محمد الصادق عبد اللطيف: الشاذلي القليبي.. النجم الذي هوى وعتاب على الوزارة وعلى قليبية
محمد الصادق عبد اللطيف
أولا: الإنسان وما بعده.. وهذا ما سوف نعرفه في هذا العرض.
ثانيا: لقد عرفنا التاريخ بأن الأمم الراقية تكتب تاريخها في كتب أربعة:
1) كتاب أعمالها.
2) كتاب أقوالها.
3) كتاب آثارها.
4) كتاب أعلامها.
ولا سيبل لفهم هذه الكتب إلا بالرجوع إلى الكتابين الأخيرين، والأمم الراقية تكبر أعلامها وترفع من شأنهم أحياء وأمواتا، وسي الشاذلي أحد أبرز أعلام تونس علما وثقافة ولطفا. عرفته الساحة الثقافية الوطنية منتصف القرن الماضي مناضلا ثقافيا وتربويا برز قبل الاستقلال كأحد أعضاء مجلة “الندوة” بتبريك من المدير محمد النيفر صاحب المجلة فكان ينشر فيها أفكاره ويطرح فيها قضايا ثقافية جديدة على الساحة الوطنية وأهمها قضية مفهوم الثقافة.
اشتغل بالتدريس في المعاهد الثانوية وكان يتحسس طريقه للنضال الثقافي والنقابي وحتى السياسي في احتشام.
كان أحد أعمدة مؤتمر صفاقس للحزب الحر الدستوري مكلفا بنقل الخطب والتدخلات والنقاش من المسجلة إلى الرقن، بدأ يظهر كوجه إعلامي من طراز خاص.
سطع نجمه لما انتدب للتدريس الجامعي بتونس في دار المعملين العليا بتونس من طرف الوزير الأمين الشابي باعتباره مبرزا في اللغة والآداب العربية وبعد الاستقلال انتدب مديرا للإذاعة التونسية وفيها حاول تجديديا العمل الإعلامي والسمعي، فأرسى نظاما تجديدا ببعث مجلة “الإذاعة” لنقل صوت الإذاعة مصورا ومكتوبا للعموم واستحدث برامج ترفيهية من نوع خاص وقد أحاط نفسه بنخبة نيرة من رجال الفكر والقلم والإعلام لوضع عملية التطوير ولعل أبرز برنامج كان قد أعده حمادي الصيد “سلوى البعيد” والذي استضاف فيه سي الشاذلي وتم نشره في أحد أعداد المجلة وتصوره لأفكاره التجديدية.
دخل مجال الرفع العملي من مستوى السكان فأسس في وزارة الثقافة ديوان تعليم الكهول ورفع الأمية وبعث التلفزة التربوية لتثقيف الشعب بدروس من القراءة والحساب والكتابة والتنقل إلى المدن والأرياف بالقافلة السينمائية والمكتبة المتجولة لنشر الوعي ورفع الجهل ودمج هذه القفزة بإحداث أسابيع الفن في جندوبة وتونس وصفاقس. ولمن يريد معرفة آثاره فليعد إلى16 مؤسسة ثقافية أحدثها وغرسها في جهات الجمهورية وما تزال إلى اليوم وإن كان بعضها قد تعطل وهدم وسرق بعده حين تولى بعضهم الوزارة فجمد بعضها وغير الآخر (كالشركة التونسية للنشر والتوزيع أو كمؤسسة السينما في قمرت) أو في صناعة الاسطنوانات في بن عروس.
أما الأسابيع الثقافية التي بعثها للخارج فهي رسالة ثقافية تعرف بالوطن وبتراثه وثقافته وما يحسب له ثقافيا هو تكوين لجنة علمية بارزة لمراجعة مخطوط اتحاف أهل الزمان لابن أبي الضياف ونشره في ثمانية أجزاء.
كان يصاحب الرئيس بورقيبة في جولاته العربية ويكون لسانه هناك عند الحاجة.
إن سيرة الشاذلي معددة الاختصاصات فهو الجامعي والسياسي والوزير المسؤول وهو عضو مجمع اللغة العربية في القاهرة. أنا أحتفظ بتذكار يعود إلى سنة 1973م عندما زار قليبية كي يتعرف على آثارها وانجازاتها الثقافية وهو المؤسس الفعلي لدار الشعب ومسرح الهواء الطلق وباعث مهرجان هواة السينما مع الدكتور إبراهيم الغربي رئيس البلدية تم ضبط هذه المؤسسة في مقهى بغداد بشارع بورقيبة بتونس مع الأخ عبد الحق الأسود بصفته متدربا حزبيا جهويا.
ومن صفاته الصمت والتأمل والرصانة وكان يحرر خطب بورقيبة في المناسبات الدينية (المولد النبوي) والخطب الرسمية التي سوف يلقيها الرئيس في المؤتمرات العربية خارج الوطن (بورقيبة لا يكتب خطبه الموجهة ألى التونسيين).
ترطبه صلة تراسل واتصالات هاتفية وكان يتشوق لمعرفة أصول العائلات القليبية الأصل، تقربت منه أكثر حين طلب منه كتابة كلمة عن المرحوم عبد الروؤف الخنيسي لنشرها في كتاب أعده عنه فاستجاب واقترحت عليه أيضا تقديم كتابي “المقتطف من تاريخ الخط العربي وأعلامه في تونس” لكن للأسف لم يتم هذا، وكان يرد علي بكلمات مقتضبة لكنها فاعلة وقد شكرني حين نشرت عنه مقالا في “الملحق الثقافي” لجريدة “الحرية” بصفته شاعرا 7/7/2007 فاستحسن العملية وأعلمني بأن ذاك الشعر هو يصور مرحلة الشباب ولعل له غيرها ومكتبه يعج بالمزيد ولعل كاتبه الخاص يفهرس تلك الخزانة ويشع على القراءة بما فيها أذكر أنه شارك كناقد حصيف في ندوة عقدتها مجلة “الفكر” لتقديم كتاب “السد” بمشاركة فتحية مزالي والمحجوب بن ميلاد والبشير العريبي وصاحب “السد” محمود
المسعدي.
وشارك أيضا في ندوة “الأدب العربي” بحضور الدكتور طه حسين سنة 1957 عندما جاء إلى تونس لحضور امتحان طلبة دار المعلمين العليا (السنة الأولى)، شارك في هذه الندوة مع محمود المسعدي وعلي البلهوان ونصها منشور في عددين من مجلة “الإذاعة التونسية” (5/1979 العدد 443 وعدد 444).
واشتغل بصدق كمسؤول طيلة عقود في كل المهام الي اضطلع بها وكان آخرها الأمانة العامة لجامعة الدول العربية في تونس واستقال منها حين رجوعها إلى مصر، كان ينتظر دعوة رسمية لقليبية لجمع شمل الأقارب والأصدقاء، وقد سعت جمعية السير الثقافية لدى السلطة المهنية لإطلاق اسمه على دار الثقافة تخليدا لمآثره التي نفتخر بها مارس 2020 ليرى الفرحة وهو حي، لكن البطء الإداري لم يقرأ حساب الموت فرحل سي الشاذلي ولم تصل الرسالة لتحقيق المطلب وهو عتاب على المسؤولين هنا (المعتمدية، الولاية، البلدية، وزارة الثقافة في هذا الإخفاق).
إن فقدنا سي الشاذلي فإن التاريخ سيتحدث عنه بكل قوة كشخص فاعل ثقافي وعن إنجازاته فيها الـ16 محطة ثقافية.
ألا فليرحمه الله ويعطف عليه ويجازيه خيرا.