مع كتاب الباجي قائد السبسي “الحبيب بورقيبة المهم والأهم” في طبعته الأصلية بالفرنسية
1 min readد. أحمد الطويلي
نشر المرحوم الباجي قائد السبسي كتابه: Habib Bourguiba, le bon grain et l’ivraie عن دار الجنوب للنشر بتونس سنة 2009 قبل زهاء سنتين من الثورة، في 516 صفحة، خصص فيه 24 صفحة للصور التوثيقية جلها عن الزعيم الحبيب بورقيبة وعن العهد الذهبي للديبلوماسية التونسية وأعلماها من البورقيبيين الخلص، والوطنيين الأحرار الصادقين الذين غيروا مجرى التاريخ التونسي حسب عبارة المؤلف أمثال محمود الماطري وعلالة البلهوان والطاهر بن عمار والمنجي سليم والباهي الأدغم وأحمد التليلي والحبيب الابن بالإضافة إلى المؤلف، الشخصية الرئيسية في الكتاب، إلى جانب صور عن أحداث تاريخية مصيرية مثل القمم الرئاسية العربية التي قام فيها الزعيم الحبيب بورقيبة بدور إنساني لتوجيه السياسة العربية أو نقدها مثل قمة فاس وزيارات رؤساء عرب وغيرهم لتونس، وهي صور تمثل صفحات مجيدة في تاريخ الدولة التونسية.
فالكتاب شهادة الباجي قائد السبسي عن عصره، عن الزعيم بورقيبة أساسا وعلاقة المؤلف به، فئن كان الكتاب ترجمة للرئيس بورقيبة كما بالعنوان، فهو أيضا وخاصة ترجمة ذاتية للمؤلف من خلال علاقته الحميمية به، والحقائب الوزارية التي حملها، والمسؤولية الحزبية التي اضطلع بها، وهي كذلك شهادات ثمينة عن رجال ونساء ساهموا في تأسيس الدولة التونسية وهم بالخصوص أحمد التليلي والطيب المهيري والباهي الأدغم وعلي البلهوان والهادي نويرة وراضية الحداد وزوجتي الرئيس مفيدة ووسيلة ودور الأولى في الوقوف مع زوجها في ظروف صعبة، والثانية دورها في تسيير الدولة التونسية.
وفي الكتاب معلومات مفيدة عن ولادة المؤلف في سيدي بوسعيد وطفولته في حي باب سويقة ونشأته في حمام الأنف ودراسته بالصادقية ثم بفرنسا حيث تحصل على الإجازة في الحقوق سنة 1952، وابتدأت علاقته بالزعيم بورقيبة.
وقد أرخ الباجي لأحداث عايشها وساهم فيها من ذلك عندما كان وزيرا للداخلية أو ويزرا للخارجية عن السياسة الخارجية بتونس وبناء المغرب العربي وعلاقة تونس بالجزائر والمغرب وليبيا والعراق في عهد صدام حسين. ومن فصول الكتاب: مؤتمر المنستير واتفاقية جربة مع معمر القذافي في 12 جانفي 1974 وحكومة نويرة ثم حكومة مزالي. ويمدنا الباجي قائد السبسي بمعلومات مفيدة هي شهادات تاريخية حميمة تسلط الأضواء عن هذا العهد البورقيبي خاصة في آخر أيامه.
وينتهي الكتاب بدراسة مهمة عن البورقيبية وفلسفتها، وسر إشعاع الزعيم في البلاد التونسية والعالم، ويقوم إشعاعه على التونسة، والتعلق بالشخصية التونسية في جوهرها، والاعتزاز بتونس هذا البلد الصغير، المطل على البحر المتوسط، صاحب التراث الثقافي الفريد والذي يسلك طريق الوسطية والاعتدال بالاعتماد على العقل لا المشاعر والعاطفة والوجدان، ولا يعرف الإفراط ولا التفريط في مجالي السياسة والذين، ولا يؤمن بحرب الطبقات ولا بدكتاتورية البروليطاليا. فالتونسة تعني عند بورقيبة ثقافة الاعتدال والواقعية والوفاق والوسطية، وتعتمد سياسة الإقناع لا الإكراه والضغط والعنف، وتعتمد أساس ا المرحلية في السياسة وتقوم على الوحدة الوطنية والتضامن الاجتماعي. وهي سياسة تعتمد على الأهم قبل المهم، والدوام في بذل الجهد والصبر عليه وطول النفس، وإدراكه قيمة العمل وارتباط التقدم والرقي بالعلم والتكنولوجيا والاعتماد على التفكير لا على سلطان الهوى.
