ماجد البرهومي: أي مستقبل للميليشيات في ظل المسار التفاوضي الليبي؟
ماجد البرهومي
مع عودة الفرقاء في موطن عمر المختار إلى طاولة الحوار التي استعاضوا عنها خلال الفترة السابقة بالقنابل والقذائف والرصاص، تتبادر إلى الأذهان أسئلة عديدة تتعلق أساسا بترتيبات السلام المنشود الذي طال أمده وأرق الوصول إليه مضاجع الليبيين. ومن بين الاشكاليات التي تطرح اليوم تلك المتعلقة بمصير الميليشيات المتناحرة المدججة بكافة أنواع الأسلحة والتي اعتادت عناصرها على نمط معين من الحياة طيلة ما يقارب العقد من الزمان. كيف سيتم التعامل مع هذه الميليشيات في حال توصل الفرقاء الليبيون إلى اتفاق نهائي يعيد بناء ليبيا الجديدة بعد سنوات من التناحر والاقتتال الأهلي؟
إن ما يحصل اليوم في ليبيا من اقتتال أهلي مدعوم من أطراف خارجية، متبوع بوقف لإطلاق النار تليه مفاوضات بين الفرقاء برعاية دولية مع إمكانية التوصل إلى حل سلمي، عرفت دول أخرى قريبة من ليبيا وبعيدة عنها سيناريوهات مشابهة له مثل لبنان والعراق وأفغانستان والصومال والبوسنة والهرسك وحتى الولايات المتحدة في الماضي البعيد وغيرها، وبالتالي فأمام راعي الحوار الليبي تجارب عديدة يمكن الإستئناس بها في عملية حل مشكلة الميليشيات المسلحة. وتثبت التجارب المقارنة أنه وخلافا للأفراد المنتمين إلى هذه التنظيمات المسلحة فإن زعماء الميليشيات يمكن الحسم معهم بسهولة اعتبارا لمحدودية أعدادهم وأيضا لأن الأطراف الخارجية التي يوالونها والتي ستكون طرفا فاعلا في المفاوضات ستضمن لهم مواقع في المشهد السياسي المتشكل وامتيازات عديدة، وسيؤمنون هم بالمقابل لهذه القوى مصالحها السياسية والاقتصادية في البلد المعني.
فمفاتيح الحل هي بيد القوى الخارجية التي إن هي توصلت إلى صفقة تضمن مصالح كل الأطراف المتصارعة في الساحة الليبية فإن بلد عمر المختار سينعم بالهدوء والاستقرار والسكينة التي تضمن نهب ثرواته خلال العقود المقبلة دون مضايقات من أي طرف كان. وسيقبل زعماء الميليشيات بما تقرره الأطراف التي يوالونها في الخارج، قياسا بالتجارب المقارنة، فيما يتعلق بمستقبلهم وسيؤدون أدوارهم الجديدة في عالم السياسية طيعين، وحتى من يتم إبعاده منهم عن المشهد السياسي سينال من الثروة ما يضمن له التقاعد المريح، ويدرك هؤلاء تمام الإدراك أن معارضتهم للقوى الكبرى ستؤدي إلى التصفية الجسدية إن لزم الأمر مثلما حصل في تجارب سابقة.
وبالتالي فإن فرضية رفض زعماء الميليشيات لعملية تقرير مصيرهم، المفروضة من الخارج، وقياسا على تجارب سابقة، لا يبدو مطروحا، لأن هؤلاء لم يعودوا أسياد قرارهم منذ أن انخرطوا جبرا أو طواعية في هذه اللعبة الكبرى لخدمة أجندات الأطراف الفاعلة على الساحتين الإقليمية والدولية. ويبقى لهؤلاء هامش محدود من المناورة يقتصر على العمل على التواجد في أكثر ما يمكن من المواقع في المشهد السياسي الجديد، أو لرفع قدر المستطاع المقابل المالي الذي سيضمن لهم ذلك التقاعد المريح لينخرطوا بأكثر فعالية في الدورة الاقتصادية وفي عالم المال والأعمال بعيدا عن عالم الاقتتال.
أما فيما يتعلق بأفراد الميليشيات، ووفقا للتجارب المشابهة، فإن بعضهم سيدمج في القوى الحاملة للسلاح من شرطة وجيش ودرك، مع ما يقتضيه ذلك من عمل على تغيير عقيدة هؤلاء فيما يتعلق بالولاء للوطن وبالنظرة إلى أبناء شعبهم خلافا لما كان سائدا في نشاطهم ضمن الميليشيات. فمثلا لا يمكن لعنصر من عناصر الجيش أو الأمن أو الدرك أن يسعد بتدمير البنى التحتية والمنشآت العمومية وما تم تعميره في بلده مثلما حصل منذ سنوات في معركة مطار طرابلس على سبيل المثال، حين ابتهج عناصر ينتمون إلى هذه الميليشيات ورقصوا فرحا وزهوا بتدمير المطار الرئيسي في البلاد ونهب ما بداخله عىى أساس أنه غنيمة حرب وذلك بعد إخراج ميليشيا أخرى كانت تحكم السيطرة على هذا المطار.
