المقاوم من الرعيل الأول الأزهر الزيدي لـ”المصير”: الباجي قائد السبسي شخصية وطنية فذة كاملة الشروط
1 min read
تونس.. “المصير”.. خاص:
في هذا الحوار الخاص لـ”المصير” يتحدث المقاوم من الرعيل الأول الأزهر الزيدي المولود في 14جوان 1936 بالقصرين عن علاقته بالرئيس الراحل الباجي قائد السبسي وذكرياته عنه منذ أول لقاء معه يوم 3 ديسمبر 1954 في سفح جبل سمامة بالقصرين وكان عمره 18 سنة.. ويقول عنه بأنه “شخصية وطنية فذة كاملة الشروط، أعطى كل ما يستطيع من فكره ونضاله لتونس”.
* ما الذي بقي في ذاكرتك من ذكريات عن الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي الذي كانت تربطك به روابط قديمة؟
- تعود علاقتي بالمرحوم الباجي قائد السبسي الحميمية إلى سنوات الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي من أجل استقلال تونس وحريتها، وهي علاقة عمرها 65 سنة، بدأت في عام 1654 أي قبل الاستقلال.. وكانت لي معه خمس لقاءات تاريخية كانت كما يلي:
اللقاء الأول: بالباجي قائد السبسي- رحمه الله- كان ذلك يوم 03 ديسمبر 1954 بجبل سمامة بولاية القصرين، كنت أبلغ من العمر 18 سنة، وكانت جوارحي ودمائي كلها فداء تونس، كنت قد انضممت إلى مجموعة عبد الحكيم حكيم بسن 16 ونصف، يومها قدم الباجي ليتفاوض معنا على استرداد سلاح المقاومين بأمر من الزعيم الحبيب بورقيبة ولم نكن نعلم أنه تلقى الأمر من هذا الأخير من منفاه، فتوترت الأجواء فصوب عبد الحكيم بندقيته نحو المرحوم الباجي قائد السبسي الذي كاد يفقد حياته في هذه المفاوضة قائلا له: “لماذا ننزل من الجبال ونترك الكفاح وبورقيبة مازال في السجون” فتقدم عبد المجيد العزوزي قائد مجموعة المقاومين بجبل الشعانبي وقال: “إن نزولنا من الجبال وترك الكفاح هو بأمر الزعيم الحبيب بورقيبة” وذلك التدخل انتهى المشكل وتعانق الباجي مع عبد الحكيم وصارت المصالحة وتم تسليم السلاح.
في ذلك اليوم كان الباجي مصحوبا بالجنرال لافو نيابة عن الجنرال لاتور المقيم العام لفرنسا بتونس في ذلك العهد وأنا المراهق ذو الثمانية عشرة، عاشق البندقية، رأيت لأول مرة إنسانا مثقفا محاميا ينتمي إلى لجنة متكونة من فرنسيي وممثلا للحزب الدستوري التونسي، الذي انتميت إليه وأنا صغير السن.
لأول مرة كنت أراه وكانت عيناه الزرقاوان تتقدان ثقة وتشتعلان اخلاصا لتونس وأرى فيهما وهو يفاوض رغم صغر سنه حنان الأب ولن أنسى ما حييت رقرقة دموعه وهو يحضننا، كلما استلم منا السلاح ليبعث في أنفسنا الاطمئنان لأنه أحس بخوفنا وعدم طمأنينتنا، فقد كان يحاول بكل جهده أن يبعث في أنسفنا الراحة لكي نمشي وثائق الاستلام دون مناورة بعد تسليم الأسلحة.
اللقاء الثاني: كان ذلك سنة 1955 عندما قرر الحزب الحر الدستوري التونسي إسناد المقاومين بطاقة تعريف تمكنهم من الإسعاف والعلاج مجانا، فقد كانت تلك المرة الثانية التي التقيته فيها، حيث كان التونسي يكتب بخط يده أسماءنا ويسلمنا إياها باليد ولا يكتفي بذلك، بل كان يعانقنا عناق الأصدقاء، وهذه المرة كذلك رأيى الدموع ترقرق في عينيه الزرقاوين اللتين ينبعث منهما ذكاء حاد.
