‭ ‬التونسي‭ ‬الطاهر‭ ‬الحداد‭ (‬1899-1935‭) ‬الانتباه‭ ‬بعدد‭ ‬مهم‭ ‬من‭ ‬القصائد‭ ‬ذات‭ ‬النفس‭ ‬الإصلاحي‭ ‬أمضى‭ ‬أكثرها‭ ‬باسم‭ ‬مستعار‭ ‬“ضمير‭”.‬

كان‭ ‬شعر‭ ‬الحداد،‭ ‬بمثابة‭ ‬الشرارة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬اندلعت‭ ‬مغربا‭ ‬فأضاءت‭ ‬السماء،‭ ‬وشجعت‭ ‬مفكريه‭ ‬على‭ ‬إعلان‭ ‬معركة‭ ‬السفور،‭ ‬والمطالبة‭ ‬بإصلاح‭ ‬وضعية‭ ‬المرأة‭ ‬لإدماجها‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬العام،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬حجبت‭ ‬عنه‭ ‬لعدة‭ ‬قرون‭ ‬وقد‭ ‬فضح‭ ‬أعمال‭ ‬المستعمر‭ ‬ونادى‭ ‬إلى‭ ‬ضرورة‭ ‬المقاومة‭ ‬الفعلية‭ ‬ورفض‭ ‬الاستسلام‭ ‬والخنوع،‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ “‬إذا‭ ‬ما‭ ‬أردنا‭ ‬أن‭ ‬ننال‭ ‬الرغائبا‭”:‬

‭”‬إذا‭ ‬ما‭ ‬أردنا‭ ‬أن‭ ‬ننال‭ ‬الرغائبا

                            ‬فليس‭ ‬لنا‭ ‬غير‭ ‬العلوم‭ ‬مطالبا

بها‭ ‬بدد‭ ‬الغرب‭ ‬الضلال‭ ‬وجيشه

                            ‬وقاد‭ ‬بها‭ ‬نحو‭ ‬الحياة‭ ‬النجائبا

بها‭ ‬ذلل‭ ‬الغرب‭ ‬السماء‭ ‬لعزمه

                            ‬وعمر‭ ‬أرجاء‭ ‬البحار‭ ‬مراكبا‭”.‬

وتميز‭ ‬شعر‭ ‬الحداد‭ ‬وكتاباته،‭ ‬بالوعي‭ ‬التاريخي‭ ‬العميق‭ ‬وإدراكه‭ ‬لتطور‭ ‬الحياة‭ ‬ولالصيرورة‭ ‬التاريخية،‭ ‬وقد‭ ‬ناقش‭ ‬خصومه‭ ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة،‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ “‬أفديك‭ ‬يا‭ ‬وطني‭ ‬بالنفس‭ ‬والمال‭”:‬

‭”‬أفديك‭ ‬يا‭ ‬وطني‭ ‬بالنفس‭ ‬والمال

                              ‬مما‭ ‬يسومك‭ ‬سوءاً‭ ‬فيه‭ ‬إذلالي‭ ‬

أفديك‭ ‬يا‭ ‬وطني‭ ‬أفديك‭ ‬يا‭ ‬سكني

                            ‬بك‭ ‬اعتزازي‭ ‬وفيك‭ ‬اليوم‭ ‬آمالي

حبي‭ ‬إليك‭ ‬أراني‭ ‬الخطب‭ ‬منقبة

                              ‬تزيدني‭ ‬شرفاً‭ ‬يزري‭ ‬بعذالي

لا‭ ‬عيش‭ ‬لي‭ ‬أبتغي‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يعش‭ ‬وطني

                              ‬في‭ ‬عزة‭ ‬ورخاء‭ ‬هانئ‭ ‬البال

إني‭ ‬بخدمة‭ ‬أوطاني‭ ‬أذب‭ ‬على

                    ‬قومي‭ ‬وأهلي‭ ‬ومجدي‭ ‬الشامخ‭ ‬العالي‭”.‬

‭ ‬فالحداد‭ ‬انتقد‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬قصائده‭ ‬الانقياد‭ ‬للماضي‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬مدركا‭ ‬للآلية‭ ‬التي‭ ‬تدفع‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية‭ ‬للهروب‭ ‬من‭ ‬الحاضر‭ ‬نحو‭ ‬الماضي‭ ‬وأمجاده‭.‬

ولعل‭ ‬شعره‭ ‬كان‭ ‬رسالة‭ ‬واضحة‭ ‬لأولئك‭ ‬الذين‭ ‬اختاروا‭ ‬الرضوخ‭ ‬والاستكانة،‭ ‬فكانت‭ ‬عباراته‭ ‬كالرصاص‭ ‬قوة‭ ‬وكالسيوف‭ ‬حدة‭ ‬لاستنهاض‭ ‬الهمم،‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ “‬يا‭ ‬قومي‭ ‬استمعوا‭ ‬للنصح‭ ‬يبذله‭”:‬

