6 يناير 2025

مقاربات حول الدولة المدنية في تونس عن الثورة التونسية وشروط قيام الدولة المدنية عربيا

1 min read

د‭. ‬توفيق‭ ‬المديني

منذ‭ ‬دخول‭ “‬ربيع‭ ‬الثورات‭ ‬العربية‭” ‬عامه‭ ‬الثاني،‭ ‬مجسداً‭ ‬بذلك‭ ‬خياراً‭ ‬جديداً،‭ ‬هو‭ ‬خيار‭ ‬ثورة‭ ‬الحرية‭ ‬والكرامة‭ ‬والقانون،‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬مثال‭ ‬ونموذج‭ ‬يَعُم‭ ‬ُالعالم‭ ‬العربي،‭ ‬ويضع‭ ‬حداً‭ ‬نهائياً‭ ‬للدولة‭ ‬التسلطية‭ ‬العربية،‭ ‬بدأ‭ ‬يتداول‭ ‬في‭ ‬الخطاب‭ ‬الفكري‭ ‬والثقافي‭ ‬والسياسي‭ ‬العربي،‭ ‬مفهوم‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭.‬

ربيع‭ ‬الثورات‭ ‬العربية‭ ‬وسؤال‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية

وفي‭ ‬تونس‭ ‬ولد‭ ‬ربيع‭ ‬الثورات‭ ‬العربية‭ ‬هذا،‭ ‬ومنها‭ ‬أصبح‭ ‬يؤسس‭ ‬لتاريخ‭ ‬طريق‭ ‬بناء‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬بوصفها‭ ‬مهمة‭ ‬صعبة‭ ‬وشائكة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬الذي‭ ‬يفتقر‭ ‬للخبرة‭ ‬والثقافة‭ ‬الديمقراطيتين‭.. ‬وبما‭ ‬أن‭ ‬حركات‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬فازت‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬انتخابات‭ ‬ديمقراطية‭ ‬جرت‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬بلد‭ ‬عربي،‭ ‬فقد‭ ‬برز‭ ‬اتجاهان‭ ‬يقدمان‭ ‬اجتهادات‭ ‬بشأن‭ ‬مقولة‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭.‬

الأول‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬إقامة‭ ‬هذه‭ ‬الدولة‭ ‬ممكنة،‭ ‬إذ‭ ‬باستثناء‭ ‬النص‭ ‬على‭ ‬قيمة‭ “‬الشورى‭”‬،‭ ‬فلا‭ ‬توجد‭ ‬نصوص‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬المرجعية‭ ‬الإسلامية‭ ‬تتناول‭ ‬الأمور‭ ‬السياسية‭. ‬وإزاء‭ ‬صمت‭ ‬الفقه‭ ‬الإسلامي‭ ‬التقليدي‭ ‬عن‭ ‬معالجة‭ ‬نظم‭ ‬الدولة،‭ ‬فإنَ‭ ‬الباب‭ ‬ظل‭ ‬مفتوحًا‭ ‬لإقامة‭ ‬دولة‭ ‬إسلامية‭ ‬ليبرالية‭ ‬يختار‭ ‬فيها‭ ‬المواطنون‭ ‬مؤسساتهم‭ ‬السياسية‭ ‬كما‭ ‬يريدون،‭ ‬دونما‭ ‬حاجة‭ ‬للجوء‭ ‬إلى‭ ‬فصل‭ ‬الدين‭ ‬عن‭ ‬الدولة‭.‬

أما‭ ‬النوع‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬الليبرالية‭ ‬الإسلامية،‭ ‬فإنَه‭ ‬يذهب‭ ‬في‭ ‬تبريره‭ ‬تأسيس‭ ‬مؤسسات‭ ‬سياسية‭ ‬ليبرالية‭ (‬كالبرلمان‭ ‬والانتخابات‭ ‬والحقوق‭ ‬المدنية‭) ‬بل‭ ‬وحتى‭ ‬بعض‭ ‬سياسات‭ ‬الرعاية‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تتناقض‭ ‬مع‭ ‬أي‭ ‬نصوص‭ ‬دينية،‭ ‬بل‭ ‬إنها‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تعد‭ ‬تطبيقاً‭ ‬لبعض‭ ‬المبادئ‭ ‬الإسلامية‭ ‬المنصوص‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬النصوص‭ ‬القرآنية،‭ ‬والتي‭ ‬يمكن‭ ‬استخلاصها‭ ‬أيضاً‭ ‬من‭ ‬سِيَر‭ ‬الخلفاء‭ ‬الراشدين‭.‬

ولعل‭ ‬هذه‭ ‬الاتجاهات‭ ‬المتنوعة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الليبرالية‭ ‬الإسلامية‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬بعض‭ ‬الباحثين‭ ‬المتخصصين‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬والإسلامي‭ ‬أكثر‭ ‬تفاؤلاً‭ ‬بإقامة‭ ‬هذه‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭. ‬غير‭ ‬أنَ‭ ‬حركات‭  ‬الإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬تحولاتها‭ ‬المعاصرة‭ ‬أثارت‭ ‬الخوف‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع‭ ‬التونسي‭ ‬خلال‭ ‬تجربة‭ ‬حكم‭ ‬الترويكا،‭ ‬بعدما‭ ‬اتجه‭ ‬أنصار‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬إلى‭ ‬تغيير‭ ‬نموذج‭ ‬المجتمع‭ ‬التونسي‭ ‬الليبرالي‭ ‬والمنفتح،‭ ‬وفق‭ ‬اجتهاداتهم‭ ‬المتنوعة‭.‬

لكنَ‭ ‬تجربة‭ ‬الانتقال‭ ‬الديمقراطي‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬مثلت‭ ‬تجربة‭ ‬في‭ ‬بناء‭ “‬الدولة‭ ‬المدنية‭” ‬باعتبارها‭ ‬حلاً‭ ‬توافقيًا‭ ‬فريدًا‭ ‬من‭ ‬نوعه‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية،‭ ‬إِذْ‭ ‬شكلت‭ ‬قاعدة‭ ‬صلبة‭ ‬للعمل‭ ‬المشترك‭ ‬بين‭ ‬التيارين‭ ‬الإسلامي‭ ‬والعلماني،‭ ‬الذي‭ ‬عطل‭ ‬صراعهما‭ ‬طيلة‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬القرنين‭ ‬من‭ ‬الزمان،‭ ‬أي‭ ‬إمكانية‭ ‬لإقامة‭ ‬أنظمة‭ ‬ديمقراطية‭ ‬تحترم‭ ‬الحريات‭ ‬وحقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬كما‭ ‬منع‭ ‬أي‭ ‬فرصة‭ ‬لتعبئة‭ ‬قوى‭ ‬الأمة‭ ‬العربية‭ ‬ومواردها‭ ‬لإطلاق‭ ‬مشروع‭ ‬حضاري‭ ‬يعيد‭ ‬العرب‭ ‬إلى‭ ‬سالف‭ ‬مساهمتهم‭ ‬العلمية‭ ‬والحضارية‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الإنسانية‭.‬

المعهد العربي للديمقراطية

في‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬الجديد،‭ ‬الذي‭ ‬يضم‭ ‬بين‭ ‬دفتيه‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأوراق‭ ‬البحثية،‭ ‬التي‭ ‬تقدم‭ ‬بها‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المفكرين‭ ‬والباحثين‭ ‬الأكاديميين‭ ‬والنشطاء‭ ‬السياسيين،‭ ‬شاركوا‭ ‬في‭ ‬المؤتمر‭ ‬الذي‭ ‬نظمه‭ ‬المعهد‭ ‬العربي‭ ‬للديمقراطية‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬بالشراكة‭ ‬مع‭ ‬مؤسسة‭ ‬هانس‭ ‬سايدل‭ ‬الألمانية،‭ ‬وذلك‭ ‬خلال‭ ‬الفترة‭ ‬من‭ ‬15‭ ‬إلى‭ ‬17‭ ‬كانون‭ ‬الأول‭ (‬ديسمبر‭) ‬2018،‭ ‬ويحتوي‭ ‬على‭ ‬151‭ ‬صفحة‭ ‬من‭ ‬القطع‭ ‬المتوسط،‭ ‬وصدر‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬كانون‭ ‬الثاني‭ (‬يناير‭) ‬2020،‭ ‬قدم‭ ‬المشاركون‭ ‬في‭ ‬المؤتمر،‭ ‬إسهامات‭ ‬أثروا‭ ‬بها‭ ‬هذا‭ ‬المشروع‭ ‬الفكري‭ ‬والسياسي‭ ‬المفتوح‭ ‬لـ‭ “‬الدولة‭ ‬المدنية‭”‬،‭ ‬سواء‭ ‬فيما‭ ‬يتصل‭ ‬بالتجربة‭ ‬التونسية‭ ‬النموذجية،‭ ‬أو‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬التجارب‭ ‬الممكنة‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭.‬

دولة‭ ‬القانون‭ ‬في‭ ‬السيرورة‭ ‬التاريخية

لا‭ ‬يزال‭ ‬مفهوم‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬حديث‭ ‬الاستعمال‭ ‬في‭ ‬الخطاب‭ ‬الفكري‭ ‬والسياسي‭ ‬العربي‭. ‬فمفهوم‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬طُرِحَ‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬ما‭ ‬بات‭ ‬يُعْرَفُ‭ ‬بربيع‭ ‬الثورات‭ ‬العربية،‭ ‬للإشارة‭ ‬إلى‭ ‬رؤية‭ ‬جديدة‭ ‬لعملية‭ ‬الإصلاح،‭ ‬والعلاقة‭ ‬بين‭ ‬الحاكم‭ ‬والمحكوم‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية،‭ ‬التي‭ ‬أسقطت‭ ‬الديكتاتوريات‭ ‬العسكرية‭ ‬والبوليسية،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬قائمة‭. ‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬تجدر‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬مفهوم‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬غير‭ ‬متداول‭ ‬في‭ ‬الأدبيات‭ ‬الغربية‭ ‬وليس‭ ‬له‭ ‬وجود‭ ‬في‭ ‬المعاجم‭ ‬والقواميس‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬لذلك‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬له‭ ‬مضامينه‭ ‬الخاصة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬حيث‭ ‬طرح‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬تجربة‭ ‬خاصة‭ ‬بهذه‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ .‬

فما‭ ‬هي‭ ‬مرتكزات‭ ‬دولة‭ ‬القانون‭ ‬في‭ ‬المنظور‭ ‬الغربي؟

في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬يقدم‭ ‬الدكتور‭ ‬زيد‭ ‬الدليمي‭ ‬الكاتب‭ ‬والباحث‭ ‬الألماني‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬يمني،‭ ‬والمدير‭ ‬الإقليمي‭  ‬لمؤسسة‭ ‬هانس‭ ‬سايدل‭ ‬الألمانية،‭ ‬في‭ ‬ورقته‭ ‬البحثية‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬العنوان‭ ‬التالي‭: “‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬على‭ ‬محك‭ ‬المقارنة‭ ‬بين‭ ‬النسقين‭ ‬الفكريين‭ ‬الألماني‭ ‬والعربي‭”‬،‭ ‬تعريفًا‭ ‬لدولة‭ ‬المواطن‭ ‬أو‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية،‭ ‬فيقول‭: “‬في‭ ‬السياق‭ ‬الفلسفي‭ ‬الغربي،‭ ‬وجدت‭ ‬مفاهيم‭ ‬مجاورة‭ ‬لفكرة‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬بيد‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬ذات‭ ‬بال‭ ‬في‭ ‬النظريات‭ ‬السياسية،‭ ‬وعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬اهتم‭ ‬قلة‭ ‬من‭ ‬المفكرين‭ ‬بنموذج‭ “‬دولة‭ ‬المواطن‭”‬،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬أرسطو‭ ‬وهو‭ ‬حجر‭ ‬الأساس‭ ‬في‭ ‬الفلسفة‭ ‬اليونانية‭ ‬القديمة‭ ‬قد‭ ‬مر‭ ‬على‭ ‬ذكره‭. ‬

لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬ميلاد‭ ‬الدولة‭ ‬ـ‭ ‬الأمة،‭ ‬أساسها،‭ ‬وأصلها،‭ ‬ومعناها،‭ ‬تمظهر‭ ‬تاريخياً‭ ‬في‭ ‬ذاته‭ ‬ولذاته‭ ‬حسب‭ ‬تعبير‭ ‬هيغل،