اللقاء الثالث: في سنة 1956 في شهر ماي، تقرر، إحداث الحرس الوطني، فكان على عاتق الطيب المهيري وزير الداخلية في ذلك الوقت والباجي قائد السبسي سالذي كان على مهمة الاتصال بالمقاومين (الفلاقة) وانتدابهم لتمكينهم من فترة تدريب بثكنة بوفيشة الفرنسية- للتخرج تحت إشراف محجوب بن علي وأحمد جبارة وهو ضابط متكون بالعراق استقدمه بورقيبة ليشرف على تدريب الدفعة الأولى للحرس الوطني التي كانت تضم 750 فردا.
تعلمت من سي الباجي الإخلاص للوطن
وفي شهر أكتوبر أصبحت تونس تملك حرسا وطنيا يحميها متكونا من خيرة رجالاتها تحت إشراف الباجي قائد السبسي والطيب المهيري ومحجوب بن علي ولن أنسى ما حييت كلمة الطيب المهيري يوم التخرج الذي توجه بها إلى 750 متخرجا لم يكونوا يفقهون شيئا قبل سنة إذا كانوا يعيشون بالجبال، خاطبنا بقوله: “إنكم ستباشرون أعمالا لم تعرفونها من قبل ولن تجدوا مرجعا من قبلكم لتستشيروه لأن من كانوا قبلكم فرنسيين وهم راحلون لذا اعتمدوا على وطنيتكم ومحبتكم للمواطن لذا اجعلوا من المواطن صديقا لكم لتنجحوا في مهامكم”.
وكانت تلك الكلمة الوصية الذهبية التي أنجحت الحرس الوطني الذي والحق يقال كانت علاقته قوية بالمواطن.
اللقاء الرابع: في سنة 1957 حيث كان الباجي متنقلا رفقة دورية متكونة من مجموعة من الحرس الوطني ووزير الخارجية خميس الحجري وكاد الباجي أن يقتل للمرة الثانية بالرصاص بعد أن فتح جنود فرنسا النار وسقط عدة جرحى، وتدخل السبسي يرفعه راية بيضاء للتفاوض مع السلطة الفرنسية وطلب إيقاف النار وسحب الجرحى والقتلى ونجا “السبسي” من موت محقق بعد أن استشهد خميس الحجري بمكان قريب بعين دراهم.
اللقاء الخامس: كان في عام 2012 بعد معاناة الشعب التونسي من وطأة الضياع بين ديمقراطية كاذبة ودكتاتورية لا تعي بمصلحة الوطن اختار الباجي أن يعيش متمتعا بعائلته وبيته وأنه ارتأى أن لا أحد سيصغي إليه خاصة بعد أن استلمت الترويكا الحكم، فبعد أن اعتلوا الكراسي كان أول كلامهم اعتداء سافرا على المقاومين إذ وصفونا بـ”العهد البائد” اتجهت إلى مكتبه وكلي غضب ولم أكن وحدي فقد اتصل بي بعض المقاومين.
عندما رأيته قلت له: “أنا ابن الثامنة عشرة، أنا ابن سمامة”، فكانت أول كلمة قالها وهو يقف ويخرج من وراء مكتبه: “هل مازالوا أحياء أولئك الرجال الصناديد”، فقلت له: “يوم استلمت السلاح كنا 14 واليوم بقينا 5، كيف تسمح للترويكا اليوم وأنت تعلم وكنت شاهدا علينا يوم نزلنا من الجبل، كيف كنا جياعا وعطاشى، كيف تسمح لأناس لم يسعوا لتونس إلا خرابا أن يصفونا بالعهد البائد؟؟؟”. فقال لي: “لا تنزعج هؤلاء أناس يريدون طمس الحقيقة ومسح التاريخ ولا يتعرفون بفترة الكفاح التحريري وبناء الدولة من عدم ولكن لن يستطيعوا لأن ما حفر بالجبال بأيادي الكبار لن يمحى بأصابع الصغار”، فقلت: “أين أنت منا، أنت لست بحاجة ربما لتونس فأنت المحامي، بينما تونس بحاجة لك وتونس اليوم تناديك، تونس تناديكم”… ولم أكن أعلم يومها أنه فعلا سيلبي النداء إذ أسس حزب “نداء تونس” بعد 3 أشهر. واستشهد بهذا الموقف وهذه الزيارة وردا على طلب المقاومين في خطابه يوم الإعلان عن تأسيس الحزب هذا الموعد الذي ذكر فيه اسم نداء تونس. فرحمة واسعة على روحك يا سيد تونس، أنت رجل من رجال تونس، أقولها اليوم أنا بورقيبي وسأموت بالفكر البورقيبي، لم يكن بورقيبة لينجح في بناء تونس لو لم يكن له رجال في فريقه كالباجي قائد السبسي الذي اعتبره مناضلا ومجاهدا ومقاوما من الرجال الأحرار.
