شادي زريبي: أعلام التجديد الشعري في العراق وتونس خلال العهد الملكي (1920-1958)
1 min read
شادي زريبي
لقد مر الشعر العربي في تاريخه بالعديد من المنعرجات والهزات والتغيرات حسب الزمان والمكان، وحسب المتغيرات الاجتماعية والسياسية وحتى الاقتصادية، هذه العوامل شكلت مجتمعة أشكالا جديدة للقصيدة العربية مع مضامين خرجت عن السائد والمألوف، والتي تناولها النقاد القدامى بالبحث والتمحيص.
والحقيقة أن الواقع الذي عاشته البلدان العربية مع مطلع القرن العشرين، وحتى قبل ذلك التاريخ، جعلت العديد من المفاهيم تنحو نحو التبدل بحكم واقع الاستعمار الغربي الذي عاشته والذي ساهم بقسط كبير في تفشي العديد من المظاهر القاسية، كالفقر والمرض والجوع والآفات وغيرها من العلامات القاتمة، هذه المظاهر ساهمت في ظهور أصوات شعرية نادت بضرورة التغيير ورفض هذا الواقع المفروض بقوة السلاح ومنطق الترهيب والتركيع.
وفي هذه الورقة سنحاول تسليط الضوء على الشعر الثوري بداية من العشرينات من القرن الماضي في المشرق العربي، العراق نموذجا، ومثله في المغرب العربي، تونس مثالا لذلك، وإلى حدود نيل استقلال كل من البلدين (تونس سنة 1956 والعراق سنة 1958).
ولعل الأحداث التي مرت بها المنطقة العربية في العشرية الثانية من القرن الماضي، أي بداية العشرينات كان لها الوقع الكبير في نفوس الشعراء الذين هبوا لنصرة القضايا العربية وكشف حقيقة المحتل، سلاحهم في ذلك وقع الكلمة وسلطة القول، وتأثير القصيدة في نفوس الشعوب، فبرزت القصيدة الثورية التي سنت معانيها لاستنهاض همم الشعوب، فجاءت المعاني صاخبة بروح التمرد وانثالت الكلمات برداء الثورة والرفض، هذه القصائد كانت في تلك الفترة عنوانا للثورة والبداية الفعلية لخط سير المناداة بالتحرر من نير الاستعمار، يقول الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي (1909-1934) في ديوانه “أغاني الحياة”:
”ألا أيها الظـالم المستبد حبيب الظلام عدو الحياه
سخرت بأناة شعب ضعيف وكفك مخضوبة من دماه”.
هذه الصرخة النابعة من نفس ثائرة، وهذا النفس القوي الصادر من ذات هادرة، وهذه العبارة الملخصة لفعل المستعمر، ما هي إلا صورة حقيقية عما كان يعانيه التونسي إبان فترة الاستعمار، من قتل وتجويع واضطهاد وتشريد.
كما عرف الشابي بمناهضته للاستعمار، وجاهر بذلك في العديد من قصائده التي تلونت واصطبغت باللون الأحمر، لون الدم المراق على أرض تونس، فجاء شعره فاضحا لأفعال المستعمر الماعن في الترويع والتجويع والتهجير، هذه الأفعال حذر الشابي الطغاة من الثورة الآتية، والتي ستنبع يوما من إرادة الحياة التي ستنتصر على فعل الموت المبثوث هنا وهناك، يقول في قصيدته “إرادة الحياة”:
”إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر
ولابد لليـل أن ينجــــلي ولابد للقــــيد أن ينكسر”.
ونجد أن الشاعر العربي الحديث مجبول على السياسة، لأنه مدفوع إليها بدافع غريزي، فهو لم ير حوله غير النكسات المتعاقبة منذ نهايات القرن التاسع عشر، وتوغل الاستعمار، وبزوغ كيانات سياسية اتسمت بالاستبداد وغياب الحرية، ومصادرة حق المواطنين في التعبير عن آرائهم، فكان الشعر صرخة من أجل حرية التعبير والمناداة بالديمقراطية، والنضال ضد الأنظمة الفاسدة، وتحقيق شروط الوجود الإنساني. وهذا ما يفسر لنا الدوافع النفسية التي جعلت من الشعراء يخوضون تجربة مغامرة الشعر السياسي، بالرغم من معرفتهم المطلقة بأن نشاطهم الشعري الهجائي لن يعود عليهم سوى بالسجن والنفي والمطاردة والتشريد والتصفية.