وإذ‭ ‬تتميز‭ “‬دولة‭ ‬المواطن‭” ‬عن‭ ‬الأوليغارشية‭ ‬التي‭ ‬تحتكر‭ ‬فيها‭ ‬نخبة‭ ‬ضيقة‭ ‬سلطة‭ ‬الدولة،‭ ‬فإنها‭ ‬تختلف‭ ‬أيضًا‭ ‬عن‭ ‬الدولة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬التي‭ ‬يشارك‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬المواطنين‭ ‬في‭ ‬رسم‭ ‬سياسة‭ ‬الدولة‭ ‬بكل‭ ‬حرية،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ “‬دولة‭ ‬المواطن‭” ‬تتبوأ‭ ‬منطقة‭ ‬وسطى‭ ‬بين‭ ‬الأوليغارشية‭ ‬والديمقراطية‭: ‬ففي‭ ‬هذا‭ ‬النموذج،‭ ‬تسير‭ ‬شريحة‭ ‬اجتماعية‭ ‬واسعة‭ ‬وهي‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬الدولة‭ ‬لصالحها‭. ‬وفي‭ ‬حين‭ ‬يغيب‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬عن‭ ‬التداول‭ ‬اليوم،‭ ‬فإن‭ ‬غيرهارد‭ ‬بفرويدينشو‭ ‬يرسم‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ “‬من‭ ‬دولة‭ ‬الحزب‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬المواطنين‭” ‬ملامح‭ ‬يعلي‭ ‬من‭ ‬كلمة‭ ‬المواطنين‭ ‬داخل‭ ‬مجال‭ ‬الدولة‭ ‬لا‭ ‬بمعنى‭ ‬التمثيلية‭ ‬فحسب‭ ‬وإنما‭ ‬أيضا‭ ‬بمعنى‭ ‬المشاركة‭ ‬المباشرة‭.‬

وعلى‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭ ‬فإن‭ ‬بفرويدينشو‭ ‬يضع‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬الرأي‭ ‬المباشر‭ ‬للمواطنين‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬الدولة‭ ‬وفي‭ ‬جوهر‭ ‬العملية‭ ‬السياسية‭ ‬ضمن‭ ‬إطار‭ ‬ما‭ ‬يُعرف‭ ‬بالديمقراطية‭ ‬المباشرة،‭ ‬كما‭ ‬يميزها‭ ‬بوضوح‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬أشكال‭ ‬الحكم‭ ‬المعهودة‭ ‬إلى‭ ‬أيامنا‭ ‬هذه‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬الدولة‭ ‬الدستورية‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬الأحزاب‭ ‬الديمقراطية‭. ‬ويرى‭ ‬بفرويدينشوأن‭ ‬الديمقراطية‭ ‬التمثيلية‭ ‬قد‭ ‬آلت‭ ‬إلى‭ ‬حكم‭ ‬نخبة‭ ‬سياسية‭ ‬مضيقة‭ ‬لا‭ ‬تختلف‭ ‬جوهريا‭ ‬عمَا‭ ‬سبقها‭ ‬من‭ ‬نماذج‭ ‬تاريخية‭”(‬ص‭ ‬24‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭).‬

مفهوم‭ ‬دولة‭ ‬القانون

ويركز‭ ‬الدكتور‭ ‬زيد‭ ‬الدليمي‭ ‬في‭ ‬ورقته‭ ‬البحثية‭ ‬على‭ ‬مفهوم‭ ‬دولة‭ ‬القانون‭ ‬التي‭ ‬انبثقت‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬التحولات‭ ‬التاريخية‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬أصابت‭ ‬المجتمعات‭ ‬الأوروبية،‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬بدأ‭ ‬المشروع‭ ‬الثقافي‭ ‬التنويري‭ ‬الغربي‭ ‬الذي‭ ‬له‭ ‬خاصياته‭ ‬المتميزة‭ ‬يشق‭ ‬طريقه‭ ‬لجهة‭ ‬إخراج‭ ‬العقلانية‭ ‬من‭ ‬حدود‭ ‬الغيب‭ ‬والتجريد‭ ‬اللفظي‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬المجهول‭ ‬المادي‭ ‬وإلى‭ ‬الطبيعة‭. ‬وبذلك‭ ‬ولدت‭ ‬الدولة‭ ‬الحديثة‭ ‬بفضل‭ ‬الجهد‭ ‬التاريخي‭ ‬الذي‭ ‬قامت‭ ‬به‭ ‬الذات‭ ‬الأوروبية‭ ‬على‭ ‬ذاتها‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬الصراع‭ ‬التوتري‭ ‬الهائل‭ ‬بين‭ ‬العقل‭ ‬المسيحي‭ ‬والعقل‭ ‬العلمي‭ ‬الذي‭ ‬دام‭ ‬ثلاثة‭ ‬قرون،‭ ‬والذي‭ ‬تُوج‭ ‬بإحداث‭ ‬القطيعة‭ ‬الكبرى‭ ‬ـ‭ ‬وهي‭ ‬قطيعة‭ ‬معرفية‭ ‬وقطيعة‭ ‬إبستمولوجية‭ ‬وسياسية‭ ‬داخل‭ ‬استقلالية‭ ‬العقل‭ ‬نفسه‭ ‬ـ‭ ‬مع‭ ‬التصور‭ ‬الديني‭ ‬للعالم‭ ‬والحياة‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬معوِقاً‭ ‬للحداثة‭ ‬والتقدم‭ ‬وغير‭ ‬محتمل‭ ‬وغير‭ ‬مقبول‭ ‬في‭ ‬معارضة‭ ‬النظام‭ ‬المعرفي‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬شكلته‭ ‬البورجوازية‭ ‬كطبقة‭ ‬صاعدة‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭.‬

لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬ميلاد‭ ‬الدولة‭ ‬ـ‭ ‬الأمة،‭ ‬أساسها،‭ ‬وأصلها،‭ ‬ومعناها،‭ ‬تمظهر‭ ‬تاريخياً‭ ‬في‭ ‬ذاته‭ ‬ولذاته‭ ‬حسب‭ ‬تعبير‭ ‬هيغل،‭ ‬حين‭ ‬بدأت‭ ‬العلاقات‭ ‬الرأسمالية‭ ‬تظهر‭ ‬تحت‭ ‬شكل‭ ‬الرأسمالية‭ ‬البضاعية،‭ ‬ومع‭ ‬اندلاع‭ ‬الثورة‭ ‬الديموقراطية‭ ‬البورجوازية‭ ‬التي‭ ‬عمت‭ ‬الغرب‭ ‬بدرجات‭ ‬متفاوتة‭ ‬الحدة‭ ‬والقوة‭ ‬منذ‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬وفي‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر،‭ ‬وعلى‭ ‬امتداد‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭. ‬

ولدت‭ ‬أشكال‭ ‬متنوعة‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ‭ ‬من‭ ‬الدولة‭ ‬ـ‭ ‬الأمة،‭ ‬ففي‭ ‬إنجلترا،‭ ‬تشكلت‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الصناعية‭ ‬من‭ ‬رحم‭ ‬الرأسمالية‭ ‬التجارية،‭ ‬وحققت‭ ‬البورجوازية‭ “‬وفاقاً‭ ‬تاريخياً‭” ‬مع‭ ‬الأرستقراطية‭ ‬بتحالفها‭ ‬مع‭ ‬النبلاء‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬التوازن‭ ‬النسبي‭ ‬للطبقات‭ ‬المسيطرة‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬عملية‭ ‬التراكم‭ ‬البدائي‭ ‬لرأس‭ ‬المال‭ ‬الإنجليزي‭ ‬التي‭ ‬عرفت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬العنف،‭ ‬لم‭ ‬يفسح‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬لانبثاق‭ ‬دولة‭ ‬قوية‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬بل‭ ‬عجل‭ ‬بقدوم‭ “‬دولة‭ ‬معتدلة‭” ‬حسب‭ ‬تعبير‭ ‬مونتسكيو،‭ ‬وعملت‭ ‬هذه‭ ‬السلطة‭ ‬السياسية‭ ‬المخفضة‭ ‬على‭ ‬إدارة‭ ‬هذا‭ ‬الوفاق‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬التناقض‭ ‬بين‭ ‬الديموقراطية‭ ‬الداخلية‭ ‬والاستغلال‭ ‬الإمبريالي‭.‬

إن‭ ‬تبني‭ ‬نموذج‭ ‬دولة‭ ‬القانون‭ ‬في‭ ‬السياق‭ ‬العربي،‭ ‬لا‭ ‬يبدو‭ ‬بالضرورة‭ ‬حلاً‭ ‬مثاليًا‭ ‬على‭ ‬ضوء‭ ‬ما‭ ‬يشهده‭ ‬هذا‭ ‬النموذج‭ ‬من‭ ‬أزمات‭ ‬في‭ ‬موطنه‭ ‬الأول‭ ‬أي‭ ‬المجال‭ ‬الغربي

أما‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬فقد‭ ‬استولت‭ ‬البورجوازية‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬بوساطة‭ ‬الثورة‭ ‬العنيفة،‭ ‬وبسطت‭ ‬هيمنتها‭ ‬الطبقية‭ ‬على‭ ‬مجتمع‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬زراعياً‭ ‬وتكمن‭ ‬المفارقة‭ ‬هنا‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الهيمنة‭ ‬البورجوازية‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬سبقت‭ ‬التوسع‭ ‬الصناعي‭ ‬والرأسمالية‭ ‬الصناعية‭ ‬التي‭ ‬عرفت‭ ‬انطلاقتها‭ ‬الفعلية‭ ‬تحت‭ ‬حكم‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الثانية‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1850،‭ ‬على‭ ‬نقيض‭ ‬إنكلترا‭.‬

وهكذا،‭ ‬فإن‭ ‬المصادر‭ ‬النظرية‭ ‬للأفكار‭ ‬الثورية،‭ ‬وكذلك‭ ‬الممارسات‭ ‬المولدة‭ ‬للدولة‭ ‬الحديثة،‭ ‬ارتبطتا‭ ‬تاريخياً‭ ‬بحوامل‭ ‬موضوعية‭ ‬تجسدت‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬التفاعل‭ ‬العظيم‭ ‬بين‭ ‬إبداع‭ ‬الأفكار‭ ‬الثورية‭ ‬في‭ ‬الفيزياء‭ ‬والفلك‭ ‬والرياضيات‭ ‬وما‭ ‬نجم‭ ‬منها‭ ‬من‭ ‬تحولات‭ ‬علمية‭ ‬وصناعية‭ ‬كبرى،‭ ‬وحققت‭ ‬أسس‭ ‬رأسمالية‭ ‬صناعية‭ ‬متطورة،‭ ‬وبين‭ ‬طرح‭ ‬المناهج‭ ‬والأنساق‭ ‬المعرفية‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬الفلسفة،‭ ‬التي‭ ‬تعتبر‭ ‬الإنسان‭ ‬ـ‭ ‬هذا‭ ‬العَلَمُ‭ ‬للثورة،‭ ‬والذي‭ ‬يتصور‭ ‬نفسه‭ ‬تارة‭ ‬كائناً‭ ‬طبيعياً،‭ ‬وتارة‭ ‬كائناً‭ ‬عقلياً‭ ‬ـ‭ ‬مركزاً‭ ‬للعالم،‭ ‬وطرحت‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬عينه‭ ‬التناقض‭ ‬بين‭ ‬مثالية‭ ‬القانون‭ ‬الطبيعي‭ ‬الذي‭ ‬بقي‭ ‬قاصراً‭ ‬منهجياً‭ ‬والقانون‭ ‬الوضعي‭ ‬المبني‭ ‬على‭ ‬العقلانية‭. ‬

ويعتبر‭ ‬الحقوقيون‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬الليبرالية‭ ‬للرأسمالية‭ ‬التنافسية‭ ‬التي‭ ‬ولدت‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬الغرب‭ ‬هي‭ ‬الشكل‭ ‬النموذج‭ ‬لدولة‭ ‬الحق‭ ‬والقانون‭ ‬بوصفها‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬الأنظمة‭ ‬ديموقراطية،‭ ‬وتمثل‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬عينه‭ ‬مركباً‭ ‬بين‭ ‬نظريات‭ ‬القانون‭ ‬الطبيعي‭ ‬أسبق‭ ‬منها‭ ‬ومبادئ‭ ‬حملها‭ ‬إليها‭ ‬القانون‭ ‬الوضعي‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭.‬

