د.خالد شوكات: محمد فاضل الجمالي.. سياسي من زمن التفكير
1 min readد.خالد شوكات*
لا أذكر أي كتاب من كتبه الكثيرة على وجه التحديد، ذلك الذي وقعت عليه يداي وأنا تلميذ في السنة الأخيرة بالمدرسة الابتدائية ببلدتي “المزونة”، وجعلتني أكتشفه ويعلق اسمه بذهني مبكرا، فقد نسيت العنوان ويا لأفة النسيان، حتى مكنني الزمن من لقاء كثير من طلبته وأصدقائه من العراقيين والتونسيين، سمعت منهم شهادات شخصية مشرفة عنه، أكدت في مجملها ذلك الانطباع الإيجابي الذي تشكل في صباي عنه، فالدكتور محمد فاضل الجمالي (1903-1997) يستحق فعلا أن يكون أول شخصية غير تونسية تفرد لها “المصير” ملف أحد أعدادها، لاعتبارات كثيرة، لعل أهمها أنه شخصية سياسية من “زمن التفكير” في زمن انقطع فيه الساسة عن التفكير، وأنه كان طيلة حياته مثالا رائعا في القدرة على التوفيق بين التزامات المسؤولية السياسية وواجبات الموهبة الفكرية والتربوية.
واكب الدكتور فاضل الجمالي الذي قسم القدر حياته إلى نصف متساويين تقريبا، نصف في بلده الأم العراق أين ولد وترعرع وحقق مجده السياسي، ونصف آخر في بلده الثاني تونس أين توفاه الله عزيزا كريما كما يستحق وحقق كثيرا من مجده الفكري، وبين النصفين سنوات قضاها هنا وهناك، خصوصا بين لبنان وأمريكا أين أتم دراساته الجامعية، متوجا إياها بنيل أعلى الشهادات العلمية، الدكتوراه في الفلسفة، ولقد كان الرجل بهذه المسيرة الحافلة بالمنجزات والأحداث شاهدا على أهم قرون الزمان، القرن العشرين، قرن الحروب العالمية ونهاية الخلافة الإسلامية وخضوع البلاد العربية للسيطرة الاستعمارية، وظهور الدول الجديدة في المجال العربي الإسلامي وتحرر جلها من السيطرة الامبريالية، وتأسيس المنظمات الأممية الجامعة، عصبة الأمم ثم منظمة الأمم المتحدة، ثم سقوط جل الأنظمة الملكية العربية، وزرع الشجرة الخبيثة الصهيونية دولتها الاستيطانية في أقدس البلاد العربية الإسلامية، وما تلى ذلك من نكبات ونكسات وقعت على رؤوس العرب تباعا، وأخيرا التحولات التي رافقت سقوط المنظومة الشيوعية السوفياتية، والغزو الأمريكي الأول للعراق، والحروب القذرة والحصارات التي فرضت على الأقطار العربية المناهضة للسطوة الغربية..كل هذه التحولات وغيرها كان الجمالي رحمه الله أحد المشاركين في صنعها أو المحللين لها والمتابعين لآثارها، ومن هنا فنحن إزاء شخصية استثنائية بأتم معنى الكلمة، تستحق من الباحثين والمؤرخين الانكباب عليها والاستفادة منها.
تولى الدكتور محمد فاضل الجمالي منذ عودته من الخارج بأعلى الشهادات، عديد المسؤوليات في الدولة العراقية الجديدة التي تأسست عقب معاهدة العشرين، واعتمدت النظام الملكي ابتداء من ذلك التاريخ بقيادة الملك فيصل الأول ابن الشريف حسين ملك الحجاز، حتى الملك فيصل الثاني الذي اغتيل سنة 1958 وسقط بموجب اغتياله النظام الملكي برمته، وحكم على أهم رجاله بالإعدام ومن أهمهم الجمالي، الذي شغل منصب وزير أكثر من سبع مرات، وشغل منصب رئيس حكومة خلال الفترة من 1953 إلى 1954،وكان آخر موقع تصدى له وزير خارجية العراق في آخر حكومة لنوري السعيد، وهي آخر حكومات العراقية الملكية، ويشهد المؤرخون للجمالي بأنه كان من خيرة رجال العهد الملكي وأنظفهم وأفضلهم سيرة وعطاءا وأكثرهم إخلاصا للعراق والأمة العربية والإسلامية بأسرها.