هي صفحات ذهبية عن سيرة الزعيم الحبيب بورقيبة وخاصة ما قدمه للدولة التونسية من أعمال منها إنشاؤه للدستور لا سيما منه الفصل الأول الذي يقول: “تونس دولة حرة مستقلة، ذات سيادةن الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها”. وكذلك ما أسداه للمرأة التونسية بفضل مجلة الأحوال الشخصية حالما اعتلى سدة الحكم. وكان الباجي تلميذا وفيا له في هذا الشأن باقتراحه خاصة قانون التسوية في الميراث بين المرأة والرجل.
وما يبرز في هذا الكتاب أن بورقيبة بطل تحرير الوطن ومؤسس دولة حيدثة ورجل الإصلاح في كل الميادين، وختم الباجي فصله عن بورقيبة بأن من بين معارضيه الأشداء الذين عانوا السجن والنفي اعترفوا بأنهم أولاده وتلامذته وأقروا له بالفضل أمثال محمد الشرفي ونور الدين بن خذر رحمهما الله، وأقروا بدوره العظيم في تحرير المجتمع التونسي، وبروز تونس في القرن العشرين دولة حداثية متقدمة.
كما خصص الباجي قائد السبسي مائة صفحة من كتابه لوثائق تاريخية مهمة تناهز العشرين وثيقة، لم ينشرها اعتباطا أو تضخيما للكتاب بل إضافة معتبرة تفيدنا عن الغاية الأساسية من نشرها، وهي، وإن كان الكتاب تمجيدا للرئيس بورقيبة، تبين سلبيات السياسة البورقيبية من حيث غياب الديمقراطية في ذلك العهد.
فقارئ الكتاب الذي كتب ونشر قبل أحداث الثورة- يتبين إيمان الباجي قائد السبسي بالديمقراطية إيمانا راسخا. فسيرته في المناصب الحزبية أو الوزارية التي تولاها تدل على اعتقاد شديد في ضرورة احترام المبادئ الديمقراطية في المؤسسة الحزبية والدولة. مما يشير إلى إخلاصه الكبير لمبادئه حينما تولى رئاسة الحكومة التونسية بعد الثورة ثم رئاسة الدولة، فكان على عهده مما يفسر نجاحه في تسييرها، ومن ثمة الجنازة الوطنية الرسمية المهيبة التي قادته إلى مثواه الأخير حذو مقام أبي الحسن الشاذلي في أعلى ربوة من الجلاز.
من هذه الوثائق الرسالة التي وجهها مع عشرة من المناضلين هم حسيب بن عمار وأحمد المستيري والطيب السحباني ومحمود المسعدي وراضية الحداد وعبد الحق الأسود ومحمد الصالح بلحاج وعبد الرزاق الرصاع والصادق بن جمعة، ينتقدون فيها سياسة الانفراد بالرأي وأجهزة الحكم التي بدأ يعتريها الوهن، ويدعون إلى توفير الضمانات الديمقراطية اللازمة للمواطن حتى يشارك مشاركة فعلية في الحياة الوطنية في جميع المراحل. في التصميم والإنجاز والمتابعة، ويصارحون الرئيس بأن الدولة التونسية قد ضعفت هيبتها، وتؤذن حالتها بالتدهور والانحطاط وينبهون إلى خطر المحسوبية والجهويات والانتمائيات والثراء الفاحش لبعض المحظوظين.