التجربة‭ ‬الغربية‭ ‬ومفهوم‭ ‬الدولة‭ ‬ـ‭ ‬الأمة

إنَ‭ ‬ما‭ ‬يتم‭ ‬التعبير‭ ‬عنه‭ ‬عبر‭ ‬دولة‭ ‬الحق‭ ‬والقانون،‭ ‬هو‭ ‬نشوء‭ ‬الدولة‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬التجربة‭ ‬الغربية،‭ ‬بدءاً‭ ‬من‭ ‬القرون‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬التي‭ ‬أفرزت‭ ‬أشكالاً‭ ‬متعددة‭ ‬من‭ ‬الدولة‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬نظرية‭ ‬القانون‭ ‬الطبيعي،‭ ‬مروراً‭ ‬بالتحولات‭ ‬التي‭ ‬عرفتها‭ ‬المجتمعات‭ ‬الغربية‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬الثورة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬وحتى‭ ‬قيام‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬والتغيرات‭ ‬التي‭ ‬أدخلتها‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬تجسيد‭ ‬القطيعة‭ ‬مع‭ ‬الأشكال‭ ‬السياسية‭ ‬للدولة‭ ‬الاستبدادية‭ ‬التي‭ ‬شهدت‭ ‬نشأة‭ ‬الرأسمالية‭ ‬المركنتيلية‭ ‬والتي‭ ‬عبرت‭ ‬عن‭ ‬إحدى‭ ‬المراحل‭ ‬الانتقالية‭ ‬من‭ ‬الإقطاعية‭ ‬إلى‭ ‬الرأسمالية،‭ ‬وإرساء‭ ‬الدولة‭ ‬القومية‭ ‬ـ‭ ‬الأمة‭ ‬التي‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬سلطة‭ ‬القانون‭ ‬المطلقة،‭ ‬وبناء‭ ‬سياسي‭ ‬وقانوني‭ ‬يتجسد‭ ‬في‭ ‬مؤسسات‭ ‬مدنية‭ ‬تعتمد‭ ‬العمل‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬وأخرى‭ ‬عسكرية‭ ‬وأمنية‭ ‬تعتمد‭ ‬العنف‭ ‬المشروع‭ ‬داخل‭ ‬حدود‭ ‬جغرافية‭ ‬معترف‭ ‬بها‭ ‬داخلياً‭ ‬وخارجياً‭. ‬هذا‭ ‬الجمع‭ ‬بين‭ ‬البناء‭ ‬المدني‭ ‬السياسي‭ ‬والظاهرة‭ ‬القانونية‭ ‬وبين‭ ‬العنف‭ ‬المشروع‭ ‬داخل‭ ‬حدود‭ ‬معينة،‭ ‬هو‭ ‬أساس‭ ‬مفهوم‭ ‬الدولة‭ ‬ـ‭ ‬الأمة‭.‬

إنَ‭ ‬مفهوم‭ ‬الدولة‭ ‬ـ‭ ‬الأمة‭ ‬يتضمن‭ ‬في‭ ‬سيرورته‭ ‬الطابع‭ ‬الكوني‭ ‬العام‭ ‬الذي‭ ‬يحمله‭ ‬إلى‭ ‬العالم،‭ ‬لأن‭ ‬ظهوره‭ ‬ترافق‭ ‬مع‭ ‬ظهور‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الناشئة،‭ ‬وانتشار‭ ‬علاقات‭ ‬الإنتاج‭ ‬الجديدة‭ ‬الخاضعة‭ ‬للرأسمال‭. ‬فالبورجوازية‭ ‬الصاعدة‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬توطيد‭ ‬هيمنتها،‭ ‬وخدمة‭ ‬أهدافها‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬أنها‭ ‬قيم‭ ‬حقائق،‭ ‬وتحقيق‭ ‬الوحدة‭ ‬القومية‭ ‬للأمة‭ ‬المتأمثلة‭ ‬للسوق‭ ‬الاقتصادية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إلغاء‭ ‬الحواجز‭ ‬الجمركية‭ ‬الداخلية‭ ‬الموروثة‭ ‬من‭ ‬الانقسامات‭ ‬الإقطاعية،‭ ‬وانتزاع‭ ‬السيطرة‭ ‬والسيادة‭ ‬للسلطة‭ ‬السياسية‭ ‬من‭ ‬الرجعية‭ ‬الإقطاعية‭ ‬والمونارشية‭ ‬وإقامة‭ ‬دولتها،‭ ‬التي‭ ‬لن‭ ‬تكون‭ ‬أتوماتيكياً‭ ‬نتاج‭ ‬سيطرتها‭ ‬كطبقة،‭ ‬بل‭ ‬عبر‭ ‬الفتوحات‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬بها‭ ‬لفرض‭ ‬هيمنتها‭ ‬والمرتبطة‭ ‬بخوض‭ ‬الصراعات‭ ‬السياسية‭ ‬المستمرة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬السلطة،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬أظهرته‭ ‬بأكثر‭ ‬ما‭ ‬يكفي‭ ‬تاريخ‭ ‬الثورات،‭ ‬وبالأخص‭ ‬منها‭ ‬تاريخ‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية‭ ‬الكبرى‭.‬

يبدو‭ ‬أن‭ ‬النظم‭ ‬الغربية‭ ‬الدستورية‭ ‬القائمة‭ ‬قد‭ ‬أصبحت‭ ‬رهينة‭ ‬السوق‭ ‬العالمية‭ ‬أو‭ ‬ـ‭ ‬وفقا‭ ‬لمصطلحات‭ ‬ماركس‭ ‬ـ‭ ‬رأس‭ ‬المال

خلافاً‭ ‬لما‭ ‬هو‭ ‬شائع‭ ‬الاعتقاد،‭ ‬فقد‭ ‬عرف‭ ‬العالم‭ ‬دولة‭ “‬القانون‭” ‬عبر‭ ‬العصور‭ ‬المختلفة‭ ‬التي‭ ‬مرت‭ ‬بها‭ ‬البشرية،‭ ‬منذ‭ ‬أيام‭ ‬حمورابي‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭. ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬يميز‭ ‬الدولة‭ ‬الأوتوقراطية‭ ‬والديكتاتورية‭ ‬والتوتاليتارية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬عن‭ ‬الدولة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬هو‭ ‬كون‭ ‬القانون‭ ‬في‭ ‬الحالة‭ ‬الأولى‭ ‬جائراً،‭ ‬وشكلياً‭ ‬ولا‭ ‬عقلانياً،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬انتهاكه‭ ‬وخرقه‭ ‬من‭ ‬السلطة‭ ‬عينها‭ ‬التي‭ ‬يفترض‭ ‬أنها‭ ‬تطبقه،‭ ‬أما‭ ‬في‭ ‬الحالة‭ ‬الثانية‭ ‬فهو‭ ‬يكفل‭ ‬للشخص‭ ‬الإنساني‭ ‬للمواطن،‭ ‬حقوقه‭ ‬الأساسية‭ ‬والحرية‭ ‬والمساواة‭ ‬أمام‭ ‬القانون،‭ ‬ويفسح‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭ ‬حقوقه‭ ‬هذه،‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬مواجهته‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬يفترض‭ ‬أنها‭ ‬ضامنة‭ ‬لها‭.‬

يقول‭ ‬الدكتور‭ ‬زيد‭ ‬الدليمي‭: “‬إن‭ ‬تبني‭ ‬نموذج‭ ‬دولة‭ ‬القانون‭ ‬في‭ ‬السياق‭ ‬العربي،‭ ‬لا‭ ‬يبدو‭ ‬بالضرورة‭ ‬حلاً‭ ‬مثاليًا‭ ‬على‭ ‬ضوء‭ ‬ما‭ ‬يشهده‭ ‬هذا‭ ‬النموذج‭ ‬من‭ ‬أزمات‭ ‬في‭ ‬موطنه‭ ‬الأول‭ ‬أي‭ ‬المجال‭ ‬الغربي‭. ‬وعلى‭ ‬النحو‭ ‬الذي‭ ‬تنبأ‭ ‬به‭ ‬كارل‭ ‬ماركس‭ ‬للدولة‭ ‬البرجوازية‭ ‬في‭ ‬عصره،‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬النظم‭ ‬الغربية‭ ‬الدستورية‭ ‬القائمة‭ ‬قد‭ ‬أصبحت‭ ‬رهينة‭ ‬السوق‭ ‬العالمية‭ ‬أو‭ ‬ـ‭ ‬وفقا‭ ‬لمصطلحات‭ ‬ماركس‭ ‬ـ‭ ‬رأس‭ ‬المال،‭ ‬إذ‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬المستفيد‭ ‬الأول‭ ‬ـ‭ ‬والأوحد‭ ‬ربما‭ ‬ـ‭ ‬من‭ ‬الحريات‭ ‬الموعودة‭ ‬في‭ ‬السياق‭ ‬الغربي‭ ‬هي‭ ‬النخب‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والمالية‭ ‬المتنفذة،‭ ‬كما‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬المساهمة‭ ‬الأبرز‭ ‬للدولة‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬لا‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬الحرية‭ ‬الفردية‭ ‬الموعودة‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬فتح‭ ‬المجال‭ ‬أمام‭ ‬تغول‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬على‭ ‬خلاف‭ ‬الحرية‭ ‬الفردية‭ ‬الموعودة‭…‬إن‭ ‬السردية‭ ‬القائلة‭ ‬بنظام‭ ‬رأسمالي‭ ‬لا‭ ‬يقبل‭ ‬التشكيك‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬تُلازم‭ ‬الاعتقاد‭ ‬في‭ ‬نموذج‭ ‬دولة‭ ‬القانون‭ ‬الديمقراطية‭ ‬باعتبارها‭ ‬نموذجًا‭ ‬كونيًا‭ ‬و‭”‬رزمة‭ ‬غربية‭” ‬صالحة‭ ‬للعالم‭ ‬بأسره‭. ‬

بيد‭ ‬أن‭ ‬ذلكم‭ ‬الاعتقاد‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يثير‭ ‬ريبة‭ ‬الثقافات‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬تطمح‭ ‬إلى‭ ‬تطوير‭ ‬نموذج‭ ‬في‭ ‬التنمية‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬يستجيب‭ ‬لخصوصياتها‭ ‬وشروط‭ ‬فخرها‭ ‬بذاتها‭ ‬الحضارية‭. ‬وتدريجيًا‭ ‬تؤدي‭ ‬هذه‭ ‬السردية‭ ‬الغربية‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الضجر‭ ‬من‭ ‬مقولات‭ ‬الديمقراطية‭ ‬ودولة‭ ‬القانون‭ ‬باعتبارهما‭ ‬تعبيرًا‭ ‬فضًا‭ ‬عن‭ ‬المركزية‭ ‬الأوروبية‭ ‬وفرضية‭ ‬سائدة‭ ‬تلتقي‭ ‬فيها‭ ‬البداهة‭ ‬مع‭ ‬البلادة‭” (‬ص‭ ‬34‭ ‬ـ‭ ‬35‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭).‬

آراء‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي‭ ‬العربي‭ ‬ومعارك‭ ‬بناء‭ ‬الدولة‭ ‬الدستورية

على‭ ‬غير‭ ‬عادة‭ ‬الثورات‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬جاءت‭ ‬ثورات‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭ ‬التي‭ ‬انطلقت‭ ‬من‭ ‬تونس‭ ‬أواخر‭ ‬العام‭ ‬2010‭ ‬مفاجئة‭ ‬للجميع،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬نوعيتها‭ ‬وأنها‭ ‬شعبية‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬قيادات‭ ‬سياسية‭ ‬أو‭ ‬فكرية،‭ ‬وإنما‭ ‬أيضا‭ ‬لأنها‭ ‬فتحت‭ ‬الباب‭ ‬لإعادة‭ ‬كتابة‭ ‬التاريخ‭ ‬السياسي‭ ‬الحديث‭ ‬والمعاصر‭ ‬للمنطقة‭ ‬العربية‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬مرور‭ ‬نحو‭ ‬عقد‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬على‭ ‬انطلاق‭ ‬هذه‭ ‬الثورات،‭ ‬مازال‭ ‬المفكرون‭ ‬وعلماء‭ ‬الاجتماع‭ ‬والسياسة‭ ‬يحاولون‭ ‬فهم‭ ‬ديناميكية‭ ‬الثورات‭ ‬العربية‭ ‬وأهم‭ ‬العوامل‭ ‬المؤثرة‭ ‬فيها‭ ‬وآفاقها‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭.‬

ضمن‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬يأتي‭ ‬الكتاب‭ ‬الصادر‭ ‬عن‭ ‬المعهد‭ ‬العربي‭ ‬للديمقراطية‭ ‬بتونس،‭ “‬الدولة‭ ‬المدنية‭.. ‬التصور‭ ‬والواقع‭ ‬والممكن‭ “‬،‭ ‬لمجموعة‭ ‬من‭ ‬المؤلفين،‭ ‬الذي‭ ‬يعرض‭ ‬له‭ ‬الكاتب‭ ‬والباحث‭ ‬التونسي‭ ‬توفيق‭ ‬المديني،‭ ‬بدأه‭ ‬بقراءة‭ ‬في‭ ‬الثورة‭ ‬التونسية‭ ‬وشروط‭ ‬قيام‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬عربيا،‭ ‬ويواصل‭ ‬في‭ ‬الجزء‭ ‬الثاني‭ ‬قراءة‭ ‬مشروع‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬كما‭ ‬يفهمه‭ ‬العرب‭.‬

مفهوم‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬في‭ ‬السياق‭ ‬العربي

تبدو‭ ‬فكرة‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬واعدة،‭ ‬فمن‭ ‬ناحية‭ ‬تنطوي‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة‭ ‬على‭ ‬تأثير‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬والذي‭ ‬يبدو‭ ‬مرحبا‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬العربي،‭ ‬إذ‭ ‬يفتح‭ ‬نموذج‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬الباب‭ ‬أمام‭ ‬انطلاقة‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬نظرية‭ ‬الدولة‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬اصطلاحية‭.‬ويتناول‭ ‬مفهوم‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬على‭ ‬عدة‭ ‬مستويات‭ ‬وهي‭ ‬الشكل‭ ‬والمضمون‭ ‬والسياق‭ ‬التاريخي‭ ‬والموضوعي‭ ‬لمفهوم‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭.‬

