29 ديسمبر 2024

د. خالد شوكات: قطر التي أجبرت “المونديال” على الحديث بالعربية؟


د. خالد شوكات

لأوّل مرة سيكون فيها كأس العالم لكرة القدم، أو المونديال، مجبرا على الحديث باللغة العربية، والفضل يعود بلا شك إلى “قطر” هذه الدولة العربية الصغيرة، في أقصى المشرق العربي، التي منحت لنفسها دورا عالميا، كان مقدّمة لتحقيق شيء فريد من نوعه، في تاريخ هذه المسابقة الرياضية الأهم، التي تنتظرها البشرية بشغف كل أربع سنوات، وظلّت حكرا على الأمم الكبيرة تقريبا، حتى كسر القطريون القاعدة، وحققوا ما عجزت عنه دول عربية أكبر، حاولت استضافة المونديال ودخلت سباق الفيفا الخاص بذلك، لكنّها خسرت الرهان للأسف الشديد..
إذا قمنا بتحكيم المحدّدات الفاسدة لدى العقل العربي، فسنصل إلى أحكام فاسدة على الأمر بالضرورة، حيث لا ينبّأ نبيّ في قومه وحيث يكون الشقيق أكثر النّاس حسدا لشقيقه، ولكنّنا إذا حكّمنا العقل السليم والسويّ والرياضي، فإن علينا أن نفخر بهذا النجاح القطري، الذي هو نجاح عربي وإسلامي، إذ لأوّل مرّة تستضيف دولة عربية مسلمة حدثا عالميا بهذا الحجم، وعندما ستنقل شاشات العالم بأسره من اليابان إلى الهونولولو وقائع الكأس والمباريات لمدّة شهر، فسيقول النّاس على اختلاف بلدانهم وشعوبهم وأديانهم وألوانهم، أن المونديال ينظّم في دولة عربية، وفي أجواء عربية، بل شديدة الاعتزاز بتراثها وعقيدتها ولغتها، ويبدو ذلك واضحا في جميع البنى التحتية والسياحية واللوجستية، كما يبدو في قنوات “البيين سبور” التي فرضت نفسها كأحد أهم مؤسسات الإعلام الرياضي على الصعيد الدولي، تماما كما فرضت الجزيرة من قبلها نفسها على الإعلام العالمي..
لماذا قطر وليست دولة عربية أخرى؟ وتلك من المعضلات التي تؤرق بعض العرب، أكثر مما تؤرق غيرهم، أن قطر تعاملت بقدر كبير من الثقة والواقعية مع مسألة الحضارة والتقدّم والنماء، فلم يصبها غرور النفط كما أصاب كثيرا من الدول العربية النفطية، ولم تحوّل حجمها وتاريخها الذي يظهر بسيطا قياسا الى حال بلاد عربية أخرى، عقدة نفسية تحكم عليها بالهامشية، بل لعلّها حوّلت هذا الأمر بالتحديد إلى نقطة قوّة فرضها في نهاية الأمر كلاعب دولي على الجميع، ومن ذلك كيفية تعاملها مع الثروة، قياسا لدول عربية واسلامية، وحتّى غير عربية وغير إسلامية، تمتلك ثروة تضاهي الثروة القطرية إن لم تتفوق عليها، ولكن المال عنصر في المعادلة وليس كل المعادلة..
لقد أدركت قطر قبل غيرها ربما أهمّية “الإعلام” في عصر الإعلام، فكان استثمارها في “الجزيرة” استثمارا مجزيا، حيث تحوَلت قطر بالجزيرة إلى فاعل دولي شديد القوة، تماما كما قامت قطر بتثمين موقعها “الجغرافي” للعب دور في قضايا المنطقة الأكثر أهمية، وعلى هذا النحو بدا الدور القطري في أكثر من قضية، دورا حاسما ومصيريا، على نحو الشأن في فلسطين ولبنان والسودان وأفغانستان، فضلا عن أزمات الطاقة المتكررة التي لا يكاد المجتمع الدولي ينهي إحداها حتى تتفجّر أخرى..
وتعدّ السياسة الخارجية القطرية نموذجا في الجمع بين الواقعية والطموح في آن، فعلى الصعيد الاقليمي تمكنت هذه الدولة العربية الخليجية من أن تكون محلّ تقدير واجماع من القوى المتناقضة التي التقت عندها، فعلاقة القطريين بالايرانيين والأتراك معاً مثيرة للدهشة، ناهيك أن تجبر جوارها العربي على احترام دورها وسيادتها بعد فشل الحصار في تركيعها وتطويعها، فلم تتنازل عن جزء من سيادتها، فيما تنازل الآخرون بعد يأسهم من محاصرتها.
لقد نجحت القيادة القطرية في تحويل بلدها إلى فاعل اقليمي ودولي مهم ومحترم، ليس لأنها تمتلك الغاز والنفط والمال فقط، اذ هناك دول عديدة تماثلها في أمر كهذا، ان لم تتفوق عليها في الثروة النفطية، سواء في جوارها القريب أو البعيد، لكن لأنها وضعت لنفسها رؤية استراتيجية موفقة وبرنامج عمل قابل للتنفيذ وامتلكت الكفاءات المناسبة من أصول قطرية وعربية وأجنبية لتنفيذ كل ذلك، حيث ابتعدت عن العنتريات دون التخلّي عن تثمين الذات، وانطلقت من موروثها الحضاري العربي الاسلامي مع أخذ بأسباب العلوم والتقدّم الغربي، مثلما وفّقت بين علاقات متميزة مع القوى الدولية دون أن يكون ذلك على حساب ارتباطها بأشقائها العرب والمسلمين والدفاع عن قضايا الأمة العادلة، وهو ما جعلها محل احترام وتقدير لدى تيارات الفكر العربي الاسلامي الكبرى ومحل فخر لدى عموم العرب والمسلمين.
المونديال سيتحدث العربية لأوّل مرة في تاريخه، لأن قطر تمكّنت من جعل ذلك ممكنا، ودون عقد، وبكل حبّ وأخوة نحيّي هذا البلد العربي المسلم الصغير الكبير الذي علّمنا كيف بمقدورنا أن نلتحق بعالم “الكبار” في كرة القدم وفي الإعلام وفي التنمية المستدامة والموارد البشرية القادرة على اجتراح المعجزات..شكرا قطر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Copyright © All rights reserved. | Newsphere by AF themes.