د. خالد شوكات: في الإصرار على إغلاق الدائرة واستكمال المصالحة
د. خالد شوكات
لماذا أثار تعيين محمد الغرياني مستشارا لرئيس البرلمان الشيخ راشد الغنوشي كل هذا الجدل وأجج كل هذه النيران؟ لأن بعضنا لا يحمل للأسف أي مشروع غير الرهان على مزيد من العداوة والكراهية وتوسيع الفجوة بين التونسيين عامة، وبين الدساترة والإسلاميين خاصة، وسيستاء كثيرا لأي خطوة قد تقطع في الاتجاه المعاكس لرهانه غير السويّ، اتجاه المصالحة الوطنية الوطنية وإيجاد أرضية عمل مشتركة بين العائلتين الفكريتين والسياسيتين الأكبر والأعرق في البلاد، أرضية نحتاجها لتحقيق استقرار البلاد والديمقراطية، ونحتاجها كقاعدة للخروج من ضيق الصراع الايديولوجي إلى سعة التنافس البرامجي، وهو شرط امتلاك البلاد مشروعاً حضاريا وطنيا للتقدّم والازدهار.
هناك من القيادات الدستورية من يملك الوعي التاريخي الضروري لفهم هذه اللحظة الثورية، كما يملكون مرجعية أخلاقية تدفعهم إلى مسلك يركز على مصالح البلاد العليا في مقام أوّل ومصالح العائلة الدستورية المؤتمنة على تراث الحركة الوطنية الاصلاحية في مقام ثانٍ، ومن هذا المنطلق فقد رفضوا “الردّة الفاشية” المقترحة جراء الاستثمار في الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وتشبثوا بالمساهمة في إنجاح مسار الانتقال الديمقراطي، ومنح التيار الدستوري فرصة اعادة البناء الفكري والسياسي على نحو يضمن ديمومة التيار واستمراره، خلافا للحالمين بجعله مطيّة لحكم تسلطي فردي مرة ثانية، في جهل فادح بقواعد التاريخ الذي غالبا ما يأبى العودة للوراء.
لقد ظنّ بعضهم ان “نظرية الجد المشترك” قد طويت صفحتها، بمجرد رواج سوق “النظرية الفاشية”، وهو ظن سيسفهه الزمن مثلما سفهه وسيسفهه الشعب التونسي عبر صناديق الاقتراع، ذلك ان “الشعب العميق” (في سياق الدولة العميقة) متشبّث بقيم التوافق والمصالحة والعيش المشترك والجمع بين قيم الدين وقيم الوطن، وهو ما تفضي اليه كل قراءة متأنية لنتائج انتخابات 2011 و2014 و2019، اذ لم يمنح تيارا واحدا الغلبة، وصوّتَ لقوى الاعتدال والوسطية التي ترمز وتتبنى المصالحة بين بعدي الاصالة والمعاصرة، ومنح المتطرفين من كل العائلات موقعا هامشيا، وسيظل يفعلُ خلال الانتخابات القادمة.
لقد عملت أطراف متعددة على شيطنة تجربة التوافق باعتبارها احد العناوين البارزة والتجليات الواعدة لمشروع المصالحة، مستغلة بالدرجة الأولى تعثّر الأداء الحكومي، ولا شك أنه لو كان هذا الأداء افضل لانعكست نتائجه حتماً على صورة التوافق وسمعة المصالحة، كما الثابت ايضا انه لا صلة للتوافق او المصالحة بهذا الأداء الحكومي المتعثر، إنما السبب يعود بالتسلسل الى اختيارات سياسية خاطئة وازمة قيادة مستفحلة ومنظومة حزبية غير مكتملة وازمة اخلاقية خانقة مرّدها إنسان شوّهته المراحل السابقة وغرست فيه كما يفعل الاستبداد دائما جميع الرذائل.
إن المؤمنين بالحوار الوطني، والمتشبثين بمنهج توسيع دائرة المشتركات لا تعميق دائرة المختلفات، والمتمسكين بمشاريع المصالحة الوطنية لا الباحثين في مستنقعات الصدام والعداوة والمستثمرين في البغضاء والكراهية، لن يسقطوا راية التوافق بين التونسيين وسيحافظون ما وسعهم الجهد والطاقة على إرث المصلحين واخرهم الرئيس الباجي قائد السبسي في بناء الجبهات الوطنية التي تحمي الديمقراطية وتمهد البساط للتنمية العادلة والشاملة والمستدامة.
إغلاق دائرة الخصومة والخلاف والانقسام والمضي في سبيل التوافق والمصالحة هو الذي جنّب تونس ما سقطت فيه شعوب وبلدان كثيرة، وهو ما سنجد أدوات ووسائل لإمضائه وتوقيعه باستمرار، ولو كره الكارهون وثبّطَ المثبّطون، فخلطة الحضارة ان تجد البلاد تلك التوليفة الضرورية بين عناصر الوجود السياسي: الوطن والدين والعدل والحرّية، ودون هذه الخلطة وهذه التوليفة سنظل نراوح مكاننا في العالم الثالث، وهو ما لن نقبله ذلك أننا شعب طموح وخلّاق يستحقّ النهوض والتقدّم وسيقود سرب أمته نحو المستقبل الواعد .