فالدولة‭ ‬المدنية‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬دستور‭ ‬ومنظومة‭ ‬من‭ ‬القواعد‭ ‬التشريعية‭ ‬والتنفيذية،‭ ‬فالدستور‭ ‬يبلور‭ ‬جملة‭ ‬القيم‭ ‬والأسس‭ ‬التي‭ ‬ارتضاها‭ ‬أفراد‭ ‬المجتمع‭ ‬لبناء‭ ‬نظامه‭ ‬السياسي‭ ‬والاجتماعي‭. ‬والدولة‭ ‬المدنية‭ ‬هي‭ ‬أيضا‭ ‬دولة‭ ‬مؤسسات،‭ ‬وتقوم‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسات‭ ‬على‭ ‬مبدأ‭ ‬التخصص‭ ‬فهي‭ ‬تمارس‭ ‬أعمالها‭ ‬بشكل‭ ‬مستقل‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬يعرف‭ ‬بمبدأ‭ ‬فصل‭ ‬السلطات،‭ ‬بحيث‭ ‬تقوم‭ ‬كل‭ ‬سلطة‭ ‬بممارسة‭ ‬مهامها‭ ‬ضمن‭ ‬مجالها‭ ‬المحدد‭ ‬ولا‭ ‬تتجاوزه‭ ‬الا‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬ما‭ ‬تقتضي‭ ‬ضرورات‭ ‬التعاون‭ ‬والتكامل‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬السلطات‭.‬

ومن‭ ‬المعالم‭ ‬الأساسية‭ ‬للدولة‭ ‬المدنية‭ ‬وجود‭ ‬مجتمع‭ ‬مدني‭ ‬فاعل‭ ‬ومؤسسات‭ ‬مدنية‭ ‬فاعلة‭ ‬للنهوض‭ ‬بمستوى‭ ‬الوعي‭ ‬السياسي‭ ‬لدى‭ ‬أفراد‭ ‬المجتمع‭ ‬والمساعدة‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬الواقع‭ ‬السياسي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬فهماً‭ ‬صحيحاً‭ ‬والمشاركة‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬مؤسسات‭ ‬ديموقراطية‭ ‬وممارسة‭ ‬الرقابة‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التنظيمات‭ ‬المدنية‭ ‬المختلفة‭ ‬والوسائل‭ ‬الإعلامية‭ ‬والرقابية‭ ‬المتاحة‭.‬

ضمن‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬يقدم‭ ‬المفكر‭ ‬العراقي‭ ‬الدكتور‭ ‬عبد‭ ‬الحسين‭ ‬شعبان،‭ ‬في‭ ‬ورقته‭ ‬البحثية‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬العنوان‭ ‬التالي‭: “‬عن‭ ‬مفهوم‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬وأنواعها‭ ‬مساهمة‭ ‬في‭ ‬النقاش‭ ‬حول‭ ‬مأزق‭ ‬الدولة‭ ‬العربية‭ ‬المعاصرة‭”‬،‭ ‬طرحا‭ ‬متميزًا،‭ ‬إذ‭ ‬يقول‭: ‬لعلَ‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬النقاش‭ ‬الذي‭ ‬يعلو‭ ‬اليوم‭ ‬وبنبرة‭ ‬صاخبة‭ ‬له‭ ‬علاقة‭ ‬بالمأزق‭ ‬التاريخي‭ ‬والثقافي‭ ‬الذي‭ ‬وصلت‭ ‬إليه‭ ‬الدولة‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة،‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬تترنح‭ ‬تحت‭ ‬ضربات‭ ‬الاستبداد‭ ‬بمبررات‭ ‬دينية‭ ‬أو‭ ‬علمانية،‭ ‬يمينية‭ ‬أو‭ ‬يسارية،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬ينتظر‭ ‬منها‭ ‬مواكبة‭ ‬حثيثة‭ ‬لسير‭ ‬تطورها‭ ‬قانونيًا‭ ‬ودستوريًا،‭ ‬وما‭ ‬يميزها‭ ‬عن‭ ‬سواها‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬تيوقراطية‭ ‬أو‭ ‬أوتوقراطية‭ ‬أو‭ ‬أنظمة‭ ‬مطلقة‭ ‬أو‭ ‬دكتاتورية‭ ‬أو‭ ‬عسكرية‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ “‬نعومة‭” ‬مصطلح‭” ‬الدولة‭ ‬المدنية‭” ‬قياسًا‭ ‬لمصطلح‭ “‬الدولة‭ ‬العلمانية‭” ‬الذي‭ ‬يثير‭ ‬حساسية‭ ‬شديدة‭ ‬ورفضًا‭ ‬واسعًا‭ ‬من‭ ‬الأوساط‭ ‬الدينية‭ ‬بشكل‭ ‬خاص،‭ ‬يصل‭ ‬أحيانًا‭ ‬إلى‭ ‬اتهام‭ ‬دعاته‭ ‬بالخروج‭ ‬عن‭ ‬الدين‭ ‬و‭ ‬الكفر‭ ‬والإلحاد،‭ ‬فإنَ‭ ‬مصطلح‭” ‬الدولة‭ ‬الدينية‭” ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬يواجه‭ ‬ردود‭ ‬فعل‭ ‬حادة‭ ‬تصل‭ ‬أحيانًا‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬التعرض‭ ‬للدين،‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬جمهور‭ ‬واسع‭ ‬وقوى‭ ‬متعددة‭ ‬يسارية‭ ‬ويمينية،‭ ‬اشتراكية‭ ‬وقومية‭ ‬وليبرالية،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬‭ ‬يضع‭ ‬فكرة‭” ‬الدولة‭ ‬المدنية‭” ‬بين‭ ‬مصطلحين‭ ‬متناقضين‭ ‬لدرجة‭ ‬التناحر‭ ‬الأول‭ ‬ـ‭ ‬الدولة‭ ‬الدينية‭ ‬و‭ ‬الثاني‭ ‬ـ‭ ‬الدولة‭ ‬العلمانية‭. ‬

المصطلحان‭ “‬الدولة‭ ‬الدينية‭” ‬و‭”‬الدولة‭ ‬العلمانية‭” ‬يثيران‭ ‬أسئلة‭ ‬أخرى‭ ‬مشتبكة‭ ‬مع‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬القضايا‭ ‬التي‭ ‬يواجهها‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬و‭ ‬الممارسة‭ ‬العملية‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬خصوصا‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بمدى‭ ‬انطباقه‭ ‬على‭ ‬واقع‭ ‬الحال‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬التسميات‭ ‬والتوصيفات‭. ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فالمفهوم‭ ‬الذي‭ ‬يتم‭ ‬الترويج‭ ‬له‭ ‬تأييدًا‭ ‬أو‭ ‬تنديدًا‭ ‬لفكرة‭ “‬الدولة‭ ‬المدنية‭” ‬لا‭ ‬زال‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬البيئة‭ ‬الحاضنة‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬عملية‭ “‬تعريب‭” ‬أو‭ “‬تبيئة‭” ‬أو‭”‬توطين‭”‬،‭ ‬باعتباره‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬التطور‭ ‬الدستوري‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬العالمي‭ ‬مع‭ ‬عدم‭ ‬نسيان‭ ‬الخصوصية‭ ‬الدينية‭ ‬والثقافية‭…” (‬ص‭ ‬38‭ ‬ـ‭ ‬39‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭).‬

في‭ ‬مضمون‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬

الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬هي‭ ‬استعادة‭ ‬حقيقية‭ ‬لبناء‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬والارتقاء‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬ديمقراطية،‭ ‬أي‭ ‬إعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬الحديثة،‭ ‬دولة‭ ‬الحق‭ ‬والقانون‭ ‬المعبرة‭ ‬عن‭ ‬الكلية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والقائمة‭ ‬على‭ ‬مبدأ‭ ‬المواطنة‭. ‬وتشكل‭ ‬سيادة‭ ‬الشعب،‭ ‬العامل‭ ‬الحاسم‭ ‬في‭ ‬سيرورة‭ ‬التحول‭ ‬الديمقراطي‭ ‬في‭ ‬نطاق‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭.‬

وتكمن‭ ‬المقدمة‭ ‬الأولى‭ ‬للدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬وضمان‭ ‬تحولها‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬ديمقراطية،‭ ‬في‭ ‬تحرر‭ ‬الأفراد‭ ‬من‭ ‬الروابط‭ ‬والعلاقات‭ ‬الطبيعية‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الوطنية‭ ‬كالعشائرية،‭ ‬و‭ ‬العرقية،‭ ‬والمذهبية،‭ ‬والطائفية،‭ ‬واندماجهم‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬اجتماعي‭ ‬وثقافي‭ ‬وسياسي‭ ‬مشترك‭ ‬هو‭ ‬الفضاء‭ ‬الوطني‭ .‬

فالدولة‭ ‬المدنية‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬إلا‭ ‬دولة‭ ‬ديمقراطية‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يلي‭: ‬احترام‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬أولاً،‭ ‬وحقوق‭ ‬المواطن‭ ‬ثانياً،‭ ‬وفكرة‭ ‬الأكثرية‭ ‬الانتخابية‭ ‬الحرة‭ ‬التشكيلية،‭ ‬ثالثاً،‭ ‬وضمان‭ ‬التداول‭ ‬السلمي‭ ‬للسلطة‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬المستويات‭ ‬وفي‭ ‬كافة‭ ‬مؤسسات‭ ‬الدولة،‭ ‬رابعاً‭.‬

فالدولة‭ ‬المدنية‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬إلا‭ ‬ديموقراطية‭ ‬لأنها‭ ‬تستبعد‭ ‬الاستئثار‭ ‬بالسلطة‭ ‬وتعتمد‭ ‬الرجوع‭ ‬إلى‭ ‬القاعدة‭ ‬بشكل‭ ‬دوري‭. ‬والديمقراطية‭ ‬هنا‭ ‬هي‭ ‬الليبرالية‭ ‬مفهومة‭ ‬فهماً‭ ‬جدلياً‭ ‬وتاريخياً‭ ‬صحيحاً‭ ‬بالإضافة‭ ‬لمفهوم‭ ‬الشعب،‭ ‬وهذا‭ ‬الأخير‭ ‬مُؤَسس‭ ‬على‭ ‬مفهوم‭ ‬الوطن‭ ‬والمواطنة،‭ ‬ونفي‭ “‬الحرب‭ ‬خارج‭ ‬المدينة‭”‬،‭ ‬أي‭ ‬نفي‭ ‬العنف‭ ‬بكل‭ ‬صوره‭ ‬وأشكاله،‭ ‬ونفي‭ ‬الحرب‭ ‬خارج‭ ‬حدود‭ ‬الوطن‭ ‬ونطاق‭ ‬الأمة‭.‬

إنَ‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬ليست‭ ‬بدولة‭ ‬عسكرية،‭ ‬وليست‭ ‬أيضاً‭ ‬بدولة‭ ‬دينية،‭ ‬لكنها‭ ‬ليست‭ ‬بالضرورة‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬دولة‭ ‬علمانية‭ ‬بالمعني‭ ‬الغربي‭ ‬للكلمة‭. ‬فالدولة‭ ‬المدنية‭ ‬ترفض‭ ‬الدولة‭ ‬الدينية‭ “‬الثيوقراطية‭”‬،‭ ‬وتستبعد‭ ‬إسناد‭ ‬عملية‭ ‬الحكم‭ ‬إلى‭ ‬فئة‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬الدين‭ ‬أو‭ ‬الفقهاء‭ ‬لأن‭ ‬السياسة‭ ‬والإدارة‭ ‬والقانون‭ ‬والاقتصاد‭ ‬هي‭ ‬تخصصات‭ ‬يؤهل‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬يمارسها‭ ‬تأهيلاً‭ ‬خاصاً‭ ‬كما‭ ‬يؤهل‭ ‬رجل‭ ‬الدين‭ ‬أو‭ ‬الفقيه‭ ‬أو‭ ‬العالم‭ ‬بالقضايا‭ ‬الشرعية‭ ‬في‭ ‬المعاهد‭ ‬والكليات‭ ‬الشرعية‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬لأحد‭ ‬أن‭ ‬يحل‭ ‬محله‭ ‬في‭ ‬الإفتاء‭ ‬والاجتهاد‭ ‬في‭ ‬القضايا‭ ‬الشرعية‭ ‬وكما‭ ‬نعترف‭ ‬لرجل‭ ‬الدين‭ ‬بعلمه‭ ‬وكفاءته‭ ‬في‭ ‬الإفتاء‭ ‬في‭ ‬الأمور‭ ‬الدينية‭ ‬فيجب‭ ‬أن‭ ‬نقر‭ ‬لرجل‭ ‬الاقتصاد‭ ‬والقانون‭ ‬والإدارة‭ ‬والسياسة‭ ‬بخبرته‭ ‬وتأهيله‭ ‬للقيام‭ ‬بالعمل‭ ‬الحكومي‭ ‬وبالتالي‭ ‬فإن‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬لا‭ ‬تقبل‭ ‬بإسناد‭ ‬عملية‭ ‬الحكم‭ ‬للفقهاء‭ ‬أو‭ ‬رجال‭ ‬الدين‭ ‬لمجرد‭ ‬أنهم‭ ‬علماء‭ ‬بأمور‭ ‬الدين‭ ‬ويرتدون‭ ‬عباءة‭ ‬الفقيه‭.‬