‭”‬يا‭ ‬قومي‭ ‬استمعوا‭ ‬للنصح‭ ‬يبذله

                              ‬أخ‭ ‬لكم‭ ‬همه‭ ‬الإخلاص‭ ‬للوطن

إن‭ ‬شئتم‭ ‬أن‭ ‬تنالوا‭ ‬الفوز‭ ‬فاتحدوا

                              ‬فنحن‭ ‬بين‭ ‬نيوب‭ ‬الجور‭ ‬والوهن

ضعف‭ ‬نقاسيه‭ ‬من‭ ‬أمراض‭ ‬كبوتنا

                              ‬حكم‭ ‬يسير‭ ‬بنا‭ ‬للهول‭ ‬والمحن

يا‭ ‬ويح‭ ‬قوم‭ ‬أضاعوا‭ ‬منهم‭ ‬شرفاً

                            ‬بناه‭ ‬أجدادهم‭ ‬في‭ ‬سالف‭ ‬الزمن

يستقبلون‭ ‬رزايا‭ ‬الدهر‭ ‬مفعمة

                        ‬سحقاً‭ ‬ومحقاً‭ ‬وعارا‭ ‬غير‭ ‬مضطعن

فذاك‭ ‬والله‭ ‬لا‭ ‬ظلماً‭ ‬جزاؤهم

                          ‬قد‭ ‬أعقبــــته‭ ‬إليــــهم‭ ‬لذة‭ ‬الوسن‭”.‬

ولعل‭ ‬الأشعار‭ ‬المبثوثة‭ ‬هنا‭ ‬وهناك‭ ‬في‭ ‬نص‭ ‬كتاب‭ “‬تونس‭ ‬الشهيدة‭” ‬لعبد‭ ‬العزيز‭ ‬الثعالبي‭ (‬1874-‭ ‬1944‭) ‬عملت‭ ‬على‭ ‬إحداث‭ ‬المفارقة‭ ‬بين‭ ‬المبادئ‭ ‬والسياسات،‭ ‬بين‭ ‬فرنسا‭ ‬الداخل‭ ‬وفرنسا‭ ‬الخارج،‭ ‬بين‭ ‬فرنسا‭ ‬التاريخ‭ ‬والثورة‭ ‬وفرنسا‭ ‬الحاضر‭ ‬والاستعمار،‭ ‬مؤكدا‭ ‬أن‭ ‬جل‭ ‬ما‭ ‬تقوم‭ ‬به‭ ‬حكومات‭ ‬الحماية،‭ ‬بداية‭ ‬من‭ ‬المقيم‭ ‬العام‭ ‬إلى‭ ‬أبسط‭ ‬موظف‭ ‬فرنسي،‭ ‬إنما‭ ‬شديد‭ ‬التناقض‭ ‬مع‭ ‬المبادئ‭ ‬الحداثية‭ ‬للعالم‭ ‬الحر‭.‬

وكثف‭ ‬الثعالبي،‭ ‬في‭ ‬كتابه،‭ ‬من‭ ‬معجمية‭ ‬سياسية‭ ‬وقانونية‭ ‬قل‭ ‬وجودها‭ ‬في‭ ‬المدونة‭ ‬الفكرية‭ ‬لتلك‭ ‬الحقبة‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬الإنسانية‭ ‬العامة،‭ ‬والأخوة‭ ‬العالمية،‭ ‬والعدل‭ ‬والإنصاف،‭ ‬وهي‭ ‬مصطلحات‭ ‬مقتبسة‭ ‬من‭ ‬المعجم‭ ‬الحداثي‭ ‬أكثر‭ ‬منه‭ ‬من‭ ‬المعجم‭ ‬المحلي‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الحربين‭.‬

وأخذ‭ ‬الشاعر‭ ‬العراقي‭ ‬بدر‭ ‬شاكر‭ ‬السياب‭ (‬1926-1964‭)‬،‭ ‬موقع‭ ‬الريادة‭ ‬بفضل‭ ‬تدفقه‭ ‬الشعري‭ ‬وتمكنه‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬الأغراض،‭ ‬وكذلك‭ ‬للنفس‭ ‬الأسطوري‭ ‬الذي‭ ‬أدخله‭ ‬على‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬بإيقاظ‭ ‬أساطير‭ ‬بابل‭ ‬واليونان‭ ‬القديمة،‭ ‬كما‭ ‬صنع‭ ‬رموزا‭ ‬خاصة‭ ‬بشعره‭ ‬مثل‭ ‬المطر،‭ ‬تموز،‭ ‬عشتار،‭ ‬وقريته‭ “‬جيكور‭” ‬التي‭ ‬خلدها‭ ‬في‭ ‬شعره‭.‬

وجاءت‭ ‬الألوان‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬السياب‭ ‬متعددة،‭ ‬حيث‭ ‬بدأ‭ ‬بالرومانسية‭ ‬وانتقل‭ ‬سريعا‭ ‬إلى‭ ‬الواقعية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬بعض‭ ‬مشاكل‭ ‬المجتمع‭ ‬العراقي‭ ‬والعربي‭ ‬كالفقر‭ ‬واضطهاد‭ ‬الإنسان‭ ‬والشعوب،‭ ‬مثل‭ ‬قصيدة‭ “‬حفار‭ ‬القبور‭”‬،‭ ‬التي‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭:‬

‭”‬ضوء‭ ‬الأصيل‭ ‬يغيم‭ ‬كالحلم‭ ‬الكئيب‭ ‬على‭ ‬القبور

واه‭ ‬كما‭ ‬ابتسم‭ ‬اليتامى‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬بهتت‭ ‬شموع

في‭ ‬غيهب‭ ‬الذكرى‭ ‬يهوم‭ ‬ظلهن‭ ‬على‭ ‬دموع

والمدرج‭ ‬النائي‭ ‬تهب‭ ‬عليه‭ ‬أسراب‭ ‬الطيور

كالعاصفات‭ ‬السود‭ ‬كالأشباح‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬قديم

برزت‭ ‬لترعب‭ ‬ساكنيه

من‭ ‬غرفة‭ ‬ظلماء‭ ‬فيه

وتثاءب‭ ‬الطلل‭ ‬البعيد‭ ‬يحدق‭ ‬الليل‭ ‬البهيم

من‭ ‬بابه‭ ‬الأعمى‭ ‬ومن‭ ‬شباكه‭ ‬الخرب‭ ‬البليد

والجو‭ ‬يملؤه‭ ‬النعيب

فتردد‭ ‬الصحراء‭ ‬في‭ ‬يأس‭ ‬واعوال‭ ‬رتيب

أصداءه‭ ‬المتلاشيات

والريح‭ ‬تذروهن‭ ‬في‭ ‬سأم‭ ‬على‭ ‬التل‭ ‬البعيد

وكأن‭ ‬بعض‭ ‬الساحرات

مدت‭ ‬أصابعها‭ ‬العجاف‭ ‬الشاحنات‭ ‬إلى‭ ‬السماء

تومي‭ ‬إلى‭ ‬سرب‭ ‬من‭ ‬الغربان‭ ‬تلويه‭ ‬الرياح

أخط‭ ‬في‭ ‬وحل‭ ‬الرصيف‭ ‬وقد‭ ‬تلطخ‭ ‬وقد‭ ‬تلطخ‭ ‬بالدماء‭”.‬

إلى‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬القتل‭ ‬والتشريد‭ ‬التي‭ ‬يعيشها‭ ‬العراق‭ ‬إبان‭ ‬الاحتلال‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يرحم‭ ‬أحدا،‭ ‬يقول‭:‬