ومما يذكره بعض المؤرخين، أن الزعيم الحبيب بورقيبة قد تشفع للدكتور الجمالي حتى لا يتم إعدامه، لدى قادة العراق الجدد، عبد الكريم قاسم ورفاقه، باعتباره رئيسا ومؤسسا للجمهورية التونسية، وقد دعاه إلى القدوم إلى تونس والاستقرار بها في رعايته الشخصية ورعاية الدولة التونسية، وقد عاش الرجل بين التونسيين كواحد منهم، مساهما في النهوض بالتعليم العالي كأحد أبرز أساتذة الجامعة التونسية التي تأسست في أفق مجيئه من سويسرا إلى بلادنا سنة 1964، وظل يمارسه وظيفته في التعليم والتفكير والكتابة حتى أحيل على التقاعد وجاءته المنية قبل انغلاق القرن العشرين بثلاث سنوات، حيث نشر طيلة هذه الفترة العديد من الكتب والمؤلفات والدراسات والمقالات، تدور بين المجالات المحببة إليه والمتفقة مع اهتماماته في التربية والنهوض الحضاري والشؤون الدولية والأممية،إن تخليد مسيرة رجل بحجم الدكتور محمد فاضل الجمالي، هو في واقع الأمر صرخة في وجه الرداءة التي آلت إليها أوضاع النخب السياسية في بلديه، العراق وتونس، حيث عمت الأمية وانحطت الأخلاق وتكرست مفاهيم منحرفة للعمل العام، فيما كان التوقع مخالفا تماما لمسارات الأحداث، فأي قياس بسيط لمستوى النخب فكريا ومعرفيا وأدبيا وأخلاقيا، بين حقبة ما بين الحربين الملكية، وقد كانت على قدر كبير من الليبرالية الديمقراطية، وهذه الحقبة الجمهورية التي يفترض اتسامها بذات الطبيعة التعددية التحررية، سيبدو الفرق شاسعا ومثيرا لصالح تلك النخب التي حكمت قبل قرن من الزمان شعوبا أمية في غالبها بينما كان المسؤولون في منتهى الرقي الأكاديمي والفكري والسياسي، فيما تظهر النخب الحالية في منتهى الضحالة أخلاقيا وسلوكيا، ناهيك عن تواضع مستواها التعليمي، على الرغم من أن الشعوب أصبحت في غالبيتها تقرأ وتكتب.
لقد كانت حياة الدكتور الجمالي نموذجا فريدا في انقلاب الموازين وتبدل الأحوال وصروف الزمان وصعود الأنظمة وهبوطها على الصعيدين الإقليمي والدولي، مثلما كانت على المستوى الشخصي نموذجا في الوفاء والخذلان والنكران وعدم النسيان، حيث دور الرجل في تأسيس الأمم المتحدة وما بذله من جهود في جعل العراق في خدمة أشقائه أبناء الشعوب العربية المستعمرة، إذ من الطرائف الحقيقية التي تذكر لهذه الشخصية شديدة الاعتزاز بهوية أمتها العربية الإسلامية، أنه وهو وزير للخارجية العراقية وقد كان في رئاسة وفد لدى الأمم المتحدة، اعترض سبيله وفد الحركة الوطنية التونسية هناك حيث جاء يبذل مساعيه للتعريف بقضيته وإدانة فرنسا الاستعمارية، فما كان من هذا العراقي الأصيل إلا أن ضم الوفد التونسي إلى الوفد العراقي، والعراق بلد مؤسس للأمم المتحدة سنة 1945، وهكذا تفاجأ المستعمرون الفرنسيون بأصوات تدينهم في مكان ظنوه آمنا إلى ذلك الحين. رحم الله فقيد العروبة والإسلام الوزير والمفكر والكاتب الدكتور محمد فاضل الجمالي .