المقدمة‭ ‬الأولى‭ ‬للدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬وضمان‭ ‬تحولها‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬ديمقراطية،‭ ‬في‭ ‬تحرر‭ ‬الأفراد‭ ‬من‭ ‬الروابط‭ ‬والعلاقات‭ ‬الطبيعية‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الوطنية‭ ‬كالعشائرية،‭ ‬و‭ ‬العرقية،‭ ‬والمذهبية،‭ ‬والطائفية،‭ ‬واندماجهم‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬اجتماعي‭ ‬وثقافي‭ ‬وسياسي‭ ‬مشترك‭ ‬هو‭ ‬الفضاء‭ ‬الوطني‭ .‬

فالدولة‭ ‬المدنية‭ ‬لا‭ ‬ترفض‭ ‬الدين‭ ‬ولا‭ ‬تعاديه‭ ‬ولكنها‭ ‬ترفض‭ ‬استغلال‭ ‬الدين‭ ‬لأغراض‭ ‬سياسية،‭ ‬فهي‭ ‬ترفض‭ ‬إضفاء‭ ‬طابع‭ ‬القداسة‭ ‬على‭ ‬الأطروحات‭ ‬السياسية‭ ‬لأي‭ ‬من‭ ‬الفرقاء‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬السياسي‭ ‬أو‭ ‬تنزيه‭ ‬أي‭ ‬رأي‭ ‬من‭ ‬الآراء‭ ‬أو‭ ‬اجتهاد‭ ‬من‭ ‬الاجتهادات‭ ‬عن‭ ‬النقد‭ ‬أو‭ ‬النصح‭ ‬والتوجيه‭. ‬فالإسلام‭ ‬يفرق‭ ‬بين‭ ‬الوحي‭ ‬وبين‭ ‬الاجتهاد‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬وتفسير‭ ‬الوحي‭ ‬فلا‭ ‬يعطي‭ ‬لهذه‭ ‬الاجتهادات‭ ‬لذاتها‭ ‬قداسة‭ ‬وإنما‭ ‬يقبلها‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تقدمه‭ ‬من‭ ‬حجج‭ ‬على‭ ‬صحة‭ ‬فهمها‭ ‬وتفسيرها‭ ‬للكتاب‭ ‬والسنة‭. ‬ومن‭ ‬جانب‭ ‬آخر‭ ‬فإن‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬ترفض‭ ‬نزع‭ ‬الإسلام‭ ‬من‭ ‬ميدانه‭ ‬الروحي‭ ‬ومن‭ ‬مجاله‭ ‬المقدس‭ ‬والزج‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬المدنس‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬مجال‭ ‬الصراعات‭ ‬والمؤامرات‭ ‬والألاعيب‭ ‬السياسية‭.‬

الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المنظور‭ ‬هي‭ ‬دعوة‭ ‬للانفتاح‭ ‬ودعوة‭ ‬لاستيعاب‭ ‬تراث‭ ‬فكرالحداثة‭ ‬الغربية،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬قضية‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان،باعتبارها‭ ‬القضية‭ ‬المركزية‭ ‬في‭ ‬نسق‭ ‬الحداثة‭ ‬وفي‭ ‬منظومتها‭ ‬القيمية،‭ ‬وفي‭ ‬الثقافة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬سواء‭ ‬بسواء‭. ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬فصل‭ ‬مقولة‭ ‬الحرية‭ ‬أو‭ ‬مشكلة‭ ‬الحرية،‭ ‬بتعبير‭ ‬الفلاسفة،‭ ‬عن‭ ‬قضية‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬وكرامته‭. ‬ومن‭ ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬نلاحظ‭ ‬أن‭ ‬قضية‭ ‬الحرية‭ ‬كانت‭ ‬غائبة‭ ‬عن‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬وعن‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي‭ ‬خاصة،‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬غائبة،‭ ‬ولذلك‭ ‬من‭ ‬السهل‭ ‬تذويب‭ ‬الفرد‭ ‬في‭ ‬العشيرة‭ ‬والطائفة‭ ‬والجماعة‭ ‬الإثنية‭.‬

غياب‭ ‬الدولة‭ ‬الدستورية‭ ‬العربية‭ ‬

حين‭ ‬تصبح‭ ‬عملية‭ ‬الانتقال‭ ‬إلى‭ ‬السلطة‭ ‬عبر‭ ‬صناديق‭ ‬الاقتراع‭ ‬مستحيلة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬جراء‭ ‬ضعف‭ ‬التغيير‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المؤسسات‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تؤمن‭ ‬الترابط‭ ‬الاساسي‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬الديمقراطي،‭ ‬بين‭ ‬القرار‭ ‬والمسؤولية،‭ ‬نتاج‭ ‬لجوء‭ ‬الحكام‭ ‬الى‭ ‬تفصيل‭ ‬ديمقراطيات‭ ‬على‭ ‬مقاس‭ ‬أبنائهم‭ ‬من‭ ‬بعدهم،‭ ‬تطرح‭ ‬النخب‭ ‬الفكرية‭ ‬والثقافية‭ ‬والديمقراطية‭ ‬العربية‭ ‬سؤالاً‭ ‬جامعاً،‭ ‬أيهما‭ ‬كان‭ ‬أفضل‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬التغيير‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬بلد‭ ‬عربي‭ ‬بواسطة‭ ‬تدخل‭ ‬القوى‭ ‬الأجنبية‭ ‬كما‭ ‬حصل‭ ‬في‭ ‬العراق،‭ ‬حيث‭ ‬دفع‭ ‬الشعب‭ ‬العراقي‭ ‬ثمناً‭ ‬باهظاً‭ ‬جداً،‭ ‬وخلق‭ ‬حالاً‭ ‬من‭ ‬الفوضى‭ ‬وعدم‭ ‬الاستقرار،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬المؤسسة‭ ‬العسكرية‭ ‬والأمنية‭ ‬ـ‭ ‬كشكل‭ ‬وحيد‭ ‬للتغيير‭ ‬من‭ ‬الداخل‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬دعم‭ ‬من‭ ‬الخارج؟

إنَ‭ ‬رفض‭ ‬الديمقراطيين‭ ‬العرب‭ ‬لهذه‭ ‬الاشكال‭ ‬من‭ ‬الانتقال‭ ‬إلى‭ ‬السلطة‭ ‬الآنفة‭ ‬الذكر‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الصدقية،‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬أنَ‭ ‬معظم‭ ‬مآسينا‭ ‬كعرب‭ ‬جاءت‭ ‬من‭ ‬انقلابات‭ ‬عسكرية‭ ‬أو‭ ‬دستورية‭ ‬ـ‭ ‬ولا‭ ‬فارق‭ ‬هنا‭ ‬بين‭ ‬هذا‭ ‬وذاك‭ ‬ـ‭ ‬قدمت‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬بدايات‭ ‬حكمها‭ ‬مشاريع‭ ‬سياسية‭ ‬براقة‭ ‬ما‭ ‬لبثت‭ ‬أنْ‭ ‬تحولت‭ ‬الى‭ ‬أوهام‭ ‬وخراب،‭ ‬حين‭ ‬تمسك‭ ‬الانقلابيون‭ ‬بالحكم‭ ‬بصورة‭ ‬إطلاقية،‭ ‬وأخفقوا‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬التنمية‭ ‬المستقلة،‭ ‬وفي‭ ‬عملية‭ ‬تحرير‭ ‬الأرض‭ ‬السلبية،‭ ‬وبناء‭ ‬الديموقراطية‭.‬

يكاد‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬أي‭ ‬دستور‭ ‬دولة‭ ‬عربية‭ ‬من‭ ‬الإشارة‭ ‬الواضحة‭ ‬إلى‭ ‬بنوده‭ ‬المتعددة‭ ‬إلى‭ ‬احترام‭ ‬المؤسسات،‭ ‬واحترام‭ ‬القانون،‭ ‬والحرِيات‭ ‬الفردية‭ ‬والعامة،‭ ‬والتداول‭ ‬السلمي‭ ‬للسلطة‭. ‬ومع‭ ‬كل‭ ‬ذلك،‭ ‬فإنَ‭ ‬الباحثين‭ ‬السياسيين‭ ‬وعلماء‭ ‬الاجتماع‭ ‬المهتمين‭ ‬بتأصيل‭ ‬فلسفة‭ ‬سياسية‭ ‬عقلانية‭ ‬عن‭ ‬الدولة‭ ‬الحديثة‭ ‬والمجتمع‭ ‬المدني‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬يعتقدون‭ ‬جازمين‭ ‬أنَ‭ ‬المؤسسات‭ ‬وأشكال‭ ‬التمثيل‭ ‬السياسية‭ ‬مأزومة،‭ ‬بدءاً‭ ‬من‭ ‬دور‭ ‬البرلمان،‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يتحكم‭ ‬بجدول‭ ‬أعمال‭ ‬جلساته،‭ ‬مروراً‭ ‬بشخصنة‭ ‬النقاشات‭ ‬عبر‭ ‬لعبة‭ ‬الانتخابات،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إفراغ‭ ‬فصل‭ ‬السلطات‭ ‬من‭ ‬معناه‭.‬

ما‭ ‬زال‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي‭ ‬العربي‭ ‬يفتقر‭ ‬افتقاراً‭ ‬فعلياً‭ ‬الى‭ ‬بلورة‭ ‬نظرية‭ ‬حول‭ ‬طبيعة‭ ‬الدولة‭ ‬الدستورية‭ ‬العربية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يشكل‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬أزماته،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬أنه‭ ‬يتجاهل‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬الدولة‭ ‬والسلطة

يمكن‭ ‬التعرف‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الدولة‭ ‬العربية‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الاستقلال‭ ‬السياسي،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬سير‭ ‬تطور‭ ‬بنيتها‭ ‬وخصائص‭ ‬وظائفها‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬أم‭ ‬السياسية‭ ‬القمعية،‭ ‬أم‭ ‬الدمجية،‭ ‬أم‭ ‬التقنية‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬السيرورة‭ ‬التاريخية‭ ‬لتبلور‭ ‬الدولة‭ ‬البورجوازية‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ (‬أوروبا‭ ‬الغربية‭ ‬وأمريكا‭ ‬الشمالية‭)‬،‭ ‬بسبب‭ ‬من‭ ‬تطورها‭ ‬كدولة‭ ‬رأسمالية‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الرأسمالية‭ ‬المتأخرة،‭ ‬لعبت‭ ‬دور‭ ‬جس‭ ‬للبورجوازية‭ ‬الاحتكارية‭ ‬الامبريالية،‭ ‬ومفوض‭ ‬وكيل‭ ‬للرأسمال‭ ‬الدولي،‭ ‬وتقوم‭ ‬بوظائف‭ ‬إعادة‭ ‬الانتاج‭ ‬المندمج‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬الرأسمالية‭ ‬العالمية،‭ ‬وبالتالي‭ ‬إعادة‭ ‬انتاج‭ ‬سيرورة‭ ‬الاستغلال‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬رأس‭ ‬المال‭.‬

وليس‭ ‬من‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬الأدواتية‭ ‬قد‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬تقليص‭ ‬السيرورات‭ ‬السياسية‭ ‬ضمن‭ ‬وبين‭ ‬مكونات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬الوليد،‭ ‬وتحويل‭ ‬هذه‭ ‬الدولة‭ ‬ذاتها‭ ‬ـ‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬بالأساس‭ ‬دولة‭ ‬لا‭ ‬قانونية‭ ‬حيال‭ ‬غالبية‭ ‬الشعب‭ ‬من‭ ‬دولة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ “‬اللحظة‭ ‬الليبرالية‭” ‬التي‭ ‬عرفها‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬مؤسسات‭ ‬مستقلة‭ ‬نسبياً‭ ‬في‭ ‬اطار‭ ‬وظيفتها‭ ‬الى‭ ‬دولة‭ ‬سلطة،‭ ‬أعادت‭ ‬انتاج‭ ‬مؤسسات‭ ‬الدولة‭ ‬وفق‭ ‬مصالح‭ ‬الفئة‭ ‬الحاكمة،‭ ‬حتى‭ ‬بات‭ ‬التمييز‭ ‬صعباً‭ ‬بين‭ ‬السلطة‭ ‬والدولة‭.‬

