الشاذلي القليبي: فاضل الجمالي، من عمالقة تاريخنا العربي الحديث
1 min readالشاذلي القليبي
لم تمض إلا أسابيع قليلة على وفاة صديقنا الفاضل الجمالي، ويخيل إلي أنها دهر طويل، إذ الرجل كان، منذ آماد بعيدة، في عداد عمالقة تاريخنا العربي الحديث.
والدكتور الجمالي من القلائل الذين ارتقوا، عن جدارة، وهم أحياء، منبر التاريخ، وبعد رحيلهم، بقيت نبضات فكرهم متواصلة الوهج، بلا انقطاع.
ومن حق الإعلام العربي المبادرة إلى إحياء ذكرى هذا الرجل الفذ، ذلك أن الجمالي لم يكن يرد، على من يصفه بضيف تونس، أنه تونسي محبة، وأصالة، واستحقاقا وأنه مقيم بها لمدة تقارب التي قضاها في بغداد. ولئن كان منح لقب مواطن تونسي، فقد كان يتصرف فعلا عن إحساس عميق بالإنتماء إلى المجتمع التونسي. ولا أعرف من التونسيين من كان أكثر منه حرصا على المساهمة في المنتديات الأدبية، وحضور المهرجانات المتنوعة، والاتصال الدائم بمختلف الشرائح الثقافية والدوائر السياسية، مع نشر المقالات في شتى المواضيع بالصحف اليومية.
والحقيقة أن اسم “فاضل الجمالي” كان له، عن بعد، رنينه لدى الجماهير التونسية، منذ أوائل الخمسينات، لما كان الشعب التونسي يخوض معركته الأخيرة في سبيل الاستقلال. وقد كان الجمالي إذاك يحضر مداولات الأمم المتحدة، ويتصدى للدفاع عن القضية التونسية، ويقدم إلى نواب الحركة الوطنية كل ما يستطيع من أنواع الدعم والمؤازرة. وكان التونسيون يترصدون، على أمواج الأثير، وبشغف، أخبار مداخلاته في مجلس الأمن أو في الجمعية العمومية. ويستمعون، بلهف، إلى ما يذاع من خطبه وتصريحاته. وفي ذلك العهد، الكلمة تقال عن تونس في أروقة المنظمة الدولية، كان لها مفعول سحري على الجماهير الشعبية: ترفع من معنوياتهم في مواجهة القمع، وتزيد المقاومين، في المدن والأرياف، تصميما وجرأة.
فأن يصدع مسؤول مرموق بالدفاع عن حق تونس في الحرية والكرامة، منددا بما يرتكبه الجيش الفرنسي في حق المدنيين العزل، لم يكن شيء من ذلك مألوفا قبل فاضل الجمالي- وأيضا، والحق يقال، قبل ظفر الله خان، وكذلك وزير الخارجية المصري محمد صلاح الدين الذي آواه وكرمه الرئيس أيضا، طيب الله ثراهم جميع. ولا عجب أن بقي ذكر الجمالي حيا في الذاكرة التونسية، في مختلف أنحاء البلاد. فقد حدثني- رحمه الله- أنه فوجئ، يوما بأن سمع تاجرا في أقصى الجنوب يذكر اسم الجمالي وفضله على تونس، قبل أنه يعرف أنه يتحدث إلى الجمالي نفسه.
وكان الفقيد محل تبجيل من قبل الدوائر الرسمية، وخاصة من لندن رئيس الدولة الذي كان يشق الجموع في الحفلات الرسمية لتحيته، أو ينزل من منصة الخطابة متوجها إليه في مكانه بالصف الأول من الجلوس، للتحدث معه.
وما سمعت يوما الدكتور الجمالي يتبجح بما أسداه للقضية التونسية، أو لقضايا المغرب العربي الكبير عامة. كان يعتقد أن ذلك من واجباته تجاه “الأمة”. فمنذ شبابه كان يؤمن بالأمة العربية، ووحدة مصير شعوبها. ولكنه لم يكن يفصل بينها وبين المجموعة الإسلامية. وكان شديد التأكيد على أن العروبة والإسلام صنوان وكلاهما سبيل إلى الإنسانية، لاشتراك هذه الروابط الثلاث في جملة من القيم والمبادئ، بدونهما لا تستقيم أي منها، وفي مقدمة هذه القيم والمبادئ التسامح والتضامن وشرف العقل.