ويمكن أن ينضم بعض أفراد هذه الميليشيات إلى الأحزاب السياسية التي قد يشكلها زعماء ميليشياتهم وينخرطوا في العمل السياسي مثلما حصل في بلدان عديدة عاشت تجارب مشابهة على غرار لبنان والعراق، فأغلب عناصر ميليشيا القوات اللبنانية التي كانت تمثل الذراع المسلح لحزب الكتائب تحولوا إلى العمل السياسي بعد أن أصبحت الميليشيا حزبا سياسيا قائما بذاته مستقلا عن كتائب آل الجميل ناهيك عن ميليشيا حزب الدعوة في العراق وعن الحشد الشعبي، التي تستعد للتحول إلى حزب سياسي والمشاركة في الانتخابات العراقية المقبلة. وسيكون قائد الميليشيا بحاجة إلى ولاء هؤلاء وخدماتهم في نشاطه السياسي، وسيكون هؤلاء أيضا بحاجة إلى أن تصرف لهم مكافآت مالية لخلق موارد الرزق سواء انخرطوا في العمل السياسي أو لم ينخرطوا باعتبار أن مسألة خلق موارد الرزق هي من أهم المعضلات التي ستواجه الباحثين عن الحلول لمسألة الميليشيات المسلحة.
ثلاثية الثأر والغنيمة والغلبة
وستكون هذه الميليشيات أيضا مجبرة على تسليم أسلحتها للدولة بعد أن تتشكل أجهزتها ومؤسساتها المنتخبة التي يجب أن يقبل بها الجميع من دون استثناء، وما لم تشكل هذه الأجهزة والمؤسسات وتحظى بثقة الليبيين سيكون من الصعب إقناع الميليشيات بأن تسلم أسلحتها. فالكل يخشى بعضه البعض ويخشى من الانتقام والانتقام المضاد في مجتمع قبلي يقوم على ثلاثية الثأر والغنيمة والغلبة على رأي الكاتب والباحث التونسي المتخصص في علم الاجتماع المنصف وناس والذي ورد في في كتابه عن “الشخصية الليبية”.
ولعل أكثر ما يهم هذه الميليشيات هو ضمان عدم الملاحقة القضائية لاحقا عن جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة خلال فترة الاقتتال وهي جرائم لا تسقط بالتقادم بمقتضى القانون الدولي حتى وإن تم الإتفاق على عدم التتبع بشأنها محليا. وهو ما تقره عديد المواثيق والمعاهدات الدولية على غرار النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي تم تبنيه في روما في تموز/يوليو سنة 1998 والذي يؤكد في المادة 29 منه على عدم سريان التقادم على الجرائم التي تندرج ضمن سلطة اختصاص المحكمة وهي الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب.
فمن المؤكد أن هذه المسألة ستكون ضمن أولويات الأطراف المتفاوضة باعتبار أن أغلب هذه الأطراف متورطة في هذا الأمر، وباعتبار أن الميليشيات لن تقبل بحل نفسها بنفسها وتسليم أسلحتها وسيف القضاء مسلط عليها. لذلك قد تعقد صفقة شبيهة بتلك التي حصلت في لبنان بعد انتهاء الحرب الأهلية والتي نجا بمقتضاها أمراء الحرب اللبنانيين من التتبع القضائي وكذا العناصر التي كانت منضوية تحت لوائهم، وكان من بين الناجين المشرف على مجزرة صبرا وشاتيلا إيلي حبيقة في حين طالت التتبعات سمير جعجع لأسباب معلومة من المطلعين على ملف الحرب الأهلية اللبنانية وما تلاها من أحداث.
لقد وثقت عديد المنظمات الحقوقية الليبية وغير الليبية انتهاكات لحقوق الإنسان وعديد الجرائم التي ترتقي إلى مستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية خلال الفترة الماضية، وهناك كتب ومجلدات بهذا الشأن تم حفظها، ويمكن اعتماد هذه التقارير والشهادات والصور والوثائق الواردة بها كأسانيد لرفع دعاوى في الخارج ضد مرتكبي هذه الجرائم التي لا تسقط بمرور الزمن. ولن تشفع لمرتكبي هذه الانتهاكات اتفاقات من المتوقع أن تحصل خلال مفاوضات السلام يلتزم بمقتضاها الفرقاء بضمان عدم الملاحقة القضائية للميليشيات قيادات وعناصر وغلق صفحة الحرب الأهلية دون محاسبة أي طرف.
ويعتبر هذا المسار التفاوضي الأمني من أهم المسارات للوصول إلى حل للمعضلة الليبية، باعتبار أن أزمة موطن عمر المختار هي بالأساس أزمة أمنية وهو ما يتطلب نجاح المسار الأمني أولا قبل الدخول في باقي الترتيبات وخصوصا تلك المتعلقة بالمسارين السياسي والاقتصادي. وعلى المجتمع المدني في هذا الإطار أن يلعب دورا بارزا في عملية نزع سلاح الميليشيات وتسريح عناصرها وإعادة ادماجهم لاحقا، لأن العملية صعبة وشديدة التعقيد وتتطلب إجراءات عديدة وضمانات وطرفا يحظى بالثقة من خارج رعاة الحوار الخارجيين، ولا يوجد من هو مؤهل للعب هذا الدور أكثر من المجتمع المدني الليبي الذي تطورت منظماته خلال السنوات الأخيرة واشتد عودها وانفتحت على محيطها وباتت قادرة على خوض غمار مثل هكذا مسارات.
- سبق النشر في موقع المستقبل العربي