يتفق‭ ‬علماء‭ ‬الاجتماع‭ ‬والسياسة‭ ‬على‭ ‬أنَه‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬دولة‭ ‬دستورية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬ومشروعيتها،‭ ‬بالمقارنة‭ ‬مع‭ ‬دولة‭ ‬القانون‭ ‬التي‭ ‬وضعتها‭ ‬الثورات‭ ‬الديمقراطية‭ ‬البورجوازية‭ ‬المتعاقبة‭ ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬وركائزها‭ ‬الحديثة‭ ‬باعتبارها‭ ‬دولة‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬المذهب‭ ‬الوضعي‭ ‬الذي‭ ‬يستند‭ ‬بدوره‭ ‬الى‭ ‬الفكرة‭ ‬القائلة‭ ‬إنَ‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬القانون‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬الحرية‭. ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬غياب‭ ‬الحرية‭ ‬ينعدم‭ ‬القانون‭.‬

وما‭ ‬زال‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي‭ ‬العربي‭ ‬يفتقر‭ ‬افتقاراً‭ ‬فعلياً‭ ‬الى‭ ‬بلورة‭ ‬نظرية‭ ‬حول‭ ‬طبيعة‭ ‬الدولة‭ ‬الدستورية‭ ‬العربية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يشكل‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬أزماته،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬أنه‭ ‬يتجاهل‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬الدولة‭ ‬والسلطة،‭ ‬لأن‭ ‬فكرة‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬لم‭ ‬تتغير‭ ‬كثيراً‭ ‬عن‭ ‬معنى‭ ‬الدولة‭ ‬قبل‭ ‬الأزمنة‭ ‬الحديثة،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬معنى‭ ‬الدولة‭ ‬عند‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬هو‭ ‬مدة‭ ‬حكم‭ ‬أسرة‭ ‬حاكمة‭ ‬تبعيتها،‭ ‬أو‭ ‬الامتداد‭ ‬الزماني‭ ‬والمكاني‭ ‬لحكم‭ ‬عصبية‭ ‬من‭ ‬العصبيات،‭ ‬سواء‭ ‬أكان‭ ‬هذا‭ ‬الحكم‭ ‬عاماً‭ ‬أو‭ ‬خاصاً‭.‬

وحين‭ ‬نتأمل‭ ‬في‭ ‬أحوال‭ ‬الدولة‭ ‬العربية‭ ‬الراهنة،‭ ‬فإننا‭ ‬نجدها‭ ‬متماثلة‭ ‬مع‭ ‬السلطة،‭ ‬بما‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الدولة‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنها‭ ‬ذات‭ ‬دستور،‭ ‬تقلصت‭ ‬الى‭ ‬حدود‭ ‬العاصمة‭ ‬بحكم‭ ‬مركزية‭ ‬السلطة‭ ‬فيها،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فهي‭ ‬دولة‭ ‬هذه‭ ‬العاصمة،‭ ‬لا‭ ‬دولة‭ ‬الأمة‭ ‬ولا‭ ‬دولة‭ ‬الوطن،‭ ‬وهي‭ ‬ليست‭ ‬دولة‭ ‬جميع‭ ‬المواطنين‭ ‬المتساوين‭ ‬أمام‭ ‬القانون،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬دولة‭ ‬متحيزة‭ ‬لحزب‭ ‬مهيمن‭ ‬أو‭ ‬لطبقة،‭ ‬أو‭ ‬لدين‭ ‬أو‭ ‬لطائفة‭ ‬أو‭ ‬لأثنية‭ ‬أو‭ ‬لاقليم‭ ‬بعينه‭. ‬وهنا‭ ‬يكمن‭ ‬الفارق‭ ‬بين‭ ‬دولة‭ ‬عربية‭ ‬ذات‭ ‬دستور‭ ‬وبين‭ ‬دولة‭ ‬دستورية‭. ‬فالدولة‭ ‬الدستورية‭ ‬هي‭ ‬تلك‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬قولاً‭ ‬وفعلاً‭ ‬على‭ ‬احترام‭ ‬الحرية‭ ‬السياسية‭ ‬باعتبارها‭ ‬أصل‭ ‬الحريات‭ ‬وشرط‭ ‬تحققها،‭ ‬فبانعدامها‭ ‬تتعذر‭ ‬ممارسة‭ “‬حرية‭ ‬الفكر‭ ‬والعقيدة‭ ‬والتملك‭” ‬على‭ ‬حد‭ ‬قول‭ ‬مونتسكيو‭. ‬

والحرية‭ ‬السياسية‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬تحترم‭ ‬القانون،‭ ‬بينما‭ ‬الدولة‭ ‬العربية‭ ‬ذات‭ ‬الدستور،‭ ‬فتلك‭ ‬التي‭ ‬تنتهك‭ ‬القوانين‭ ‬والانظمة‭ ‬السائدة،‭ ‬لمصلحة‭ ‬النخبة‭ ‬الحاكمة،‭ ‬وتصادر‭ ‬الحريات‭ ‬وتعرضها‭ ‬للضرر‭ ‬والانتهاك،‭ ‬وترفض‭ ‬ايضاً‭ ‬اقامة‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التوازن‭ ‬السياسي‭ ‬عبر‭ ‬الالتزام‭ ‬بمبدأ‭ ‬فصل‭ ‬السلطات،‭ ‬بوصفه‭ ‬أداة‭ ‬فنية‭ ‬تجعل‭ ‬التعايش‭ ‬بين‭ ‬المؤسسات‭ ‬الدستورية‭ ‬أمراً‭ ‬ممكناً،‭ ‬ووسيلة‭ ‬للتوفيق‭ ‬بين‭ ‬المشروعيات‭ ‬المتنافسة‭ ‬والمتصارعة‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع‭ ‬السياسي‭. ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬مصدر‭ ‬نشوء‭ ‬الاستبداد‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬السياسي‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‭.‬

يعني‭ ‬مصطلح‭”‬دستور‭”‬،‭ ‬الذي‭ ‬يقابله‭ ‬في‭ ‬الفرنسية‭  ‬Constitution،‭ “‬التأسيس‭ ‬أو‭ ‬البناء‭”‬،‭ ‬أي‭ ‬التنظيم‭ ‬أو‭ ‬القانون‭ ‬الأساسي،‭ ‬فهو‭ ‬يحيل‭ ‬على‭ ‬مرجعية‭ ‬مفادها‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الأسس‭ ‬الكفيلة‭ ‬تأصيل‭ ‬وضبط‭ ‬ممارسة‭ ‬السلطة‭ ‬وتنظيم‭ ‬مؤسسات‭ ‬الدولة،‭ ‬وعلى‭ ‬خلفية‭ ‬ذلك‭ ‬يفسر‭ ‬لماذا‭ ‬ارتبط‭ ‬مفهوم‭ ‬الدستور‭ ‬بالدستورانية‭ ‬الأوروبية‭ ‬الهادفة،‭ ‬مع‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر،‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬بناء‭ ‬الدولة‭ ‬والسلطة‭ ‬على‭ ‬تصورات‭ ‬فلسفية‭ ‬وآليات‭ ‬تنظيمية‭ ‬جديدة‭.‬

بيد‭ ‬أن‭ ‬الدستور‭ ‬وحده‭ ‬لا‭ ‬يكفي‭ ‬لاكتساب‭ ‬الدولة‭ ‬المشروعية‭ ‬المطلوبة،‭ ‬بل‭ ‬تصبح‭ ‬المشروعية‭ ‬Legitimite‭  ‬حقيقة‭ ‬مقبولة‭ ‬حين‭  ‬تتعزز‭ ‬وثيقة‭ ‬الدستور‭ ‬بالاحترام‭ ‬وتحاط‭ ‬بالشروط‭ ‬الكفيلة‭ ‬بضمان‭ ‬صيانتها،‭ ‬أي‭ ‬حين‭ ‬تتحقق‭ ‬الشرعية‭ ‬الدستورية‭.‬

إن‭ ‬ما‭ ‬يميز‭ ‬الدستور‭ ‬الديمقراطي‭  ‬Constitution democratique‭ ‬ويجعله‭ ‬جديرا‭ ‬بهذه‭ ‬الصفة‭ ‬استناده‭ ‬على‭ ‬جملة‭ ‬مقومات‭ ‬تضفي‭ ‬صبغة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬عليه،‭ ‬وتبعده‭ ‬عن‭ ‬الدساتير‭ ‬الموضوعة‭ ‬إما‭ ‬بإرادة‭ ‬منفردة،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬حال‭ ‬الدساتير‭ ‬الممنوحة،‭ ‬أو‭ ‬عبر‭ ‬استفتاءات‭ ‬مفتقدة‭ ‬إلى‭ ‬شروط‭ ‬الاستقلالية‭ ‬والحياد‭ ‬والنزاهة‭. ‬

لعل‭ ‬أهم‭ ‬مقومات‭ ‬الدستور‭ ‬الديمقراطي‭: ‬

أولاً‭ ‬ـ‭ ‬تأسيسه‭ ‬على‭ ‬مبدأ‭ ‬المواطنة‭ ‬الكاملة‭ ‬المتساوية‭ ‬والتسليم‭ ‬بأن‭ ‬الشعب‭ ‬مصدر‭ ‬السلطات

ولاسيادة‭ ‬لفرد‭ ‬أو‭ ‬قلة‭ ‬عليه‭ .‬

ثانياً‭ ‬ـ‭ ‬حكم‭ ‬القانون

ثالثاً‭ ‬ـ‭ ‬أن‭ ‬يحترم‭ ‬فيه‭ ‬فصل‭ ‬السلطات

رابعاً‭ ‬ـ‭ ‬تؤكد‭ ‬فيه‭ ‬الحقوق‭ ‬والحريات‭ ‬

خامساً‭ ‬ـ‭ ‬ان‭ ‬يتم‭ ‬الاعتراف‭ ‬بالتداول‭ ‬السلمي‭ ‬للسلطة‭ ‬بين‭ ‬الأغلبية‭ ‬والمعارضة‭. ‬هذا‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى

الطريقة‭ ‬التي‭ ‬يوضع‭ ‬بموجبها‭ ‬الدستور‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬جمعية‭ ‬وطنية‭ ‬تأسيسية‭ ‬منتخبة‭.‬

دستور‭ ‬الثورة‭ ‬التونسية‭ ‬حسم‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الدين‭ ‬والدولة

على‭ ‬غير‭ ‬عادة‭ ‬الثورات‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬جاءت‭ ‬ثورات‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭ ‬التي‭ ‬انطلقت‭ ‬من‭ ‬تونس‭ ‬أواخر‭ ‬العام‭ ‬2010‭ ‬مفاجئة‭ ‬للجميع،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬نوعيتها‭ ‬وأنها‭ ‬شعبية‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬قيادات‭ ‬سياسية‭ ‬أو‭ ‬فكرية،‭ ‬وإنما‭ ‬أيضا‭ ‬لأنها‭ ‬فتحت‭ ‬الباب‭ ‬لإعادة‭ ‬كتابة‭ ‬التاريخ‭ ‬السياسي‭ ‬الحديث‭ ‬والمعاصر‭ ‬للمنطقة‭ ‬العربية‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬مرور‭ ‬نحو‭ ‬عقد‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬على‭ ‬انطلاق‭ ‬هذه‭ ‬الثورات،‭ ‬مازال‭ ‬المفكرون‭ ‬وعلماء‭ ‬الاجتماع‭ ‬والسياسة‭ ‬يحاولون‭ ‬فهم‭ ‬ديناميكية‭ ‬الثورات‭ ‬العربية‭ ‬وأهم‭ ‬العوامل‭ ‬المؤثرة‭ ‬فيها‭ ‬وآفاقها‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭.‬

ضمن‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬يأتي‭ ‬كتاب‭ ‬المعهد‭ ‬العربي‭ ‬للديمقراطية‭ ‬بتونس،‭ “‬الدولة‭ ‬المدنية‭.. ‬التصور‭ ‬والواقع‭ ‬والممكن‭ “‬،‭ ‬الذي‭ ‬يعرض‭ ‬له‭ ‬الكاتب‭ ‬والباحث‭ ‬التونسي‭ ‬توفيق‭ ‬المديني،‭ ‬بدأه‭ ‬بقراءة‭ ‬في‭ ‬الثورة‭ ‬التونسية‭ ‬وشروط‭ ‬قيام‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬عربيا،‭ ‬ثم‭ ‬قراءة‭ ‬مشروع‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬كما‭ ‬يفهمه‭ ‬العرب،‭ ‬وانتهاء‭ ‬اليوم‭ ‬بالدستور‭ ‬التونسي‭ ‬كنموذج‭ ‬عربي‭ ‬للانتقال‭ ‬الديمقراطي‭.‬

أهمية‭ ‬الدستور‭ ‬الديمقراطي‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬

في‭ ‬الدستور‭ ‬التونسي‭ ‬الجديد،‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬التنصيص‭ ‬صراحة‭ ‬على‭ ‬أن‭ “‬الشريعة‭ ‬الإسلامية‭ ‬مصدر‭ ‬للتشريع‭”‬،‭ ‬بل‭ ‬تم‭ ‬الاكتفاء‭ ‬بالفصل‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬الدستور‭ ‬التونسي‭ ‬الذي‭ ‬وُضِعَ‭ ‬سنة‭ ‬1959،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬مشروع‭ ‬الدستور‭ ‬الجديد،‭ ‬حيث‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬الفصل‭ ‬الأول‭: “‬تونس‭ ‬دولة‭ ‬حرة،‭ ‬مستقلة،‭ ‬ذات‭ ‬سيادة،‭ ‬الإسلام‭ ‬دينها،‭ ‬والعربية‭ ‬لغتها،‭ ‬والجمهورية‭ ‬نظامها‭”‬،‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬الفصل‭ ‬الثاني‭: “‬تونس‭ ‬دولة‭ ‬مدنية،‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬المواطنة،‭ ‬وإرادة‭ ‬الشعب،‭ ‬وعلوية‭ ‬القانون‭”. ‬