* في رأيك ما هي العناصر التي تكون شخصية الباجي قائد السبسي؟
- الباجي قائد السبسي شخصية وطنية فذة كاملة الشروط، أعطى كل ما يستطيع من فكره ونضاله لتونس.. كان على اتصال مباشر معنا منذ أول لقاء معه يوم 3 ديسمبر 1954 في سفح جبل سمامة، ثم لما تخرجنا في أول فوج للحرس الوطني في عام 1956.. كان إنسانا غيورا وصادقا يحب تونس كثيرا.
* هل ندمتم، كمقاومين، بعدما سلمتم سلاحكم في جبل سمامة يوم 2 ديسمبر 1954؟
- لم نندم لأن روح الوطنية كانت طاغية علينا، وكنا ننتظر بفارغ صبر لحظة رحيل المستعمرين الفرنسيين عن بلادنا.
* ما الذي تعلمته من الباجي قائد السبسي؟
- تعلمت من الباجي الإخلاص للوطن والقلب الرحيم.. كان يتحدث بمحبة وعطف مع المواطن.. وكان يبجل مصلحة الوطن والمواطن قبل نفسه.
* بماذا تنصح شباب اليوم وأنت المقاوم الذي حارب ضد الاستعمار في سبيل استقلال تونس وساهم في بناء الدولة التونسية الحديثة؟
- من موقعي كمقاوم شاركت في معركة التحرير منذ أن كان عمري 18 سنة من 15 مارس 1953 إلى 3 ديسمبر 1954 ذلك اليوم الذي استقبلنا فيه سي الباجي وسلمناه السلاح، أقول للشباب: نحن كنا شبابا تركنا عائلاتنا وأرزاقنا وصعدنا إلى الجبال وقاومنا الاستعمار بأسلحة قديمة من مخلفات الحرب العالمية الثانية واستشهد الكثيرون منا مازالوا إلى الآن مدفونين في أماكن استشهادهم في الجبال، كل ذلك من أجل الوصول إلى استقلال تونس ورفع رايتها عاليا. لذا، أذكر شباب تونس وأطلب منهم العلم والعمل من أجلها، وأذكرهم بكلمة الزعيم بورقيبة عام 1958 عندما قال في الإذاعة: “علموا أبناءكم وبناتكم لأن المخ الذي ليس به علم يعتبر مثل الأرض المهملة.. يأتي يوم ونصدر العلماء إلى الدول المتقدمة”.. لذا، حافظوا على تونس بالعلم والعمل، وبذلك تعيشون سعداء في دولة حرة مستقلة”.
* كيف ترى تونس اليوم؟
- تونس اليوم تحتاج إلى رجال يضحون بالغالي والنفيس لتحقيق ستقدمها ورقيها وازدهارها ويقتدون بالرجال الذين حرروها من الاستعمار والتخلف، لأن الوطن غال أعطيناه ما استطعنا وبنينا دولة عصرية.
* علمنا أنك انتهيت من كتابة مذكراتك التي ستمل عنوان “مذكرات مقاوم” فمتى سيصدر هذا الكتاب؟
- حاليا إن ابنتي المحامية في كندا بصدد مراجعة مضمون الكتاب، وسيصدر قريبا إن شاء الله.