1 يناير 2025

ما يحدث في الجنوب..أمراضنا تطفو على السطح!؟

 سناء (مدللة) بنضو
باحثة جامعية، المديرة التنفيذية للمعهد العربي للديمقراطية

يخطئ كل من يعتقد بأن ما حدث بين عرشي “المرازيق” (معتمدية دوز/ولاية قبلي) و”الحوايا” (معتمدية بني خداش/ ولاية مدنين) هو نتيجة التقلّبات التي استجدت خلال العقد الاخير ما بعد الثورة. إن كلّ ما فعلته الثورة في رأيي أنها أزاحت الغطاء عن الطنجرة المضغوطة، ذلك الغطاء الذي حرسته الأنظمة الاستبدادية السابقة منذ الاستقلال، وقمعت بوجوده كل الظواهر “ما دون الدولة” حتى لا تعيق عملية البناء الوطني الذي سَخَّر آلتي العصا والجزرة بديلا عن الوعي باهمية الدولة واحترام القانون عن قناعة، وكان في ذلك تأجيل للمشاكل أكثر مما هو تأسيس لوعي مدني دائم يؤمن حقّا بالدولة ويدين بالولاء التام لها.

ثمّةَ أيضا أمر آخر لا يقلّ أهمية يجب أن يقال، قبل المرور الى محاولة تحليل وما فهم ما استجدّ من وقائع مؤلمة أودت بحياة شابّ وإيذاء اجساد العشرات من المواطنين المغرر بهم، وهو أن النظام زمن الرئيسين بورقيبة وبن علي، لم يتجاوز منطقة “العروشية/القبلية” تماما، فقد فرض تقسيم اداري عصري بلا شك (ولايات/معتمديات/عمادات) على مختلف أنحاء البلاد، ولكنه تقسيم قام في جزء كبير منه على مراعاة البعد القبلي في ذلك، وليس ادلّ على ذلك من امتلاك كل عرش ولاية، فالقيروان مثلا هي ولاية “جلاص” وسيدي بوزيد هي ولاية “الهمامة” وصفاقس هي ولاية “المثاليث” فيما عدا المدينة التي لها “بلديّتها”، وهكذا، فان كانت العروش اصغر استوعبتها المعتمديات، فلير علي هي معتمدية “نفّات”، والمزونة هي معتمدية “المهاذبة”، والحامّة هي معتمدية “بني زيد”، ودوز هي معتمدية “المرازيق”، وبني خداش هي معتمدية “الحوايا”، وهكذا فإن كانت العروش أصغر وُظّفت “العمادة” لتكون في هذا المجال العروشي الممتد على غالبية التراب الوطني آلية لإشباع الانتماء القبلي. البعد الاخر الذي لا يمكن تجاهله هو أنه جرى إحلال “الجهوية/المناطقية” كعصبية عصرية لتحل محل “العروشية/القبلية” في توزيع السلطة والثروة، فتونس الساحلية المرفهة في مقابل تونس الداخلية المهمّشة، ما هي الا نتيجة سياسات تمييزية استعاضت عن اشكال قديمة للعصبية بأشكال جديدة لها، وأسست لمعادلات سوسيولوجية وتوازنات ادارية لم تخلو يوما من الاستعانة بالانتماءات التقليدية، فعندما يتعلق الامر مثلا باختيار مرشحي الحزب الحاكم للانتخابات البرلمانية ما قبل الثورة كانت مسألة التوازنات العروشية حاضرة، وهو ما استمر عليه الحال في انتخابات ما بعد الثورة التي اضحت باسم الواقعية السياسية تكاد تكون ممارسة “قبلية/مناطقية/عائلية” في المقام الاول.

ان معركة المشروع العصري، ممثلا بالأساس في عنصري الدولة المدنية والنظام الديمقراطي، هي معركة ضد المحدّدات الفاسدة للعقل السياسي العربي مثلما بيّن ذلك المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري في مشروعه نقد العقل العربي، وهي معركة طويلة وشاقة وغير مضمونة، وما مراحل الانتقال الديمقراطي مثل التي تعيشها تونس منذ عشر سنوات، الا مجالا زمنيا وجغرافيا لخوض مثل هذه المعارك، ومثلما يحدث في العراق منذ 2003، وفي سائر بلدان الربيع العربي منذ 2011، فان المتوقع دائما ان تساهم الحرية التي تُمارس خطأ في إبراز جميع العيوب والامراض التي كانت تنخر مجتمعاتنا ودولنا في العمق، ليتم احلال الموضوعي مكان الذاتي، والعقلاني مكان المزاجي والانطباعي، وعلى هذا النحو علينا ان نستعد دائما الى مواجهة مزيد من أمراضنا المستبطنة في اعماق “لاوعينا” بوعي جديد مستنير، وعلينا ان لا نرتعب حتى لا نفقد توازننا، فنور المستقبل كفيل بمحو ظلام الماضي والحاضر. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Copyright © All rights reserved. | Newsphere by AF themes.