ولئن كان يتحمس ويشتد في دفاعه عن القضايا العربية، فلم يكن ذلك تعصبا منه، بل استنادا إلى قيم أخلاقية ومبادئ فلسفية، آمن بها منذ أول شبابه، وهي تجعل في نظره الإنسان مكلفا بواجبات، ومقيدا بضوابط، في كل تصرفاته، وخاصة منها التي تتعلق بغيره من البشر.
أبلغ مثال عن ذلك دفاعه المتواصل عن قضية فلسطين، باعتبارها قضية عربية وإنسانية، في نفس الوقت، فكان الفقيد يكرس قلمه السيال، وفكره الذي لا يني، لإبراز فظاعة المعاملة التي يلقاها الشعب الفلسطيني. وكان لا يدع فرصة للإلحاح على أن ما فرض على هذا الشعب يتنافى والمبادئ التي قامت عليها الأمم المتحدة، في ميثاقها. والدكتور الجمالي من الموقعين عليه. وبوفاته تفقد وثيقة San Francisco آخر من كان على قيد الحياة من شهودها الموقعين عليها.
واحترام ميثاق الأمم المتحدة نقطة خلاف جوهري بين الجمالي والإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ سنة 1947. فقد كان- مثل الكثيرين من رجال السياسة والفكر العرب- يكن للشعب الأمريكي الإعجاب والمودة، لمساهماته العظيمة في شتى مجالات السلام والثقافة والحضارة، كما كان يكبر الدور السياسي الذي قامت به الولايات المتحدة، من خلال إعلان مبادئ Wilson، الذي فتح السبيل أمام الشعوب المولى عليها، لتقرر مصيرها بنفسها. لكن الجمالي كان يرى أن الدبلوماسية الأمريكية حادت عن هذه المبادئ، لما تعلق الأمر بالقضية الفلسطينية. وإني لأعرف حق المعرفة صداقة الفقيد للولايات المتحدة. وكنا كثيرا ما نتجاذب الحديث في ذلك، فنتفق في الرؤية، وفي تحليل الكثير من الجوانب المحيطة بالقضية. وأعرف أنه لم يكن يكدر صفو هذه العلاقة، لديه غير قضية هذا الشعب المهضوم الحق.. ثم أيضا.. ما يتحمله اليوم الشعب العراقي من جراء حصار اقتصادي كان يقول عنه إنه أخطر ما عرفه التاريخ الحديث، لا فحسب لأنه قاس، بل أيضا، وأولا وبالذات، لتوقع الجمالي أن ستكون له مخلفات وذيول في منتهى الخطورة على صحة الأجيال العراقية الصاعدة، وعلى كيفية تربيتهم، خاصة بما يزرع فيهم من مشاعر متشنجة تجاه الحياة، وتجاه الآخرين.
وكثيرا ما كان يراسل الجهات الرسمية في الولايات المتحدة، للفت نظرها إلى هذه أو تلك من القضايا العربية، مضيفا دوما إن ملاحظاته صادرة “صديق قديم يرجو (للولايات المتحدة) الخير والنجاح في سياستها الدولية”.
