د.خالد شوكات: الديمقراطية وإدارة المجتمعات المنقسمة!

د.خالد شوكات
تتظاهر عبير موسى وأنصارها أمام مقر اداري في حي مونبليزير وسط العاصمة، تنسبه الى اتحاد علماء المسلمين الذي يتزعمه منذ إنشائه الداعية المصري الشيخ يوسف القرضاوي، ومن لم يكن له علم بوجود فرع لهذا الاتحاد فسيعلم حتما هذه الأيام، وان كان لهذا الاتحاد فائدة فستكون حتما مساعدة السيدة عبير على تعزيز دورها ومعركتها التي تحتاج عدوا واحدا أوحدا ألا وهو الاخوان المسلمون، فالصراعات يجب ان تكون ثنائية اولا تكون، بين الابيض والاسود والحق والباطل والوطني والخائن، والتونسيون مخيرون بين خيارين لا اكثر، وان لم تكن معي فانت ضدي.
منذ الثورة والى اليوم، تتشبث النخب التونسية بهذه المقاربة، اي بالصراع الثنائي الراديكالي، بين الثورة والثورة المضادة، وبين الحداثيين والظلاميين، وبين الدساترة والإسلاميين، وما تفتأ مشاريع هذا الصراع الثنائي ان تهدأ حتى تظهر دعوة ثم نسخة جديدة منها، وعندما يطلب احدهم النصيحة من خبراء الاتصال السياسي لا يقدمون له غالبا الا ارشادات من هذا القبيل، ان يجد له شعارا يقسم المواطنين الى معسكرين، فمكافحة الفساد مثلا تجعل التونسيين صنفين فاسدين ونزهاء، والانحياز لاهداف الثورة يحيي الخلاف والشقّة بين الثوّار والأزلام، والدعوة الى احياء الدولة المهابة التي ترعب النّاس وتَحرّمُ النعاس على الجفون الساهرة تقتضي ان يصطف التونسيون الى صفّين “دساترة” هم سبب النماء و”اخوانجية” هم أصل الخراب والفناء، فالدنيا كما أشير سلفا لا تطيق النسبية ولا تحتمل الا اصحاب الحقائق المطلقة ودعاة الصراعات الساحقة الماحقة، ومفادها ان نصف الشعب عليه ان ينقرض حتى يحيى النصف الاخر.
المشكلة أنه حتى تلك المجتمعات التي كانت ترمز الى القدوة على ادارة الاختلاف والتنوع لم تعد كذلك، فالشعبوية تهدد حتى اكثر البلدان تقدّماً واكثر الشعوب حداثة، وها ان الجميع يتابع ما يحدث في الولايات المتحدة الامريكية حيث بلغ الصدام بين المعسكرين الديمقراطي والجمهوري حد التلويح بعدم تسليم السلطة والتداول عليها مع من فاز بالانتخابات سلميا، ذلك ان الانقسام بين الأمريكيين تحول الى شرخ قد يصعب على المؤسسات رأبه بسهولة، ولعل الاصلاح ان امكن سيتطلب سنوات طويلة، وهو الحال الذي نشهده في دول غربية كثيرة اخرى، فضلا عما نشاهد في امريكا اللاتينية حيث تنقسم المجتمعات منذ عقود الى شقين متحاربين مرة بالاسلحة ومرة من خلال صناديق الاقتراع.
ولا يختلف الامر في بلدان عربية كثيرة، ففي ليبيا المجاورة يتقاتل الشرق والغرب، وفي اليمن يتحارب الشمال والجنوب، وفي سوريا تواجه روسيا وحلفاؤها الولايات المتحدة وشركائها، وفي العراق ما يزال الشيعة والسنة والعرب والكرد والإسلاميون والعلمانيون في خصام مفتوح منذ سقوط نظام صدام، وفي السودان ما تزال المواجهة مفتوحة بين الدولة المدنية والدولة العلمانية، وهكذا تتعمق الانقسامات المجتمعية وتبدو مشاريع الديمقراطية مترددة وحائرة في امرها، ولربما عاجزة.
ليس بمقدور الديمقراطية ان تقوم بوظيفتها السامية في سياق مجتمعات منقسمة على هذه الشاكلة، وَمِمَّا قلّص من هامش الحلّ والحركة تدهور المرجعيات الفكرية والأخلاقية وغياب الزعامات القادرة على توحيد شعوبها وأممها، جراء تنامي الاثار السلبية لوسائل الاعلام ووسائط الاتصال التي شجعت الجمهور على ترذيل المرجعيات والنيل منها حتى كادت ان تفقد دورها على التوجيه والقيادة، في مناخ عام سيطرت عليه الإثارة. هذا الى تراجع دور الفكر والمفكرين، واستسلام الرأي العام في غالبيته الى نظام التفاهة والرداءة.
إن الانقسامات المجتمعية الثنائية تنذر بعجز الديمقراطية، ان لم تنجح المبادرات الجدية، خصوصا في الديمقراطيات العريقة، في وقف النزيف واعادة قدر من اللحمة لمجتمعاتها، وهو ما ظهر ممكناً نسبيا ان رحل ترامب ومعه سائر رموز الشعبوية الذين كادوا يدمرون مسارات العمل الانساني المشترك على الصعيدين الوطني والدولي، في مخالفة فجّة لاستحقاقات القرن الحادي والعشرين المستوجبة، سواء حيال الأمن والسلام، او تجاه الديمقراطية والتنمية.