‭”‬وسأدفن‭ ‬الطفل‭ ‬الرمي‭ ‬وأطرح‭ ‬الأم‭ ‬الحزينة

بين‭ ‬الصخور‭ ‬على‭ ‬ثراه

ولسوف‭ ‬أغرز‭ ‬بين‭ ‬ثدييها‭ ‬أصابعي‭ ‬اللعينة

ويكاد‭ ‬يحنقها‭ ‬لهاثي‭ ‬وهي‭ ‬تسمع‭ ‬في‭ ‬لظاه

قلبي‭ ‬ووسوسة‭ ‬النقود‭ ‬نقودها‭ ‬واخجلتاه

أنا‭ ‬لست‭ ‬أحقر‭ ‬من‭ ‬سواي‭ ‬وإن‭ ‬قسوت‭ ‬فلي‭ ‬شفيع‭”.‬

والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬مزج‭ ‬شعره‭ ‬بثقافته‭ ‬الإنجليزية‭ ‬متأثرا‭ ‬بالشاعر‭ ‬إليوت‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ ‬الشهيرة‭ “‬أزهار‭ ‬وأساطير‭” ‬لتظهر‭ ‬محاولاته‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬الشكل‭ ‬الجديد‭ ‬للشعر‭ ‬العربي‭.‬

وفي‭ ‬بداية‭ ‬الخمسينيات‭ ‬كرس‭ ‬الشاعر‭ ‬العراقي‭ ‬كل‭ ‬شعره‭ ‬لهذا‭ ‬النمط‭ ‬الجديد‭ ‬واتخذ‭ ‬المطولات‭ ‬الشعرية‭ ‬وسيلة‭ ‬للكتابة،‭ ‬وفيها‭ ‬تلتقي‭ ‬القضايا‭ ‬الاجتماعية‭ ‬بالشعر‭ ‬الذاتي‭.‬

وعن‭ ‬أبرز‭ ‬الأعمال‭ ‬الشعرية‭ ‬التي‭ ‬تركها‭ ‬السياب‭ ‬رغم‭ ‬رحيله‭ ‬المبكر،‭ ‬مجموعة‭ ‬دواوين‭ ‬منها‭: ‬أزهار‭ ‬ذابلة،‭ ‬أساطير،‭ ‬حفار‭ ‬القبور،‭ ‬المومس‭ ‬العمياء،‭ ‬الأسلحة‭ ‬والأطفال‭. ‬يقول‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ ‬الأشهر‭ “‬أنشودة‭ ‬المطر‭”:‬

‭”‬مطر‭ ‬مطر‭ ‬مطر‭..‬

وفي‭ ‬العراق‭ ‬جوع‭..‬

ما‭ ‬مر‭ ‬عام‭ ‬والعراق‭ ‬ليس‭ ‬فيه‭ ‬جوع‭..‬

وتنثر‭ ‬الغلال‭ ‬فيه‭ ‬موسم‭ ‬الحصاد‭..‬

لتشبع‭ ‬الغربان‭ ‬والجراد‭”.‬

ويرى‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬أنه‭ ‬تجربة‭ ‬فريدة‭ ‬من‭ ‬اندماج‭ ‬الشاعر‭ ‬بشكل‭ ‬ساحر‭ ‬مع‭ ‬التجربة‭ ‬الحياتية،‭ ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬مواضيع‭ ‬أشعاره‭ ‬تبدو‭ ‬محلية،‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬ينطلق‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬عالمي،‭ ‬نتيجة‭ ‬ثقافته‭ ‬العالية‭ ‬وحساسيته‭ ‬الشخصية‭ ‬التي‭ ‬يتأثر‭ ‬بها،‭ ‬منفعلا‭ ‬ومحولا‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬فن‭ ‬شعري‭ ‬مميز‭.‬

وتعددت‭ ‬مقاصد‭ ‬السياب‭ ‬الشعرية،‭ ‬حيث‭ ‬خرج‭ ‬عن‭ ‬بداياته‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬عن‭ ‬الحب‭ ‬وأصبح‭ ‬يرى‭ ‬الواقع‭ ‬العراقي‭ ‬بوضوح‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الرافدين‭ ‬عندما‭ ‬ضيقت‭ ‬دائرة‭ ‬الحرية،‭ ‬وصار‭ ‬المواطن‭ ‬ملاحقا‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الاستعمار‭ ‬والموالين‭ ‬له،‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ “‬المومس‭ ‬العمياء‭”.‬

‭”‬الليل‭ ‬يطْبق‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬فتشربه‭ ‬المدينهْ

والعابرون،‭ ‬إلى‭ ‬القرارة‭ ‬مثل‭ ‬أغنيةٍ‭ ‬حزينهْ

وتفتحت،‭ ‬كأزاهر‭ ‬الدفلى،‭ ‬مصابيح‭ ‬الطريق

كعيون‭ “‬ميدوزا‭”‬،‭ ‬تحجر‭ ‬كل‭ ‬قلب‭ ‬بالضغينهْ

وكأنها‭ ‬نذرٌ‭ ‬تبشر‭ ‬أهل‭ “‬بابل‭” ‬بالحريق

•••

من‭ ‬أي‭ ‬غاب‭ ‬جاء‭ ‬هذا‭ ‬الليل؟‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬الكهوف

من‭ ‬أي‭ ‬وجر‭ ‬للذئاب؟

من‭ ‬أي‭ ‬عش‭ ‬في‭ ‬المقابر‭ ‬دف‭ ‬أسفع‭ ‬كالغراب؟

‭”‬قابيل‭” ‬أخف‭ ‬دم‭ ‬الجريمة‭ ‬بالأزاهر‭ ‬والشفوف

وبما‭ ‬تشاء‭ ‬من‭ ‬العطور‭ ‬أو‭ ‬ابتسامات‭ ‬النساء

ومن‭ ‬المتاجر‭ ‬والمقاهي‭ ‬وهي‭ ‬تنبض‭ ‬بالضياء‭!‬

عمياء‭ ‬كالخفاش‭ ‬في‭ ‬وضح‭ ‬النهار،‭ ‬هي‭ ‬المدينهْ

والليل‭ ‬زاد‭ ‬لها‭ ‬عماها

والعابرون

الأضلع‭ ‬المتقوسات‭ ‬على‭ ‬المخاوف‭ ‬والظنون

والأعين‭ ‬التعبى‭ ‬تفتش‭ ‬عن‭ ‬خيالٍ‭ ‬في‭ ‬سواها

وتعد‭ ‬آنية‭ ‬تلأْلأ‭ ‬في‭ ‬حوانيت‭ ‬الخمور

موتى‭ ‬تخاف‭ ‬من‭ ‬النشور

قالوا‭: ‬سنهرب،‭ ‬ثم‭ ‬لاذوا‭ ‬بالقبور‭ ‬من‭ ‬القبور‭!”.‬

ثم‭ ‬انتقل‭ ‬السياب‭ ‬إلى‭ ‬الأسطورة،‭ ‬واستثمرها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تمرير‭ ‬رسائل‭ ‬سياسية‭ ‬واجتماعية‭ ‬وإنسانية،‭ ‬لكنه‭ ‬دفع‭ ‬ثمنها‭ ‬كثيرا‭ ‬فلوحق‭ ‬وفصل‭ ‬من‭ ‬وظيفته‭ ‬بسبب‭ ‬مواقفه‭ ‬السياسية‭.‬

بعض‭ ‬الأدباء‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬سيرتهم‭ ‬أهمية‭ ‬أو‭ ‬جمالا‭ ‬عن‭ ‬أدبهم،‭ ‬وهكذا‭ ‬كان‭ ‬الشاعر‭ ‬العراقي‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬البياتي‭ (‬1926-‭ ‬1999‭) ‬والذي‭ ‬وقف‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬شعره‭ ‬الإنساني‭ ‬ضد‭ ‬الاستغلال‭ ‬والتمييز‭ ‬العرقي‭ ‬والطائفي،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬محبا‭ ‬للبسطاء،‭ ‬مخلصا‭ ‬للفقراء،‭ ‬ومؤمنا‭ ‬بأن‭ ‬الشاعر‭ ‬لا‭ ‬وطن‭ ‬له‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬وطنه‭ ‬العالم‭ ‬كله،‭ ‬حيث‭ ‬يقول‭:‬

‭”‬حبي‭ ‬أكبر‭ ‬مني،

من‭ ‬هذا‭ ‬العالم

فالعشاق‭ ‬الفقراء

نصبوني‭ ‬ملكا‭ ‬للرؤيا

وإماما‭ ‬للغربة‭ ‬والمنفى‭”.‬

إن‭ ‬البياتي‭ ‬الذي‭ ‬غلب‭ ‬عليه‭ ‬طابع‭ ‬الترحال‭ ‬والهجرة‭ ‬القسرية،‭ ‬ينطبق‭ ‬عليه‭ ‬قول‭ ‬التوحيدي‭ ‬إنه‭ ‬أغرب‭ ‬الغرباء،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يتحدث‭ ‬دائما‭ ‬بوجع‭ ‬المنفى‭ ‬والمنافي،‭ ‬وجرح‭ ‬الغاضب‭ ‬وتفاؤل‭ ‬الثائر‭.‬

عاش‭ ‬متنقلا‭ ‬بين‭ ‬أقطار‭ ‬الدنيا‭ ‬وعواصمها‭ ‬من‭ ‬بغداد‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬مرورا‭ ‬بمدريد‭ ‬وموسكو‭ ‬إلى‭ ‬بيروت‭ ‬ومحطته‭ ‬الأخيرة‭ ‬دمشق،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ “‬المنفى‭ ‬الكامل‭”.‬

ولعل‭ ‬غزارة‭ ‬إنتاجه‭ ‬الشعري‭ ‬إبان‭ ‬فترة‭ ‬الاحتلال‭ ‬البريطاني‭ ‬للعراق‭ ‬حيث‭ ‬أصدر‭ ‬البياتي‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المجموعات‭ ‬الشعرية،‭ ‬وهي‭ ‬تباعا‭  ‬ملائكة‭ ‬وشياطين‭ (‬1950‭) ‬وعيون‭ ‬الكلاب‭ ‬الميتة‭ ‬وأباريق‭ ‬مهشمة‭ (‬1954‭) ‬وقصائد‭ (‬1965‭) ‬والمجد‭ ‬للأطفال‭ ‬والزيتون‭ (‬1956‭) ‬والكتابة‭ ‬على‭ ‬الطين‭ ‬وأشعار‭ ‬في‭ ‬المنفى‭ (‬1957‭). ‬هذه‭ ‬الأعمال‭ ‬تترجم‭ ‬شعور‭ ‬البياتي‭ ‬بما‭ ‬يكابده‭ ‬أبناء‭ ‬جلدته‭ ‬من‭ ‬معاناة‭ ‬وقهر‭ ‬وظلم‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬المواطن‭ ‬العراقي‭ ‬مجرد‭ ‬عبد‭ ‬تحت‭ ‬سلطة‭ ‬الاستعمار‭ ‬الذي‭ ‬أوغل‭ ‬في‭ ‬الاستغلال‭ ‬والتجويع‭ ‬غايته‭ ‬تركيع‭ ‬الهمم‭ ‬التي‭ ‬رفضها‭ ‬وقاومها‭ ‬بشدة‭.‬