وهكذا،‭ ‬فإن‭ ‬الإسلام‭ ‬هو‭ ‬دين‭ ‬الشعب‭ ‬التونسي،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ذكر‭ ‬أنه‭ ‬دين‭ ‬الدولة‭. ‬فهذه‭ ‬التوليفة‭ ‬الخلاقة‭ ‬التي‭ ‬ابتدعها‭ ‬الزعيم‭ ‬الراحل‭ ‬الحبيب‭ ‬بورقيبة‭ ‬شكلت‭ ‬الجسر‭ ‬إلى‭ ‬بناء‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬في‭ ‬تونس‭. ‬فهذا‭ ‬الفصل‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬دستور‭ ‬1959،‭ ‬والذي‭ ‬تم‭ ‬تبنيه‭ ‬بالكامل‭ ‬في‭ ‬الفصل‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬دستور‭ ‬2014‭ ‬ينص‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الإسلام‭ ‬هو‭ ‬دين‭ ‬التونسيين‭ ‬وليس‭ ‬عقيدة‭ ‬الدولة‭.‬

وتنظر‭ ‬النخب‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬التتويج‭ ‬الدولي‭ ‬لتونس‭ ‬بمنحها‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬للسلام‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬2015،‭ ‬عبر‭ ‬الرباعي‭ ‬الراعي‭ ‬للحوار‭ ‬الوطني،‭ ‬بأنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬صدفة‭ ‬ولا‭ ‬حدثًا‭ ‬طارئًا‭ ‬أو‭ ‬مفاجئًا‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬التتويج‭ ‬الطبيعي‭ ‬لمسار‭ ‬طويل‭ ‬من‭ ‬الحركة‭ ‬الإصلاحية‭ ‬التونسية‭ ‬بمدونتها‭ ‬التنويرية‭ ‬والتحديثية‭ ‬العميقة‭ ‬والعريقة،‭ ‬التي‭  ‬بدأت‭ ‬منذ‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر،‭ ‬واستمرت‭ ‬حتى‭ ‬حصول‭ ‬تونس‭ ‬على‭ ‬استقلالها‭ ‬في‭ ‬20‭ ‬آذار‭ (‬مارس‭) ‬1956‭.‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬لهذه‭ ‬الحركة‭ ‬الإصلاحية‭ ‬التنويرية‭ ‬محطات‭ ‬واضحة‭ ‬راكمت‭ ‬العمق‭ ‬التاريخي‭ ‬لتونس‭ ‬الذي‭ ‬بدأ‭ ‬مع‭ ‬دستور‭ ‬قرطاج‭ ‬ومدونة‭ ‬القديس‭ ‬سانت‭ ‬أغسطين‭ ‬وتأسيس‭ ‬بيت‭ ‬الحكمة‭ ‬في‭ ‬القيروان‭ ‬وجامع‭ ‬الزيتونة‭ ‬أعرق‭ ‬جامعات‭ ‬العالم‭ . ‬

خير‭ ‬الدين‭ ‬التونسي‭.. ‬رمز‭ ‬الإصلاح

منذ‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬العربية‭ ‬الأولى،‭ ‬يعتبرالمصلح‭ ‬خير‭ ‬الدين‭ ‬التونسي‭ ‬من‭ ‬أعظم‭ ‬المنظرين‭ ‬العرب‭ ‬لجهة‭ ‬مطالبته‭ ‬بضرورة‭ ‬اقتداء‭ ‬أقطار‭ ‬العرب‭ ‬الحديثة‭ ‬بفلسفة‭ ‬ونهج‭ ‬الحداثة‭ ‬الأوروبية‭ ‬الغربية،‭ ‬ومعرفة‭ ‬أساس‭ ‬قوة‭ ‬أوروبا‭ ‬وازدهارها،‭ ‬وبكيفية‭ ‬خاصة‭ ‬دور‭ ‬الدولة‭ ‬الحديثة‭ ‬ومؤسساتها‭ ‬السياسية‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬الحرية‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭. ‬وأسهم‭ ‬المصلح‭ ‬خير‭ ‬الدين‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬الدستور‭ ‬الأساسي‭ ‬،أو‭ ‬دستور‭ ‬عهد‭ ‬الأمان‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1861‭ ‬الذي‭ ‬يعتبر‭ ‬أول‭ ‬دستور‭ ‬عربي‭ ‬يقر‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الإسلام،‭ ‬وهو‭ ‬متكون‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬عشر‭ ‬فصلاً،‭ ‬ومئة‭ ‬وأربعة‭ ‬عشر‭  ‬مادة‭ ‬مرقمة‭ ‬حسب‭ ‬الطريقة‭ ‬الفرنسية‭. ‬

إنَ‭ ‬دستور‭ ‬عهد‭ ‬الأمان‭ ‬للعام‭ ‬1861،‭ ‬قَوَضَ‭ ‬سلطة‭ ‬الباي،‭ ‬وأصبحت‭ ‬تونس‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬دولة‭ ‬ملكية‭ ‬دستورية،‭ ‬إذ‭ ‬أن‭ ‬مجلس‭ ‬الشورى‭ ‬الأعلى‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يُصَدِقُ‭ ‬على‭ ‬إجراءات‭ ‬الحكومة‭ ‬قبل‭ ‬تنفيذها،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬السلطة‭ ‬الفعلية‭ ‬قد‭ ‬أصبحت‭ ‬في‭ ‬أيدي‭ ‬رئيس‭ ‬الحكومة،‭ ‬أو‭ ‬الوزير‭ ‬الأول‭ ‬حسب‭ ‬المصطلح‭ ‬الفرنسي‭. ‬ويضمن‭ ‬الدستور‭ ‬الأمن‭ ‬الكامل‭ ‬للأشخاص،‭ ‬والممتلكات،‭ ‬وشرف‭ ‬كل‭ ‬سكان‭ ‬المملكة،‭ ‬بصرف‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬ديانتهم،‭ ‬وجنسيتهم،‭ ‬وعرقهم‭. ‬وعندما‭ ‬اعتكف‭ ‬المصلح‭ ‬خير‭ ‬الدين‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬السياسي‭ ‬وضع‭ ‬كتابه‭ ‬الوحيد‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭ ‬بعنوان‭”‬أقوم‭ ‬المسالك‭ ‬في‭ ‬معرفة‭ ‬أحوال‭ ‬الممالك‭ “‬،‭ ‬نشر‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬العام‭ ‬1867،‭ ‬حيث‭ ‬لاقت‭  ‬ترجمة‭ ‬مقدمته‭ ‬بعنوان‭ ” ‬الإصلاحات‭ ‬الضرورية‭ ‬للدول‭ ‬الإسلامية‭ ” ‬صدى‭ ‬كبيرا‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬نظرا‭ ‬لما‭ ‬تنطوي‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬صياغة‭ ‬لمشروع‭ ‬نهضوي‭ ‬حديث‭.‬

ويعلق‭ ‬المفكر‭ ‬العربي‭ ‬البرت‭ ‬حوراني‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬بقوله‭: “‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬خير‭ ‬الدين‭ ‬وضع‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬وهو‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬الاعتقاد‭ ‬أنه‭ ‬يفعل‭ ‬للعصر‭ ‬الحديث‭ ‬ما‭ ‬فعله‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬لعصر‭ ‬أسبق‭. ‬فالمؤلفان‭ ‬تونسيان‭ ‬وضعا‭ ‬كتابيهما‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬عزلة‭ ‬عن‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية،‭ ‬وعالجا‭ ‬فيهما،‭ ‬كل‭ ‬على‭ ‬طريقته‭ ‬قضية‭ ‬نشوء‭ ‬الدول‭ ‬وسقوطها‭. ‬وقد‭ ‬قسم‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬كتابه‭ ‬إلى‭ ‬مقدمة‭ ‬لعرض‭ ‬المبادئ‭ ‬العامة‭ ‬وإلى‭ ‬أجزاء‭ ‬عدة‭. ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬التشابه‭ ‬يقف‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الحد‭. ‬ففيما‭ ‬يعني‭ ‬كتاب‭ ‬ابن‭ ‬خلدون،‭ ‬في‭ ‬معظمه،بتاريخ‭ ‬الدول‭ ‬الإسلامية،‭ ‬يعني‭ ‬كتاب‭ ‬خير‭ ‬الدين،‭ ‬في‭ ‬معظمه‭ ‬أيضاً،‭ ‬بتاريخ‭ ‬الدول‭ ‬الأوروبية‭ ‬وتركيبها‭ ‬السياسي‭ ‬وقوتها‭ ‬العسكرية‭”.‬

وشاع‭ ‬مفهوم‭ ‬الدستور‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬في‭ ‬عشرينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬مع‭ ‬الشيخ‭ ‬عبد‭ ‬العزيز‭ ‬الثعالبي،‭ ‬مؤسس‭ ‬الحزب‭ ‬الليبرالي‭ ‬الدستوري‭ ‬الذي‭ ‬قاوم‭ ‬الاستعمار‭ ‬الفرنسي‭ ‬،‭ ‬ثم‭ ‬استعاده‭ ‬وطوره‭ ‬ابتداءً‭ ‬من‭ ‬العام‭ ‬1934‭ ‬أبوالاستقلال‭ ‬الحبيب‭ ‬بورقيبه،‭ ‬بحيث‭ ‬بات‭ ‬يشكل‭ ‬عنصراً‭ ‬موجهاً‭ ‬في‭ ‬تأكيد‭ ‬الهوية‭ ‬السياسية‭ ‬التونسية‭.‬واتُخذ‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬وسيلة‭ ‬لبلوغ‭ ‬الحداثة‭ ‬القضائية‭ ‬والمؤسساتية،‭ ‬واندرج‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬قطيعة‭ ‬مع‭ ‬النظام‭ ‬الاستعماري‭ ‬ومع‭ ‬الاستبدادية‭ ‬البايوية‭ (‬نسبة‭ ‬إلى‭ ‬الباي‭) .‬لكن‭ ‬لم‭ ‬يبدأ‭ ‬الوطنيون‭ ‬بالتعبير‭ ‬بشكلٍ‭ ‬واضح‭ ‬عن‭ ‬ضرورة‭ ‬إنشاء‭ ‬مجلسٍ‭ ‬تأسيسي‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬وصولهم‭ ‬إلى‭ ‬عتبة‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬20‭ ‬آذار‭ (‬مارس‭) ‬1956‭.‬

ولما‭ ‬كان‭ ‬الحزب‭ ‬الحر‭ ‬الدستوري‭ ‬بزعامة‭ ‬الحبيب‭ ‬بورقيبة‭ ‬هو‭ ‬قائد‭ ‬مسيرة‭ ‬استقلال‭ ‬تونس‭ ‬وباني‭ ‬الدولة‭ ‬الحديثة،‭ ‬فقد‭ ‬طرح‭ ‬انتخاب‭ ‬المجلس‭ ‬التأسيسي‭ ‬،بهدف‭ ‬صياغة‭ ‬الدستورالجديد‭ ‬،فوجد‭ ‬الملك‭ ‬العجوزسيدي‭ ‬لامين‭  ‬نفسه‭ ‬مُجْبَراً‭ ‬تقريباً‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يوقع،‭ ‬في‭ ‬29‭ ‬كانون‭ ‬أول‭ (‬ديسمبر‭) ‬1956،‭ ‬وبختمه‭ ‬على‭ ‬أسفل‭ ‬صفحة‭ ‬المرسوم‭ ‬الذي‭ ‬دعا‭ ‬إلى‭ ‬الانتخابات‭ ‬في‭ ‬25‭ ‬مارس‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1956‭. ‬وقد‭ ‬حاول‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬ينقذ‭ ‬ما‭ ‬أمكنه‭ ‬بالحَدِ‭ ‬من‭ ‬صلاحيات‭ ‬المجلس‭ ‬التأسيسي‭ ‬وبتخصيصه‭ ‬بمهمة‭ ‬واحدة‭ ‬محددة‭ ‬بدقة‭:” ‬وضع‭ ‬دستورٍ‭ ‬خاص‭ ‬بمملكة‭ ‬تونس‭”.‬