وفي هذا السياق صور الشعر العراقي في بداية القرن العشرين العذاب الذي يلاقيه الشعب جراء الاستعمار البريطاني الذي أوغل في أعمال الوحشية والعنف، يقول محمد مهدي الجواهري (1899-1997)، الملقب بشاعر العرب الأكبر في مجاهرة الطغاة وبنبرة المتحدي:
”قبل أن تبكي النبوع المضاعا
سب من جر هذه الأوضاعا
سب من شاء أن تموت وأمثا
لك هما وأن تروحـوا ضباعا
سب من شاء أن تعيش فلول
حيث أهل البلاد تقضي جياعا
خبروني بأن عيشه قومــــي
لا تســــاوي حذاءك اللماعا”.
ولأن الشعر كان، ولا يزال، ملجأ الفرد من بطش السلطة، وأداة لكسر القيود التي تفرضها عليه، نشأ الشعر السياسي الذي يعرف بأنه أحد أشكال الشعر الذي يهدف من خلاله الشاعر إلى التعبير عن رأيه السياسي فيما يجري حوله من أحداث من خلال رؤيته الخاصة التي تكشف حقيقة الواقع السياسي وتجلياته.
نشأ الشعر السياسي نتيجة سوء الأحوال الاجتماعية، وتدهور الأوضاع السياسية، وضراوة الأنظمة الحاكمة التي لا تعبأ بالفرد وهمومه وآلامه وآماله، “فحين تفسد السياسة يظهر الشعر”، في إشارة إلى العلاقة المشوبة بالتنافر والعداوة بين السياسة والشعر.
وفي هذا المسار أدركت الشاعرة نازك الملائكة (1923-2007) أن الحل الوحيد لتحرير الوطن السليب يكمن في الثورة، والتمرد، ورفع راية المقاومة عاليا، دون خوف أو وجل من المصير القادم، تقول في قصيدتها ذائعة الصيت “كوليرا”:
” سكن الليل
أصغ إلى وقْع صدى الأناتْ
في عمْق الظلمة تحت الصمت على الأمواتْ
صرخاتٌ تعلو تضطرب
حزنٌ يتدفق، يلتهب
يتعثر فيه صدى الآهاتْ
في كل فؤادٍ غليان
في الكوخ الساكن أحزان
في كل مكانٍ روحٌ تصرخ في الظلماتْ
في كل مكانٍ يبكي صوتْ
هذا ما قد مزقه الموتْ
الموت الموت الموتْ
يا حزْن النيل الصارخ مما فعل الموتْ
طلع الفجر “.
كما لفت المفكر والنقابي والسياسي التونسي الطاهر الحداد (1899-1935) الانتباه بعدد مهم من القصائد ذات النفس الإصلاحي أمضى أكثرها باسم مستعار “ضمير”.
كان شعر الحداد، بمثابة الشرارة الأولى التي اندلعت مغربا فأضاءت السماء، وشجعت مفكريه على إعلان معركة السفور، والمطالبة بإصلاح وضعية المرأة لإدماجها في الفضاء العام، بعد أن حجبت عنه لعدة قرون وقد فضح أعمال المستعمر ونادى إلى ضرورة المقاومة الفعلية ورفض الاستسلام والخنوع، يقول في قصيدته “إذا ما أردنا أن ننال الرغائبا”:
”إذا ما أردنا أن ننال الرغائبا
فليس لنا غير العلوم مطالبا
بها بدد الغرب الضلال وجيشه
وقاد بها نحو الحياة النجائبا
بها ذلل الغرب السماء لعزمه
وعمر أرجاء البحار مراكبا”.