واصطدم‭ ‬البياتي‭ ‬بحقائق‭ ‬الواقع‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬رومانسيا‭ ‬حالما،‭ ‬فاستولى‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬السأم‭ ‬وبدأ‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬قوالب‭ ‬جديدة‭. ‬واتخذ‭ ‬الشعر‭ ‬الحر‭ ‬أسلوبا‭ ‬جديدا‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬قسوة‭ ‬الحياة‭ ‬وعما‭ ‬يعتلج‭ ‬في‭ ‬صدره‭ ‬من‭ ‬أشجان،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬رواد‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬الحديث‭. ‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬ظهرت‭ ‬قصائد‭ ‬ديوان‭ “‬أباريق‭ ‬مهشمة‭” ‬سنة‭ ‬1950،‭ ‬حيث‭ ‬لاقت‭ ‬صدى‭ ‬ترحيبيا‭ ‬واسعا‭ ‬لدى‭ ‬نقاد‭ ‬الموجة‭ ‬الحداثية‭ ‬آنذاك‭. ‬واعتبره‭ ‬بعضهم‭ ‬منعطفا‭ ‬شعريا،‭ ‬وولادة‭ ‬جديدة،‭ ‬وربما‭ ‬لأسباب‭ ‬سياسية‭ ‬أكثر‭ ‬منها‭ ‬فنية،‭ ‬وقد‭ ‬كتبت‭ “‬أباريق‭ ‬مهشمة‭” ‬في‭ ‬جو‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬السجن‭ ‬أو‭ ‬المنفى،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬معلما‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬بمدينة‭ ‬الرمادي‭ ‬على‭ ‬أطراف‭ ‬الصحراء‭ ‬والتي‭ ‬كان‭ ‬ينفى‭ ‬إليها‭ ‬السياسيون‭.‬

ويصف‭ ‬البياتي‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬بقوله‭: “‬هناك‭ ‬عانيت‭ ‬نفس‭ ‬محنة‭ ‬هؤلاء‭ ‬وعشت‭ ‬مناخهم،‭ ‬وقد‭ ‬أطلق‭ ‬عليها‭ ‬الكاتب‭ ‬العراقي‭ ‬غائب‭ ‬طعمة‭ ‬فرمان‭ (‬المنفى‭ ‬الكبير‭ ‬أو‭ ‬السجن‭ ‬الكبير‭):‬

‭”‬سأكون‭! ‬لا‭ ‬جدوى،‭ ‬سأبقى‭ ‬دائما‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬مكان

لا‭ ‬وجه‭ ‬لا‭ ‬تاريخ‭ ‬لي،‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬مكان

الضوء‭ ‬يصدمني‭ ‬وضوضاء‭ ‬المدينة‭ ‬من‭ ‬بعيد

نفس‭ ‬الحياة،‭ ‬يعيد‭ ‬رصف‭ ‬طريقها‭ ‬سأم‭ ‬جديد

أقوى‭ ‬من‭ ‬الموت‭ ‬العنيد

وأسير‭ ‬لا‭ ‬ألوي‭ ‬على‭ ‬شيء،‭ ‬وآلاف‭ ‬السنين

لا‭ ‬شيء‭ ‬ينتظر‭ ‬المسافر‭ ‬غير‭ ‬حاضره‭ ‬الحزين‭”.‬

ويصف‭ ‬الكاتب‭ ‬المصري‭ ‬مجاهد‭ ‬عبدالمنعم‭ ‬مجاهد‭ -‬في‭ ‬مقال‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬الثقافة‭ ‬الوطنية‭ ‬التي‭ ‬تصدر‭ ‬من‭ ‬بيروت‭- ‬حيث‭ ‬ورد‭ ‬فيها‭ “‬البياتي‭ ‬أحد‭ ‬الأبطال‭ ‬الذين‭ ‬صنعهم‭ ‬التاريخ‭ ‬ولو‭ ‬لم‭ ‬يولد‭ ‬لكان‭ ‬على‭ ‬التاريخ‭ ‬أن‭ ‬ينجب‭ ‬بياتيا‭” ‬ويتابع‭: “‬كان‭ ‬على‭ ‬التاريخ‭ ‬أن‭ ‬يوجد‭ ‬شاعرا‭ ‬يصور‭ ‬لنا‭ ‬ليل‭ ‬بغداد‭ ‬الكئيب‭ ‬ويصور‭ ‬بيوتها‭ ‬منفوخة‭ ‬البطون‭”.‬

ويعد‭ ‬الشاعر‭ ‬العراقي‭ ‬معروف‭ ‬الرصافي‭ (‬1845-1945‭)‬،‭ ‬من‭ ‬أشهر‭ ‬الشعراء‭ ‬الذين‭ ‬عرفوا‭ ‬بمواقفه‭ ‬الثورية،‭ ‬ووصفه‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬بأنه‭ ‬ذو‭ ‬حس‭ ‬عروبي،‭ ‬وله‭ ‬مآثر‭ ‬في‭ ‬ذلك؛‭ ‬في‭ ‬شعره‭ ‬ومواقفه‭ ‬السياسية،‭ ‬يقول‭:‬

‭”‬متى‭ ‬تطلق‭ ‬الأيام‭ ‬حرية‭ ‬الفكر

فينشط‭ ‬فيها‭ ‬العقل‭ ‬من‭ ‬عقله‭ ‬الأسر

ويصدع‭ ‬كل‭ ‬بالحقيقة‭ ‬ناطقاً

ويترك‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يدر‭ ‬منها‭ ‬لمن‭ ‬يدري