بعد‭ ‬انتخاب‭ ‬المجلس‭ ‬التأسيسي،‭ ‬اجتمع‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬8‭ ‬نسان‭ (‬أبريل‭) ‬العام‭ ‬1956،‭ ‬في‭ ‬قاعة‭ ‬العرش‭ ‬في‭ ‬قصر‭ ‬باردو،‭ ‬بما‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬رمزية،‭ ‬انتخب‭ ‬بورقيبه‭ ‬رئيساً‭ ‬له‭. ‬وبعد‭ ‬ستة‭ ‬أيام‭ ‬أقر‭ ‬قانوناً‭ ‬دستورياً‭ ‬مولفاً‭ ‬من‭ ‬مادة‭ ‬وحيدة‭ ‬بثلاث‭ ‬فقرات،‭ ‬هو‭ “‬الدستور‭ ‬الصغير‭ ‬العام‭ ‬1956‭”. ‬وأدرك‭ ‬بورقيبه‭ ‬أن‭ ‬مسألة‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الدين‭ ‬والدولة‭ ‬قد‭ ‬تلهب‭ ‬النفوس‭ ‬وتحرك‭ ‬المشاعر‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬طائل‭ ‬لها،‭ ‬فأراد‭ ‬مُسَبَقاً‭ ‬أن‭ ‬يقفل‭ ‬باب‭ ‬النقاش‭. ‬هكذا‭ ‬جاءت‭ ‬الفقرة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬القانون‭ ‬الدستوري‭ ‬الصادر‭ ‬في‭ ‬14‭ ‬إبريل‭ ‬العام‭ ‬1956،‭ ‬والذي‭ ‬سوف‭ ‬تنقل‭ ‬حرفياً‭ ‬تقريباً‭ ‬في‭ ‬المادة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬دستور‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬يونيو‭ ‬العام‭ ‬1959‭ ‬تحفةً‭ ‬في‭ ‬الاقتضاب‭ ‬والغموض‭: “‬تونس‭ ‬دولة‭ ‬حرة‭ ‬مستقلة‭ ‬ذات‭ ‬سيادة‭. ‬الإسلام‭ ‬دينها‭ ‬والعربية‭ ‬لغتها‭”. ‬فالإسلام‭”‬دين‭ ‬دولة‭” ‬وليس‭ “‬دين‭ ‬الدولة‭”‬؛‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬تم‭”‬الاعتراف‭” ‬بحرية‭ ‬المعتقد‭ ‬وحرية‭ ‬ممارسة‭ ‬المعتقدات‭ “‬المحمية‭ ‬شرط‭ ‬ألا‭ ‬تخل‭ ‬بالنظام‭ ‬العام‭” (‬الفقرة‭ ‬الثالثة‭). ‬بالتالي‭ ‬لم‭ ‬يجعل‭ ‬الدستور‭ ‬من‭ ‬تونس‭ ‬دولةً‭ ‬لائكية،‭ ‬لكنها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬دولةً‭ ‬إسلامية‭. ‬كانت‭ ‬دولةً‭ ‬علمانية‭ (‬مدنية‭ ‬أو‭ ‬زمنية‭)‬،‭ ‬لأن‭ ‬الشريعة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬فيها‭ ‬مَصْدَرًا‭ ‬للتشريع‭ .‬أما‭ ‬الفقرة‭ ‬الثانية،‭ ‬وقد‭ ‬نصت‭ ‬على‭ ‬أن‭ “‬الشعب‭ ‬التونسي‭ ‬هو‭ ‬صاحب‭ ‬السيادة‭ ‬يباشرها‭ ‬على‭ ‬الوجه‭ ‬الذي‭ ‬يضبطه‭ ‬هذا‭ ‬الدستور‭”‬،‭ ‬ما‭ ‬نزع‭ ‬صلاحيات‭ ‬الباي؛‭ ‬بحيث‭ ‬ووجدت‭ ‬الملكية‭ ‬نفسها‭ ‬عملياً‭ ‬تتراجع‭ ‬إلى‭ ‬صفوف‭ ‬مؤسسةٍ‭ ‬عادية‭ ‬عامية‭.‬

عندما‭ ‬أطاح‭ ‬بورقيبة‭ ‬بالملكية‭ ‬وسلطة‭ ‬الباي‭ ‬في‭ ‬25‭ ‬تموز‭ / ‬يوليو‭ ‬1957،‭ ‬بإعلانه‭ ‬ميلاد‭ ‬الجمهورية‭ ‬التونسية،‭ ‬تغيرت‭ ‬المعطيات‭ ‬رأساً‭ ‬على‭ ‬عقب؛‭ ‬وبات‭ ‬على‭ ‬المجلس‭ ‬التأسيسي‭ ‬أن‭ ‬يستأنف‭ ‬الورشة‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬أوقفت‭ ‬في‭ ‬14‭ ‬نيسان‭ (‬أبريل‭) ‬العام‭ ‬1956‭. ‬وأنجز‭ ‬المجلس‭ ‬التأسيسي‭ ‬المنتخب‭ ‬في‭ ‬فجر‭ ‬الاستقلال‭ (‬1956‭ ‬ـ‭ ‬1959‭) ‬صياغة‭ ‬دستور‭ ‬عام‭ ‬1959،‭ ‬الذي‭ ‬احتل‭ ‬مكانة‭ ‬بارزة‭  ‬في‭ ‬تأسيس‭ ‬النظام‭ ‬الجمهوري،‭ ‬وبناء‭ ‬الدولة‭ ‬التونسية‭ ‬الحديثة‭ ‬التي‭ ‬تبنت‭  ‬فلسفة‭ ‬الحداثة‭ ‬بكل‭ ‬منطوياتها‭ ‬الفكرية،‭ ‬عبر‭ ‬تركيز‭ ‬أسس‭ ‬دولةٍ‭ ‬مدنية‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬العقلاني‭ ‬ـ‭ ‬الشرعي،‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬حتى‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬محصوراً‭ ‬فقط‭ ‬بالحداثة‭ ‬الغربية‭. ‬لكن‭ ‬المجلس‭ ‬التأسيسي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬أخفق‭ ‬في‭ ‬إرساء‭ ‬نظام‭ ‬ديمقراطي،‭ ‬وضمان‭ ‬الحقوق‭ ‬والحريات‭ ‬بشكل‭ ‬فعال‭. ‬واحتوى‭ ‬دستور‭ ‬سنة‭ ‬1959‭ ‬على‭ ‬64‭ ‬فصلا‭ ‬وأدخلت‭ ‬عليه‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬اللاحقة‭ ‬عديد‭ ‬التعديلات‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الحكم‭ ‬البورقيبي،‭ ‬ومنها‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬العهد‭ ‬النوفمبري‭  ‬وانتهي‭ ‬إلينا‭ ‬سنة‭ ‬2010‭ ‬قبيل‭ ‬الثورة‭ ‬مكونا‭ ‬من‭ ‬78‭ ‬فصلاً‭ .‬

إنَ‭ ‬التوقف‭ ‬عند‭ ‬هذه‭ ‬المحطات‭ ‬التاريخية‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ضروري‭ ‬بالنسبة‭ ‬للتونسيين‭ ‬اليوم‭ ‬وخاصة‭ ‬الجيل‭ ‬الجديد‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬لماذا‭ ‬حازت‭ ‬بلادهم‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل،‭ ‬فمنح‭ ‬هذه‭ ‬الجائزة‭ ‬الدولية‭ ‬الأولى‭ ‬لتونس‭ ‬ليس‭ ‬صدفة‭.‬فقد‭ ‬توفرت‭ ‬لتونس‭ ‬كل‭ ‬أسباب‭ ‬الإستثناء‭ ‬ونجاح‭ ‬التجربة‭ ‬الإنتقالية‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬لحد‭ ‬الان‭ ‬ونجاة‭ ‬البلاد‭ ‬من‭ ‬حرب‭ ‬أهلية،هو‭ ‬ثمرة‭ ‬هذا‭ ‬الإرث‭ ‬الطويل‭ ‬من‭ ‬تجذر‭ ‬المشروع‭ ‬الإصلاحي‭ ‬التونسي‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يبدأ‭ ‬اليوم‭ ‬ولا‭ ‬بالأمس،ولم‭ ‬يُولَدْ‭ ‬مع‭ ‬14‭ ‬جانفي‭/‬يناير‭ ‬2011،بل‭ ‬كان‭ ‬سلسلة‭ ‬حلقات‭ ‬متراكمة‭ ‬بدأت‭ ‬مع‭ ‬العصر‭ ‬القرطاجني‭ ‬والعربي‭ ‬الإسلامي‭ ‬وتجذر‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشرتحديدًا‭.‬إنها‭ ‬تونس‭ ‬العظيمة‭ ‬التي‭ ‬تتجدد‭ ‬ولا‭ ‬تموت‭ .‬

لقد‭ ‬كان‭ ‬الخطاب‭ ‬الديمقراطي‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬ضبابياً‭ ‬وملتبساً‭ ‬في‭ ‬مقولاته،‭ ‬فالأحزاب‭ ‬السياسية‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬مرجعياتها‭ ‬الفكرية‭ ‬والسياسية‭ ‬لم‭ ‬تركزعلى‭ ‬طرح‭ ‬أفكار‭ ‬الحرية‭ ‬الدستورية،‭ ‬والعلمانية،‭ ‬والمساواة‭ ‬المواطنية،‭ ‬وحقوق‭ ‬الانسان‭ ‬والمرأة،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يسع‭ ‬المرء‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يتساءل‭: ‬ما‭ ‬هي‭ ‬تلك‭ ‬الديموقراطية‭ ‬التي‭ ‬تتحدث‭ ‬عنها‭ ‬الطبقة‭ ‬السياسية‭ ‬التونسية‭ ‬والأحزاب‭ ‬السياسية‭ ‬،‭ ‬ما‭ ‬جوهرها‭ ‬وأسسها‭ ‬ومراميها،‭ ‬وكيف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تجمع‭ ‬تحت‭ ‬لوائها‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬المتناقضات‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬والسياسية‭ ‬وكل‭ ‬تلك‭ ‬التوجهات‭ ‬المتنافرة‭ ‬في‭ ‬الأهداف‭ ‬والغايات‭ ‬والمصالح؟‭ ‬هل‭ ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬يؤمن‭ ‬الجميع‭ ‬بالانتقال‭ ‬السلمي‭ ‬إلى‭ ‬نظام‭ ‬ديموقراطي‭ ‬ولو‭ ‬غير‭ ‬محدد‭ ‬الأهداف‭ ‬والأسس؟‭ ‬وهل‭ ‬سيلبي‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬حاجات‭ ‬وتطلعات‭ ‬هؤلاء‭ ‬دون‭ ‬الإخلال‭ ‬بالأمن‭ ‬السياسي‭ ‬أو‭ ‬الاجتماعي‭ ‬أو‭ ‬بمصالح‭ ‬كل‭ ‬فريق‭ ‬من‭ ‬الفرقاء؟‭ ‬كيف‭ ‬ستتأمن‭ ‬في‭ ‬نظام‭ ‬جامع‭ ‬مصالح‭ ‬الأغنياء‭ ‬والفقراء‭ ‬والطوائف‭ ‬والمؤمنين‭ ‬بحقوق‭ ‬الانسان‭ ‬والمرأة‭ ‬واولئك‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يعترفون‭ ‬بكل‭ ‬هذه‭ ‬الحقوق؟‭ ‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬استطاعت‭ ‬تونس‭ ‬أن‭ ‬تُصَحِحُ‭ ‬ربيع‭ “‬الثورات‭ ‬العربية‭”‬،‭ ‬وتُؤَكِدُ‭ ‬الاستثناء‭ ‬التونسي‭ ‬في‭ ‬تَفَرُدِهِ‭ ‬على‭ ‬الموافقة‭ ‬على‭ ‬دستور‭ ‬ديمقراطي‭ ‬وليبرالي‭ ‬وتوافقي‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬معاً،‭ ‬وهي‭ ‬بهذه‭ ‬الخطوة‭ ‬أنهت‭ ‬المرحلة‭ ‬الانتقالية‭ ‬بعد‭ ‬انتظار‭ ‬دام‭ ‬لنحو‭ ‬سنتين‭ ‬ونصف‭.‬إنهااللبنة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬مؤسسات‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬الديمقرطية‭ ‬التعددية،‭ ‬التي‭ ‬عجزت‭ ‬الأديولوجيات‭ ‬الشُمُولِيَة‭ (‬الإسلامية‭ ‬والقومية‭ ‬والماركسية‭) ‬عن‭ ‬بنائها‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬لكن‭ ‬الزعيم‭ ‬الراحل‭ ‬الحبيب‭ ‬بورقيبة‭ ‬المتشبع‭ ‬بالثقافة‭ ‬الفرنسية‭ ‬والمتأثر‭ ‬بكمال‭ ‬أتاتورك،‭ ‬كان‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬أرسى‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬ذات‭ ‬الاتجاه‭ ‬العلماني‭ ‬عند‭ ‬العرب،لا‭ ‬سيما‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬ليست‭ ‬بدولة‭ ‬عسكرية،‭ ‬وليست‭ ‬أيضاً‭ ‬بدولة‭ ‬دينية،‭ ‬لكنها‭ ‬ليست‭ ‬بالضرورة‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬دولة‭ ‬علمانية‭ ‬بالمعنى‭ ‬الغربي‭ ‬للكلمة‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Copyright © All rights reserved. | Newsphere by AF themes.