وتميز شعر الحداد وكتاباته، بالوعي التاريخي العميق وإدراكه لتطور الحياة ولالصيرورة التاريخية، وقد ناقش خصومه انطلاقا من هذه الفكرة، يقول في قصيدته “أفديك يا وطني بالنفس والمال”:
”أفديك يا وطني بالنفس والمال
مما يسومك سوءاً فيه إذلالي
أفديك يا وطني أفديك يا سكني
بك اعتزازي وفيك اليوم آمالي
حبي إليك أراني الخطب منقبة
تزيدني شرفاً يزري بعذالي
لا عيش لي أبتغي إن لم يعش وطني
في عزة ورخاء هانئ البال
إني بخدمة أوطاني أذب على
قومي وأهلي ومجدي الشامخ العالي”.
فالحداد انتقد في معظم قصائده الانقياد للماضي لأنه كان مدركا للآلية التي تدفع الشعوب العربية للهروب من الحاضر نحو الماضي وأمجاده.
ولعل شعره كان رسالة واضحة لأولئك الذين اختاروا الرضوخ والاستكانة، فكانت عباراته كالرصاص قوة وكالسيوف حدة لاستنهاض الهمم، يقول في قصيدته “يا قومي استمعوا للنصح يبذله”:
”يا قومي استمعوا للنصح يبذله
أخ لكم همه الإخلاص للوطن
إن شئتم أن تنالوا الفوز فاتحدوا
فنحن بين نيوب الجور والوهن
ضعف نقاسيه من أمراض كبوتنا
حكم يسير بنا للهول والمحن
يا ويح قوم أضاعوا منهم شرفاً
بناه أجدادهم في سالف الزمن
يستقبلون رزايا الدهر مفعمة
سحقاً ومحقاً وعارا غير مضطعن
فذاك والله لا ظلماً جزاؤهم
قد أعقبــــته إليــــهم لذة الوسن”.
ولعل الأشعار المبثوثة هنا وهناك في نص كتاب “تونس الشهيدة” لعبد العزيز الثعالبي (1874- 1944) عملت على إحداث المفارقة بين المبادئ والسياسات، بين فرنسا الداخل وفرنسا الخارج، بين فرنسا التاريخ والثورة وفرنسا الحاضر والاستعمار، مؤكدا أن جل ما تقوم به حكومات الحماية، بداية من المقيم العام إلى أبسط موظف فرنسي، إنما شديد التناقض مع المبادئ الحداثية للعالم الحر.
وكثف الثعالبي، في كتابه، من معجمية سياسية وقانونية قل وجودها في المدونة الفكرية لتلك الحقبة على غرار الإنسانية العامة، والأخوة العالمية، والعدل والإنصاف، وهي مصطلحات مقتبسة من المعجم الحداثي أكثر منه من المعجم المحلي في فترة ما بين الحربين.
وأخذ الشاعر العراقي بدر شاكر السياب (1926-1964)، موقع الريادة بفضل تدفقه الشعري وتمكنه من جميع الأغراض، وكذلك للنفس الأسطوري الذي أدخله على الشعر العربي بإيقاظ أساطير بابل واليونان القديمة، كما صنع رموزا خاصة بشعره مثل المطر، تموز، عشتار، وقريته “جيكور” التي خلدها في شعره.
وجاءت الألوان في شعر السياب متعددة، حيث بدأ بالرومانسية وانتقل سريعا إلى الواقعية من خلال بعض مشاكل المجتمع العراقي والعربي كالفقر واضطهاد الإنسان والشعوب، مثل قصيدة “حفار القبور”، التي يقول فيها:
”ضوء الأصيل يغيم كالحلم الكئيب على القبور
واه كما ابتسم اليتامى أو كما بهتت شموع
في غيهب الذكرى يهوم ظلهن على دموع
والمدرج النائي تهب عليه أسراب الطيور
كالعاصفات السود كالأشباح في بيت قديم
برزت لترعب ساكنيه
من غرفة ظلماء فيه
وتثاءب الطلل البعيد يحدق الليل البهيم
من بابه الأعمى ومن شباكه الخرب البليد
والجو يملؤه النعيب
فتردد الصحراء في يأس واعوال رتيب
أصداءه المتلاشيات
والريح تذروهن في سأم على التل البعيد
وكأن بعض الساحرات
مدت أصابعها العجاف الشاحنات إلى السماء
تومي إلى سرب من الغربان تلويه الرياح
أخط في وحل الرصيف وقد تلطخ وقد تلطخ بالدماء”.