أرانا‭ ‬إذا‭ ‬رمنا‭ ‬بيان‭ ‬حقيقة

عزينا‭ ‬معاذ‭ ‬الله‭ ‬فيها‭ ‬للكفر

جهلنا‭ ‬أشد‭ ‬الجهل‭ ‬آخر‭ ‬عمرنا

كما‭ ‬قد‭ ‬جهلنا‭ ‬قبله‭ ‬أول‭ ‬العمر‭”.‬

لقد‭ ‬شارك‭ ‬الرصافي‭ ‬في‭ ‬قضايا‭ ‬أمته‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬ودعا‭ ‬إلى‭ ‬بناء‭ ‬المدارس‭ ‬ونشر‭ ‬العلم،‭ ‬والتي‭ ‬ينبغي‭ ‬لطالب‭ ‬العلم‭ ‬ألا‭ ‬يكون‭ ‬طلبه‭ ‬للعلم‭ ‬لذاته‭ ‬بل‭ ‬لغايات‭ ‬اجتماعية‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ربطه‭ ‬بالعمل‭ ‬فهل‭ ‬وفي‭ ‬اللفظ‭ ‬بهذا‭ ‬المعنى؟‭ ‬لذلك‭ ‬يقول‭:‬

‭”‬ابنوا‭ ‬المدارس‭ ‬واستقصوا‭ ‬بها‭ ‬الأملا

حتى‭ ‬نطاول‭ ‬في‭ ‬بنيانها‭ ‬زحلا

جودوا‭ ‬عليها‭ ‬بما‭ ‬درت‭ ‬مكاسبكم

وقابلوا‭ ‬باحتقار‭ ‬كل‭ ‬مـن‭ ‬بخلا

لا‭ ‬تجعلوا‭ ‬العلم‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬غايتكم

‭ ‬بل‭ ‬علموا‭ ‬النشء‭ ‬علما‭ ‬ينتج‭ ‬العملا

ربوا‭ ‬البنين‭ ‬مع‭ ‬التعليم‭ ‬تربية

يمسي‭ ‬بهـا‭ ‬ناطق‭ ‬الدنيا‭ ‬به‭ ‬المثلا

فجيشوا‭ ‬جيش‭ ‬علم‭ ‬من‭ ‬شبيبتنا

عرمرما‭ ‬تضـرب‭ ‬الدنيا‭ ‬به‭ ‬المثلا

إنا‭ ‬لمن‭ ‬أمة‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬نهضتنا

بالعلم‭ ‬والسيف‭ ‬قبلا‭ ‬أنشات‭ ‬دولا‭”.‬

عندما‭ ‬احتل‭ ‬الإنجليز‭ ‬العراق‭ ‬سنة‭ ‬1920،‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬نصبوا‭ ‬فيصل‭ ‬ملكاً‭ ‬على‭ ‬البلاد‭ ‬وأصدروا‭ ‬دستورا‭ ‬وأنشئوا‭ ‬برلمانا‭ ‬مزيفين‭ ‬وأصبحت‭ ‬أمور‭ ‬البلاد‭ ‬بأيديهم‭ ‬ثار‭ ‬الشعب‭ ‬العراقي‭ ‬وثار‭ ‬الرصافي‭ ‬معهم‭ ‬حيث‭ ‬أنشد‭ ‬قصيدته‭ ‬التي‭ ‬جاء‭ ‬فيها‭:‬

‭”‬علم‭ ‬ودستور‭ ‬ومجلس‭ ‬أمة

كل‭ ‬عن‭ ‬المعنى‭ ‬الصحيح‭ ‬محرف

أسماء‭ ‬ليس‭ ‬لنا‭ ‬سوى‭ ‬ألفاظها

أما‭ ‬معانيها‭ ‬فليست‭ ‬تعرف

من‭ ‬يقرأ‭ ‬الدستور‭ ‬يعلم‭ ‬أنه

وفقا‭ ‬لصك‭ ‬الانتداب‭ ‬مصنف‭”.‬

والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬للرصافي‭ ‬مشاهد‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬والأوصاف‭ ‬والأقاصيص‭ ‬الحزينة‭ ‬التي‭ ‬تظهر‭ ‬بؤس‭ ‬وفقر‭ ‬الأمة‭ ‬ومقاومتها‭ ‬للاستبداد‭ ‬وظلم‭ ‬الأجنبي،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬آرائه‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬وانتقاد‭ ‬السلطة،‭ ‬فهو‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬الثورة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية‭ ‬ليعم‭ ‬الرخاء‭ ‬ولتنعم‭ ‬البلاد‭ ‬بالحرية‭ ‬والمساواة‭.‬

يقول‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬الفلوجة‭ ‬ومقاومتها‭ ‬للاستعمار‭ ‬ووقوف‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬الصامدة‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬البنادق‭ ‬والدبابات‭ ‬سنة‭ ‬1941‭:‬

‭”‬أيها‭ ‬المحتل‭ ‬لن‭ ‬نتناسى

بغيكم‭ ‬في‭ ‬مساكن‭ ‬الفلوجة

ذاك‭ ‬بغي‭ ‬لن‭ ‬يفيد‭ ‬انتقاماً

وهو‭ ‬مغـرٍ‭ ‬بالساكنين‭ ‬علوجه

يوم‭ ‬عاثت‭ ‬ذئاب‭ ‬آثور‭ ‬فيها

عيْثةً‭ ‬تحمل‭ ‬الشنار‭ ‬سميجه

فاستهانت‭ ‬بالمسلمين‭ ‬سفاها

واتخذتم‭ ‬من‭ ‬اليهـود‭ ‬وليجـه‭”. ‬

وتعد‭ ‬الشاعرة‭ ‬التونسية‭ ‬زبيدة‭ ‬بشير‭ (‬1938-2006‭)‬،‭ ‬والتي‭ ‬لم‭ ‬تزاول‭ ‬تعليمها‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬أو‭ ‬كلية‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬عصامية‭ ‬التكوين‭ ‬وقد‭ ‬حرص‭ ‬والدها‭ ‬عند‭ ‬صغر‭ ‬سنها‭ ‬على‭ ‬تعليمها‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭. ‬تلقت‭ ‬توجيهات‭ ‬شعرية‭ ‬من‭ ‬الشاعر‭ ‬مصطفى‭ ‬خريف‭. ‬تقول‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬في‭ ‬بدايات‭ ‬ميولاتها‭ ‬الشعرية‭ ‬وعمرها‭ ‬لم‭ ‬يتجاوز‭ ‬13‭ ‬سنة،‭ ‬واصفة‭ ‬حالة‭ ‬المجتمع‭ ‬التونسي‭ ‬آنذاك‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬الاستعمار،‭ ‬ونلمس‭ ‬فيها‭ ‬نفس‭ ‬الرفض‭ ‬والثورة‭ ‬على‭ ‬الواقع‭:‬

