د. خالد شوكات: الزيارة القطرية ومرجعية محمد مزالي

د. خالد شوكات
كان الاستاذ محمد مزالي رحمه الله، الذي ترأس الحكومة من 1980 إلى 1986، أوّل من مدّ جسور التعاون والعمل المشترك مع أشقائنا في مجلس التعاون الخليجي، ومن بينهم الاشقاء في قطر والكويت والمملكة العربية السعودية والإمارات وعمان والبحرين، مقنعا قادة هذه الدول، التي نال ثلاثة من بينها الاستقلال في بداية السبعينيات، بأهمية الاستثمار في تونس، والاستعانة بالكفاءات التونسية في مشاريع العمران والتقدم لديها، وقد أسس الراحل بهذا التوجه علاقات استراتيجية أصبحت ضمن ثوابت السياسة الخارجية لدى الطرفين.
هذا التفكير الاستراتيجي الثابت نحو الأشقاء العرب، في محيطنا المغاربي مع الشقيقة ليبيا مثلا، أو في الدائرة الخليجية مع الشقيقة قطر على سبيل المثال، أثبت نجاعته باستمرار، وبصرف النظر عن تعاقب الأنظمة السياسية والقادة والزعماء، فهذه الصلة بين الاشقاء في الدوحة أو طرابلس أو سواهما، لا تحتكم لذات المعايير أو القواعد التي تنظم علاقاتنا مع بقية الشركاء.
ثمّةَ عامل خاص حاضر في هذه الصلة يصنع الاستثناء لدى قادة الدولة في قطر وفي ليبيا، إنه عامل الاخوة والشراكة في الهوية، وهو الذي يغلّب القرار السياسي على الحسابات المالية والاقتصادية المباشرة أحياناً، وهو ما أدركه منذ أربعة عقود الاستاذ محمد مزالي حينها، وجلب من خلاله استثمارات وعقود مجزية لم يكن الحساب الآلي يظهر أرباحها في ذلك الوقت، لكن الزمن أكد تحقّق هذه الأرباح لاحقا.ً
ثمّةَ هواجس ايديولوجية تحرر منها الاستاذ محمد مزالي في ذلك الوقت، وكانت له جرأة سياسية على القيام بذلك، على الرغم من صعوبة الظرف الذي أمسك فيه بزمام الوزارة، فقد كانت عروبته رحمه الله وطيّب ثراه من النوع الواقعي والعملي، الذي يتفق مع الاسس والمبادئ التي أقيمت عليها الحركة الوطنية الاصلاحية التونسية، اذ لم تكن هذه الحركة “تغريبية” مستلبة الهوية يوماً كمل يسعى البعض الى تصويرها أو يظن، وكانت تؤمن بانتماء تونس الأصيل لفضائها المغاربي وأمتها العربية الاسلامية، لكنها كانت مختلفة في رؤيتها عن الاطروحة البعثية والناصرية، من حيث توجّسها الدائم من الأنظمة العسكرية وشبه العسكرية، وتشبثها الحق باهمية المبادرة الفردية واقتصاد السوق الاجتماعي، وهو أمر نجد مشتركا له عند بعض أشقائنا في الخليج وفي مجالنا المغاربي كذلك.
الوعي بأهمية الشراكة الاستراتيجية العربية والمغاربية، الذي ورد أكثر من مرة على لسان القيادة الشابّة في الدوحة وطرابلس وفي عواصم عربية أخرى، وروح التجديد التي يجب أن تطال وسائل العمل العربي المشترك وقواعده، جميعها يجب أن تكون دوافع ومحددات لبناء سياسة خارجية تونسية جديدة قد تساعد في فتح آفاق واعدة للاقتصاد الوطني، وتلك فرصة من الفرص المحدودة التي أمامنا للإفلات من “دورة المديونية الجهنمية” واعادة إطلاق دورتنا الإنتاجية على أسس صحيحة، مع أقل قدر ممكن من الديماغوجيا والأيديولوجيا، وأكبر قدر ممكن من البرغماتية والعملية.
لقد عبر أشقاؤنا في قطر وليبيا ودول شقيقة اخرى، عن استعدادهم للدعم وتبادل المصالح وتنميتها، وما علينا فعله المضي بالشراكة الى الامام وعدم التردد والتشبث بهذه الرؤية الصائبة التي أسس لها الراحل الاستاذ محمد مزالي، فنحن بحاجة الى إيجاد مزيد من الفرص ومواطن العمل لكفاءاتنا وشبيبتنا المعطلة، كما ان نسيجنا الاقتصادي وشركاتنا الكبرى والصغرى والمتوسطة بحاجة الى شراكات فاعلة وطموحة نحو أسواق جديدة في افريقيا وآسيا، دون التخلي طبعا عن شراكاتها التقليدية.
إن رغبة البعض في تصوير تواصلنا مع الاشقاء، كنوع من التسول غايته الودائع والقروض والمساعدات، مغالطة كبرى مسيئة لبلادنا وسيرتها السابقة ومواردها الواعدة التي تتوفر عليها، وان الشراكة مع قطر أو ليبيا أو سواهما من الدول العربية الغنية بمواردها النفطية، مطمح الدول العظمى، أفليس من باب أولى أن تكون لنا المبادرة في التخطيط والأولوية في التنفيذ في مثل هذه التوجهات الكبرى والاستراتيجية الأخوية.
إن تحليل الخطاب لدى القيادة القطرية الشابّة او لدى القيادة الليبية الجديدة، يبيِّن مدى تخلّص هذه القيادة من الهواجس الأيديولوجية والقوالب المتهافتة والاحكام المسبقة الظالمة، وقدرات بيِّنة في التكيّف مع المتغيرات الاقليمية والدولية، وقد كان الاولى أن نتسلح نحن بهذه المواصفات التي تتيحها لنا الديمقراطية، ولكننا للاسف حوّلنا الفرصة الى ارتهان للعقل الايديولوجي الذي استغل الحرية المتاحة أكثر مما استغلها العقل العملي والواقعي الكامن فينا، ومن هنا وجب الاستدراك، اذ علينا ان لا نقلب نقاط القوة التي عندنا الى نقاط ضعف، وان لا نهمش تراث الجسور لصالح تراث القبور، وأن لا نحوّل الاشقاء الذي لا ماضي استعماري أو طموح إمبريالي لهم الى خصوم واعداء.