إلى أن يصل إلى حالة القتل والتشريد التي يعيشها العراق إبان الاحتلال الذي لم يرحم أحدا، يقول:
”وسأدفن الطفل الرمي وأطرح الأم الحزينة
بين الصخور على ثراه
ولسوف أغرز بين ثدييها أصابعي اللعينة
ويكاد يحنقها لهاثي وهي تسمع في لظاه
قلبي ووسوسة النقود نقودها واخجلتاه
أنا لست أحقر من سواي وإن قسوت فلي شفيع”.
والحقيقة أن الشاعر مزج شعره بثقافته الإنجليزية متأثرا بالشاعر إليوت في قصيدته الشهيرة “أزهار وأساطير” لتظهر محاولاته الأولى في الشكل الجديد للشعر العربي.
وفي بداية الخمسينيات كرس الشاعر العراقي كل شعره لهذا النمط الجديد واتخذ المطولات الشعرية وسيلة للكتابة، وفيها تلتقي القضايا الاجتماعية بالشعر الذاتي.
وعن أبرز الأعمال الشعرية التي تركها السياب رغم رحيله المبكر، مجموعة دواوين منها: أزهار ذابلة، أساطير، حفار القبور، المومس العمياء، الأسلحة والأطفال. يقول في قصيدته الأشهر “أنشودة المطر”:
”مطر مطر مطر..
وفي العراق جوع..
ما مر عام والعراق ليس فيه جوع..
وتنثر الغلال فيه موسم الحصاد..
لتشبع الغربان والجراد”.
ويرى العديد من النقاد أنه تجربة فريدة من اندماج الشاعر بشكل ساحر مع التجربة الحياتية، ورغم أن بعض مواضيع أشعاره تبدو محلية، لكنه كان ينطلق بها إلى ما هو عالمي، نتيجة ثقافته العالية وحساسيته الشخصية التي يتأثر بها، منفعلا ومحولا ذلك إلى فن شعري مميز.
وتعددت مقاصد السياب الشعرية، حيث خرج عن بداياته في الكتابة عن الحب وأصبح يرى الواقع العراقي بوضوح من خلال ما كان يجري في بلاد الرافدين عندما ضيقت دائرة الحرية، وصار المواطن ملاحقا من قبل الاستعمار والموالين له، يقول في قصيدته “المومس العمياء”.
”الليل يطْبق مرة أخرى، فتشربه المدينهْ
والعابرون، إلى القرارة مثل أغنيةٍ حزينهْ
وتفتحت، كأزاهر الدفلى، مصابيح الطريق
كعيون “ميدوزا”، تحجر كل قلب بالضغينهْ
وكأنها نذرٌ تبشر أهل “بابل” بالحريق
•••
من أي غاب جاء هذا الليل؟ من أي الكهوف
من أي وجر للذئاب؟
من أي عش في المقابر دف أسفع كالغراب؟
”قابيل” أخف دم الجريمة بالأزاهر والشفوف
وبما تشاء من العطور أو ابتسامات النساء
ومن المتاجر والمقاهي وهي تنبض بالضياء!
عمياء كالخفاش في وضح النهار، هي المدينهْ
والليل زاد لها عماها
والعابرون
الأضلع المتقوسات على المخاوف والظنون
والأعين التعبى تفتش عن خيالٍ في سواها
وتعد آنية تلأْلأ في حوانيت الخمور
موتى تخاف من النشور
قالوا: سنهرب، ثم لاذوا بالقبور من القبور!”.
ثم انتقل السياب إلى الأسطورة، واستثمرها من خلال تمرير رسائل سياسية واجتماعية وإنسانية، لكنه دفع ثمنها كثيرا فلوحق وفصل من وظيفته بسبب مواقفه السياسية.
بعض الأدباء لا تقل سيرتهم أهمية أو جمالا عن أدبهم، وهكذا كان الشاعر العراقي عبدالوهاب البياتي (1926- 1999) والذي وقف من خلال شعره الإنساني ضد الاستغلال والتمييز العرقي والطائفي، حيث كان محبا للبسطاء، مخلصا للفقراء، ومؤمنا بأن الشاعر لا وطن له حيث إن وطنه العالم كله، حيث يقول:
”حبي أكبر مني،
من هذا العالم
فالعشاق الفقراء
نصبوني ملكا للرؤيا
وإماما للغربة والمنفى”.