‭”‬عيروني‭ ‬نكرات‭ ‬الجهلوالحمق

بحزني‭ ‬وشجوني

فاتركوني‭ ‬لا‭ ‬أنا‭ ‬منكم

ولا‭ ‬فيكم‭ ‬خليق‭ ‬حنيني

لي‭ ‬ديني‭ ‬غير‭ ‬أديان

الورى‭ ‬في‭ ‬ثورتي‭ ‬أوفي‭ ‬سكوني

دينكم‭ ‬حقد‭ ‬وبغض

وأنا‭ ‬الإخلاص‭ ‬ديني‭”.‬

وزبيدة‭ ‬بشير‭ ‬هي‭ ‬أول‭ ‬امرأة‭ ‬تونسية‭ ‬تتمكن‭ ‬من‭ ‬نشر‭ ‬ديوان‭ ‬شعري‭ ‬سنة‭ ‬1968‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ “‬حنين‭”.‬

ويعد‭ ‬الشاعر‭ ‬الميداني‭ ‬بن‭ ‬صالح‭ (‬1929-2006‭)‬،‭ ‬والذي‭ ‬تخرج‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬بغداد‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬اعتنقوا‭ ‬مفهوما‭ ‬للشعر‭ ‬مبسطا‭ ‬قوامه‭ ‬الوضوح‭ ‬لغاية‭ ‬الإبلاغ‭. ‬فهجر،‭  ‬طبقا‭ ‬لذلك،‭ ‬عمود‭ ‬الشعر‭ ‬وغريب‭ ‬اللفظ‭ ‬والمعقد‭ ‬من‭ ‬المجاز،‭ ‬مفضلا‭ ‬عليها‭ ‬قصيدة‭ ‬التفعيلة‭ ‬واللفظ‭ ‬الشائع‭ ‬والصور‭ ‬اليسيرة‭ ‬الفهم‭ ‬وتفرغ‭ ‬بكليته‭ ‬لمعالجة‭ ‬قضايا‭ ‬الكادحين‭ ‬ونقل‭ ‬همومهم‭ ‬وتطلـعاتهم‭ ‬وتصوير‭ ‬نضالهم‭ ‬اليومي‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحقيق‭ ‬الازدهار‭ ‬للوطن‭ ‬والتغني‭ ‬بالقيم‭ ‬الاشتراكية‭ ‬كالتعاضد‭ ‬والتعاون‭ ‬والروح‭ ‬الغيرية‭ ‬والتضحية‭. ‬

كما‭ ‬أنه‭ ‬يعد‭ ‬من‭ ‬العلامات‭ ‬الفارقة‭ ‬في‭ ‬مسيرة‭ ‬الشعر‭ ‬التونسي‭ ‬الحديث‭ ‬إذ‭ ‬أنه‭ ‬أسس‭ ‬بشعره‭ ‬للنص‭ ‬الملتزم‭ ‬بقضايا‭ ‬العمال‭ ‬والفلاحين‭ ‬انسجاما‭ ‬مع‭ ‬قناعاته‭ ‬الفكرية‭ ‬والأيديولوجية‭. ‬والميداني‭ ‬بن‭ ‬صالح‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬ذكر‭ ‬كان‭ ‬رائدا‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬نضاله‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تأسيس‭ ‬المنظمات‭ ‬والجمعيات‭ ‬المدافعة‭ ‬عن‭ ‬الحقوق‭ ‬والحريات،‭ ‬يقول‭: ‬

‭”‬لقد‭ ‬جعنا،‭ ‬وما‭ ‬جاعوا‭ ‬كما‭ ‬جعتم‭…!‬

لقد‭ ‬جعنا‭ ‬وما‭ ‬شبعوا

وغنينا‭ ‬فما‭ ‬طربوا

وأنهكنا،‭ ‬فما‭ ‬تعبوا

ونادينا،‭ ‬فما‭ ‬سمعوا

قد‭ ‬احتجوا‭.. ‬فما‭ ‬اقتربوا‭….‬

ولا‭ ‬ذهبوا‭.. ‬ولا‭ ‬عن‭ ‬دربنا‭ ‬انسحبوا

وتعرف‭.. ‬كم‭ ‬رجوناهم‭ …‬؟

فأبلى‭ ‬الدهر‭ ‬مسراهم‭…”.‬

ويقول‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬أشهر‭ ‬قصائده‭ “‬قرط‭ ‬أمي‭” ‬والتي‭ ‬وصفت‭ ‬مظاهر‭ ‬الفقر‭ ‬والجوع‭ ‬الذي‭ ‬يعيشها‭ ‬التونسي‭ ‬زمن‭ ‬الاستعمار‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬أمه‭:‬

‭”‬ورنتْ‭ ‬لي،‭ ‬ودموع‭ ‬العين‭ ‬تجري

خذه‭ ‬يابني،

إنه‭ ‬ذخري‭ ‬الأخير

لك،‭ ‬يا‭ ‬كنزي‭ ‬الكبير

إن‭ ‬هذا‭ ‬القرط‭ ‬من‭ ‬كد‭ ‬يميني

إنه‭ ‬نور‭ ‬عيوني،‭ ‬وتجاعيد‭ ‬جبيني

كنت‭ ‬أخفيه‭ ‬على‭ ‬عين‭ ‬الزمان

من‭ ‬زمان‭ ‬رغم‭ ‬أسراب‭ ‬الجراد

رغم‭ ‬ناب‭ ‬الجوع،‭ ‬يغتال‭ ‬السواد،

واحة‭ ‬الخصب‭ ‬رماد‭!‬

ومغانيها‭ ‬حداد‭”.‬

كرست‭ ‬الحقبة‭ ‬الإحيائية،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬سمي‭ ‬بعصر‭ ‬النهضة‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬أسماء‭ ‬شعرية‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬دورها‭ ‬الوطني‭ ‬الفاعل‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬الوعي‭ ‬النضالي‭ ‬ضد‭ ‬سياسة‭ ‬القمع،‭ ‬وسلب‭ ‬الحريات،‭ ‬وربط‭ ‬العراق‭ ‬بعجلة‭ ‬المحتل‭ ‬الأجنبي،‭ ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬الصورة‭ ‬قد‭ ‬غشيتها‭ ‬العتمة‭ ‬إبان‭ ‬الحكم‭ ‬العثماني،‭ ‬فإنها‭ ‬وضحت‭ ‬تماماً‭ ‬إبان‭ ‬التصدي‭ ‬للإنجليز‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬جل‭ ‬الأسماء‭ ‬الشعرية‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬بيئات‭ ‬دينية،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬على‭ ‬وعيٍ‭ ‬تامٍ‭ ‬بما‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬الدهاليز‭ ‬المظلمة‭ ‬لقوى‭ ‬الشر‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬بريطانيا‭ ‬العظمى‭ ‬ممثلةً‭ ‬له‭ ‬آنذاك،‭ ‬فكان‭ ‬لابد‭ ‬للشعر‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يتمترس‭ ‬مع‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬خندق‭ ‬واحد‭.‬

وتبقى‭ ‬التجربة‭ ‬الشعرية‭ ‬التي‭ ‬خاضها‭ ‬أعلام‭ ‬الشعر‭ ‬التونسي‭ ‬والعراقي‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬العشرينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬وحتى‭ ‬نيل‭ ‬الاستقلال‭ ‬من‭ ‬العلامات‭ ‬الفارقة‭ ‬التي‭ ‬ميزت‭ ‬المشهد‭ ‬الشعري‭ ‬العربي،‭ ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬تطورات‭ ‬ومنعرجات‭ ‬مست‭ ‬الأغراض‭ ‬والأشكال،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬صرخات‭ ‬الشعراء‭ ‬في‭ ‬البلدين‭ ‬المذكورين‭ ‬كانت‭ ‬قوية‭ ‬وأـحدثت‭ ‬خلخلة‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬المستعمر‭ ‬لما‭ ‬تميزت‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬متانة‭ ‬في‭ ‬المعنى‭ ‬ورصانة‭ ‬في‭ ‬القول،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬أثر‭ ‬في‭ ‬الشعوب‭ ‬التي‭ ‬توحدت‭ ‬مع‭ ‬هؤلاء،‭ ‬لينطلق‭ ‬المسار‭ ‬التحريري،‭ ‬فكان‭ ‬القول‭ ‬متحدا‭ ‬مع‭ ‬الفعل‭ ‬المقاوم‭ ‬لتحقيق‭ ‬الانتصار‭ ‬على‭ ‬الأوضاع‭ ‬المزرية‭ ‬التي‭ ‬عاشتها‭ ‬المجتمعات‭ ‬التي‭ ‬عانت‭ ‬من‭ ‬الظلم‭ ‬والقهر،‭ ‬والقتل‭ ‬والتشريد،‭ ‬هذه‭ ‬الأعمال‭ ‬للمستعمر‭ ‬ضربت‭ ‬صفوف‭ ‬المفكرين‭ ‬أولا‭ ‬لما‭ ‬يمثلونه‭ ‬من‭ ‬نبراس‭ ‬ينير‭ ‬سماء‭ ‬الظلمات‭ ‬ومنارة‭ ‬تدل‭ ‬الناس‭ ‬إلى‭ ‬الطرق‭ ‬السليمة‭ ‬والأفعال‭ ‬القويمة،‭ ‬والثورة‭ ‬على‭ ‬الطغيان‭ ‬والتضحية‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬الحرية‭ ‬والانعتاق‭ ‬من‭ ‬العبودية،‭ ‬لذا‭ ‬عمل‭ ‬المستعمر‭ ‬على‭ ‬وأد‭ ‬هذه‭ ‬الأصوات‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬حققت‭ ‬النصر‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬وتمتعت‭ ‬بلحظات‭ ‬التحرر‭ ‬ودحر‭ ‬الظلم‭ ‬والقهر‭ ‬والجبروت،‭ ‬وخرجت‭ ‬إلى‭ ‬فترة‭ ‬أخرى‭ ‬بعد‭ ‬نيل‭ ‬الاستقلال،‭ ‬ليتحول‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬إلى‭ ‬مقاصد‭ ‬وأغراض‭ ‬أخرى‭ ‬ارتبطت‭ ‬ببناء‭ ‬الدولة‭ ‬وتشجيع‭ ‬فعل‭ ‬العمل‭ ‬وشد‭ ‬الهمم‭ ‬لغاية‭ ‬التطور‭ ‬والرقي‭ ‬والرخاء،‭ ‬بعد‭ ‬عقود‭ ‬من‭ ‬الاستعمار‭ ‬وما‭ ‬عاشته‭ ‬الشعوب‭ ‬من‭ ‬أهوال‭ ‬وظلم‭ ‬وإقصاء‭ ‬وجرائم‭ ‬مازال‭ ‬العالم‭ ‬اليوم‭ ‬يتذكرها‭ ‬ولم‭ ‬يغفل‭ ‬التاريخ‭ ‬عن‭ ‬ذكرها‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Copyright © All rights reserved. | Newsphere by AF themes.