وأهم ملحق في الكتاب رسالة أحمد التليلي الزعيم النقابي إلى الرئيس بورقيبة في 25 جانفي 1966، وهي رسالة طويلة كتبها بالفرنسية، تمتد على مدى 25 صفحة من ص454 إلى ص479، فيها نقد صارخ للوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي بالبلاد التونسية، وتحليل موضوعي للمطبات التي تردت فيها تونس والمخاطر التي تهددها بسبب السياسة التي تخلت عن الديمقراطية، وقامت على التعسف الأمني وتدخل السلطة التنفيذية في السلطة التشريعية والعدالة، والانفراد بالرأي، وعدم السماح لتأسيس أحزاب وتسلط الحزب الواحد على الدولة وتغيب الحرية بأنواعها المختلفة.
وتبين رسالة التليلي الأخطاء والعيوب والداء الذي ينخر الدولة من أساسها، وعدم مشاركة الشباب في تسيير جهاز الدولة وتسلط الدولة على المنظمات التونسية من نقابية وغيرها خاصة منظمة الاتحاد التونسي للشغل. ويقدم التليلي أمثلة لذلك واضعا إصبعه على الخطر المهدد للدولة بالاضمحلال والفناء وداعيا للثقة في الشعب. وتنتهي الرسالة بالدعوة إلى “بناء ديمقراطية حقيقية في البلاد تضمن لها الاستقرار.. ليس للبلاد اليوم خيار آخر إلا إرساء تونس ديمقراطية ومستقرة دوما قابلة للتحقيق”.
ومن ملاحق الكتاب رسالة ضافية إلى فرحات عباس يبين له فيها الخطر الناجم من السياسة التي كان يتوخاها في عدم الدعوة إلى الاستقلال والاكتفاء بالانضمام إلى الاتحاد الفرنسي ويدعوه إلى تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي. كتب الرسالة من القاهرة في 29 جويلية 1946، وفي الملاحق رسالة أخرى وجهها الزعيم بورقيبة إلى معالي الحاج الزعيم الجزائري، مؤرخة في 28 جانفي 1959 يمجده فيها بأنه ضحى بالكثير في سبيل تحقيق حرية شعبه، وأنه أبو القومية الجزائرية، إذ كان رئيس الحركة الوطنية الجزائرية وهو حزب النجم بالشمال الأفريقي، دعاه إلى الانضمام إلى قوى الجزائر الحية والالتحاق بمنظمة التحريري الجزائرية بتونس ذاكرا أن طلب الاستقلال يحتم وحدة كل القوى والشخصيات الوطنية.
وفي الملاحق وثائق مهمة منها مقالة للباجي تبين سبب استقالته من خطة سفير بفرنسا في أكتوبر 1971 وذلك بسبب غياب المؤسسات الديمقراطية في الحكم، ومنها صفحات من كتب عن بورقيبة في السجن، وعن زيارته للملك عبد العزيز آل سعود وأخيرا بيان مناضلين وجهوا إليه في 13 أكتوبر 1972 ينتقدون فيه وضع الحزب الاشتراكي الدستوري ويقدمون له جملة من التدابير التي يجب اتخاذها للإصلاح منها أن شرعية النظام لا تكون إلا من إرادة الشعب، وتحرير وسائل الإعلام، والالتزام بقواعد الديمقراطية ومراجعة السياسة الاقتصادية وتشجيع المشاريع الطويلة المدى ومقاومة الجشع، والنظر إلى الشباب على أنه الشعب غدا “وهو الذي سيحيا في البلاد ويسيرها فتكون النظرة حينئذ إلى مسائل التشغيل والتكوين والتعليم” وأن هذا الشباب يحتاج إلى جانب ضرورياته المادية ضروريات روحانية وفكرية واجتماعية وسياسية.
وفي الكتاب ملاحق تاريخية مهمة أخرى تخص الجنرال ديغول والوحدة مع ليبيا التي أمضيت في جربة ورسالة الرئيس بورقيبة إلى ملوك ورؤساء الدول العربية، وتبلغ قائمة الوثائق عدد 21.