إن البياتي الذي غلب عليه طابع الترحال والهجرة القسرية، ينطبق عليه قول التوحيدي إنه أغرب الغرباء، فقد كان يتحدث دائما بوجع المنفى والمنافي، وجرح الغاضب وتفاؤل الثائر.
عاش متنقلا بين أقطار الدنيا وعواصمها من بغداد إلى القاهرة مرورا بمدريد وموسكو إلى بيروت ومحطته الأخيرة دمشق، أو ما يسميه “المنفى الكامل”.
ولعل غزارة إنتاجه الشعري إبان فترة الاحتلال البريطاني للعراق حيث أصدر البياتي العديد من المجموعات الشعرية، وهي تباعا ملائكة وشياطين (1950) وعيون الكلاب الميتة وأباريق مهشمة (1954) وقصائد (1965) والمجد للأطفال والزيتون (1956) والكتابة على الطين وأشعار في المنفى (1957). هذه الأعمال تترجم شعور البياتي بما يكابده أبناء جلدته من معاناة وقهر وظلم جعلت من المواطن العراقي مجرد عبد تحت سلطة الاستعمار الذي أوغل في الاستغلال والتجويع غايته تركيع الهمم التي رفضها وقاومها بشدة.
واصطدم البياتي بحقائق الواقع بعد أن كان رومانسيا حالما، فاستولى على نفسه السأم وبدأ يبحث عن قوالب جديدة. واتخذ الشعر الحر أسلوبا جديدا للتعبير عن قسوة الحياة وعما يعتلج في صدره من أشجان، وهو من رواد هذا الاتجاه في الشعر العربي الحديث.
وفي هذا السياق ظهرت قصائد ديوان “أباريق مهشمة” سنة 1950، حيث لاقت صدى ترحيبيا واسعا لدى نقاد الموجة الحداثية آنذاك. واعتبره بعضهم منعطفا شعريا، وولادة جديدة، وربما لأسباب سياسية أكثر منها فنية، وقد كتبت “أباريق مهشمة” في جو أقرب إلى السجن أو المنفى، حيث كان معلما في مدرسة بمدينة الرمادي على أطراف الصحراء والتي كان ينفى إليها السياسيون.
ويصف البياتي تلك الفترة بقوله: “هناك عانيت نفس محنة هؤلاء وعشت مناخهم، وقد أطلق عليها الكاتب العراقي غائب طعمة فرمان (المنفى الكبير أو السجن الكبير):
”سأكون! لا جدوى، سأبقى دائما من لا مكان
لا وجه لا تاريخ لي، من لا مكان
الضوء يصدمني وضوضاء المدينة من بعيد
نفس الحياة، يعيد رصف طريقها سأم جديد
أقوى من الموت العنيد
وأسير لا ألوي على شيء، وآلاف السنين
لا شيء ينتظر المسافر غير حاضره الحزين”.
ويصف الكاتب المصري مجاهد عبدالمنعم مجاهد -في مقال له في مجلة الثقافة الوطنية التي تصدر من بيروت- حيث ورد فيها “البياتي أحد الأبطال الذين صنعهم التاريخ ولو لم يولد لكان على التاريخ أن ينجب بياتيا” ويتابع: “كان على التاريخ أن يوجد شاعرا يصور لنا ليل بغداد الكئيب ويصور بيوتها منفوخة البطون”.
ويعد الشاعر العراقي معروف الرصافي (1845-1945)، من أشهر الشعراء الذين عرفوا بمواقفه الثورية، ووصفه الكثير من الباحثين بأنه ذو حس عروبي، وله مآثر في ذلك؛ في شعره ومواقفه السياسية، يقول:
”متى تطلق الأيام حرية الفكر
فينشط فيها العقل من عقله الأسر
ويصدع كل بالحقيقة ناطقاً
ويترك ما لم يدر منها لمن يدري
أرانا إذا رمنا بيان حقيقة
عزينا معاذ الله فيها للكفر
جهلنا أشد الجهل آخر عمرنا
كما قد جهلنا قبله أول العمر”.
لقد شارك الرصافي في قضايا أمته السياسية والاجتماعية، ودعا إلى بناء المدارس ونشر العلم، والتي ينبغي لطالب العلم ألا يكون طلبه للعلم لذاته بل لغايات اجتماعية وذلك من خلال ربطه بالعمل فهل وفي اللفظ بهذا المعنى؟ لذلك يقول:
”ابنوا المدارس واستقصوا بها الأملا
حتى نطاول في بنيانها زحلا
جودوا عليها بما درت مكاسبكم
وقابلوا باحتقار كل مـن بخلا
لا تجعلوا العلم فيها كل غايتكم
بل علموا النشء علما ينتج العملا
ربوا البنين مع التعليم تربية
يمسي بهـا ناطق الدنيا به المثلا
فجيشوا جيش علم من شبيبتنا
عرمرما تضـرب الدنيا به المثلا
إنا لمن أمة في عهد نهضتنا
بالعلم والسيف قبلا أنشات دولا”.
عندما احتل الإنجليز العراق سنة 1920، سرعان ما نصبوا فيصل ملكاً على البلاد وأصدروا دستورا وأنشئوا برلمانا مزيفين وأصبحت أمور البلاد بأيديهم ثار الشعب العراقي وثار الرصافي معهم حيث أنشد قصيدته التي جاء فيها:
”علم ودستور ومجلس أمة
كل عن المعنى الصحيح محرف
أسماء ليس لنا سوى ألفاظها
أما معانيها فليست تعرف
من يقرأ الدستور يعلم أنه
وفقا لصك الانتداب مصنف”.
والحقيقة أن للرصافي مشاهد كثيرة في الحكم والأوصاف والأقاصيص الحزينة التي تظهر بؤس وفقر الأمة ومقاومتها للاستبداد وظلم الأجنبي، بالإضافة إلى آرائه في السياسة وانتقاد السلطة، فهو يدعو إلى الثورة الاجتماعية والسياسية ليعم الرخاء ولتنعم البلاد بالحرية والمساواة.
يقول في يوم الفلوجة ومقاومتها للاستعمار ووقوف هذه المدينة الصامدة في وجه البنادق والدبابات سنة 1941:
”أيها المحتل لن نتناسى
بغيكم في مساكن الفلوجة
ذاك بغي لن يفيد انتقاماً
وهو مغـرٍ بالساكنين علوجه
يوم عاثت ذئاب آثور فيها
عيْثةً تحمل الشنار سميجه
فاستهانت بالمسلمين سفاها
واتخذتم من اليهـود وليجـه”.
وتعد الشاعرة التونسية زبيدة بشير (1938-2006)، والتي لم تزاول تعليمها في مدرسة أو كلية بل كانت عصامية التكوين وقد حرص والدها عند صغر سنها على تعليمها القرآن الكريم. تلقت توجيهات شعرية من الشاعر مصطفى خريف. تقول في قصيدة في بدايات ميولاتها الشعرية وعمرها لم يتجاوز 13 سنة، واصفة حالة المجتمع التونسي آنذاك في فترة الاستعمار، ونلمس فيها نفس الرفض والثورة على الواقع:
”عيروني نكرات الجهلوالحمق
بحزني وشجوني
فاتركوني لا أنا منكم
ولا فيكم خليق حنيني
لي ديني غير أديان
الورى في ثورتي أوفي سكوني
دينكم حقد وبغض
وأنا الإخلاص ديني”.
وزبيدة بشير هي أول امرأة تونسية تتمكن من نشر ديوان شعري سنة 1968 تحت عنوان “حنين”.
ويعد الشاعر الميداني بن صالح (1929-2006)، والذي تخرج في جامعة بغداد من الذين اعتنقوا مفهوما للشعر مبسطا قوامه الوضوح لغاية الإبلاغ. فهجر، طبقا لذلك، عمود الشعر وغريب اللفظ والمعقد من المجاز، مفضلا عليها قصيدة التفعيلة واللفظ الشائع والصور اليسيرة الفهم وتفرغ بكليته لمعالجة قضايا الكادحين ونقل همومهم وتطلـعاتهم وتصوير نضالهم اليومي من أجل تحقيق الازدهار للوطن والتغني بالقيم الاشتراكية كالتعاضد والتعاون والروح الغيرية والتضحية.
كما أنه يعد من العلامات الفارقة في مسيرة الشعر التونسي الحديث إذ أنه أسس بشعره للنص الملتزم بقضايا العمال والفلاحين انسجاما مع قناعاته الفكرية والأيديولوجية. والميداني بن صالح إضافة إلى ما ذكر كان رائدا أيضا في نضاله من أجل تأسيس المنظمات والجمعيات المدافعة عن الحقوق والحريات، يقول:
”لقد جعنا، وما جاعوا كما جعتم…!
لقد جعنا وما شبعوا
وغنينا فما طربوا
وأنهكنا، فما تعبوا
ونادينا، فما سمعوا
قد احتجوا.. فما اقتربوا….
ولا ذهبوا.. ولا عن دربنا انسحبوا
وتعرف.. كم رجوناهم …؟
فأبلى الدهر مسراهم…”.
ويقول في إحدى أشهر قصائده “قرط أمي” والتي وصفت مظاهر الفقر والجوع الذي يعيشها التونسي زمن الاستعمار على لسان أمه:
”ورنتْ لي، ودموع العين تجري
خذه يابني،
إنه ذخري الأخير
لك، يا كنزي الكبير
إن هذا القرط من كد يميني
إنه نور عيوني، وتجاعيد جبيني
كنت أخفيه على عين الزمان
من زمان رغم أسراب الجراد
رغم ناب الجوع، يغتال السواد،
واحة الخصب رماد!
ومغانيها حداد”.
كرست الحقبة الإحيائية، أو ما سمي بعصر النهضة في العراق أسماء شعرية كان لها دورها الوطني الفاعل في نشر الوعي النضالي ضد سياسة القمع، وسلب الحريات، وربط العراق بعجلة المحتل الأجنبي، وإذا كانت الصورة قد غشيتها العتمة إبان الحكم العثماني، فإنها وضحت تماماً إبان التصدي للإنجليز.
وعلى الرغم من أن جل الأسماء الشعرية كانت من بيئات دينية، إلا أنها كانت على وعيٍ تامٍ بما يجري في الدهاليز المظلمة لقوى الشر التي كانت بريطانيا العظمى ممثلةً له آنذاك، فكان لابد للشعر من أن يتمترس مع الشاعر في خندق واحد.
وتبقى التجربة الشعرية التي خاضها أعلام الشعر التونسي والعراقي منذ بداية العشرينيات من القرن الماضي، وحتى نيل الاستقلال من العلامات الفارقة التي ميزت المشهد الشعري العربي، بما فيه من تطورات ومنعرجات مست الأغراض والأشكال، إلا أن صرخات الشعراء في البلدين المذكورين كانت قوية وأـحدثت خلخلة في صفوف المستعمر لما تميزت به من متانة في المعنى ورصانة في القول، الأمر الذي أثر في الشعوب التي توحدت مع هؤلاء، لينطلق المسار التحريري، فكان القول متحدا مع الفعل المقاوم لتحقيق الانتصار على الأوضاع المزرية التي عاشتها المجتمعات التي عانت من الظلم والقهر، والقتل والتشريد، هذه الأعمال للمستعمر ضربت صفوف المفكرين أولا لما يمثلونه من نبراس ينير سماء الظلمات ومنارة تدل الناس إلى الطرق السليمة والأفعال القويمة، والثورة على الطغيان والتضحية في سبيل الحرية والانعتاق من العبودية، لذا عمل المستعمر على وأد هذه الأصوات إلا أنها حققت النصر في النهاية وتمتعت بلحظات التحرر ودحر الظلم والقهر والجبروت، وخرجت إلى فترة أخرى بعد نيل الاستقلال، ليتحول الشعر العربي إلى مقاصد وأغراض أخرى ارتبطت ببناء الدولة وتشجيع فعل العمل وشد الهمم لغاية التطور والرقي والرخاء، بعد عقود من الاستعمار وما عاشته الشعوب من أهوال وظلم وإقصاء وجرائم مازال العالم اليوم يتذكرها ولم يغفل التاريخ عن ذكرها.