وكانت مقالات الجمالي سيلا لا ينضب، في الدعوة إلى رفع المعاناة عن الشعب العراقي، وكذلك عن الشعب الفلسطيني المجاهد. ولا شك أنه، لو بقي على قيد الحياة، لخصص هذه الأيام، مقالات بليغة للتشنيع بما يتركبه الجنود الإسرائيليون في ملاحقة أطفال مراهقين، وأشبال في مقتبل العمر، لا سلاح بأيديهم غير الحجارة. فيرمون بأنواع السلاح، الجارح منها والقاتل، بمسمع ومرأى من المجتمع الدولي. ورئيس الحكومة الإسرائيلية لا يأبه، إذا هو مقتنع أن لا أن لا معقب لأفعاله، ولا راد لقراراته. فهو لذلك لا يقيم وزنا لما يبدى، هنا أو هناك، في البلاد العربية أو في أوروبا، من استنكار وامتعاض. وقد قال لي الدكتور الجمالي غير مرة، ما معناه: المجتمع الدولي، بصمته أو إحجامه عن أي عمل، يطلق يد الحكومة الإسرائيلية، فكأنه يعطيها الحق في تجاوز الحق، ودوس القانون، وتجاهل الأعراف. وما ذلك إلا لأن أمن إسرائيل- بل ما يحلو لغلاة الصهاينة أن يعتبروه أمن إسرائيل- أصبح من المقدسات في هذا العصر. فلا يجرؤ أحد على استنكار أعمال ظالمة أو تصرفات خاطئة، خشية أن يتهم بتعريض أمن إسرائيل للخطر، فينعت باللاسامية، وتلحقه هذه الوصمة طوال حياته.
كان الجمالي رجل أخلاق ومبادئ، ولا شيء أكره إليه من تجاوز الحق، واستعمال القوة. وكان يرى في هاذين هدما للروح، وتقويضا لأساس الاجتماع. وهو، في ذلك، مسلم حقا.
ومن أهم القضايا المصيرية التي عني بها أستاذنا الجمالي النهوض بشعوبنا العربية، لتأخذ بأسباب الازدهار، وتقوى على الدود عن حياضها. ويرى أن البداية إنما تكون بإحياء القيم الأخلاقية، ونشر التربية الصحيحة، والثقافة الأصيلة، لإيقاظ الضمائر، وانتشال الجماهير من هوة التخلف.
وفي نظره، من أكبر أسباب التخلف، عندنا، جمود مناهج التعليم، وفقدانها للروح التربوية.
فكان يدعو إلى تأسيس النهضة على تعميم التعليم، وإصلاح المناهج، وغرس القيم الروحية والأخلاقية والاجتماعية. وإنما بذلك تنمو، في نظره، لدى الشعوب، روح التضحية، والغيرة على المثل العليا وسائر مقومات الأمة.
وكان يعتقد أن التربية والثقافة من أنجع وسائل العلاج لما تشكوه شعوبنا من تخلف وهوان. وقد كتب في ذلك قائلا- ولعله من أواخر ما صدر عنه- “أمتنا العربية اليوم مريضة بأمراض خطيرة، وأخطر أعراض المرض أنها لا تدري أنها مريضة..”.
وكان كثير الترداد لاقتراح صدع به في بعض كتاباته، وهو إنشاء “مجلس حكماء” لوضع اقتراحات أساسية، على ضوئها يتم النهوض بالأمة.
وصحيح أن الجمالي، في شبابه، تأثر بآراء الفيلسوف الأمريكي جون ديوي- JohnDewey- صاحب النظرية القائلة بمركزية دور التربية في تكوين المجتمعات، وإعطائها مراجع أخلاقية تكون لها بمثابة النبراس الهادي لها. لكن الجمالي كان، منذ فتوته، مسكونا بروح النضال من أجل عراق قوي حر كريم، ومن أجل أمة عزيزة متفتحة. وإنما هذا الهاجس هو الذي جعله يتجاوب مع النظرية التربوية، ويهضمها، ويتطلع إلى الاستفادة منها في معالجة الواقع العربي. وقد حاول ذلك عندما أسندت إليه مسؤوليات حكومية. فاضطلع بها بروح نضالية، بعيدا عن الرتابة، والضوابط التي تفرضها المناصب الرسمية. ذلك أنه كان يؤمن بأن المسؤوليات إنما هي وسيلة لتجسيد المبادئ الفلسفية والأخلاقية التي بدونها لا تستقيم شؤون المجمتع. واقتناعه برسالة التربية في المجتمع هو الذي جعله يعطي الأولوية لطريقة الحوار المفتوح في العلاقات الاجتماعية. فكان من أنصار الحريات داخل العراق. وكان، في علاقات العراق مع أجواره، يغلب منهج التشاور. وكانت له وقائع يرويها في هذا الصدد، ويتضح من بعضها أنه لم يكن على وفاق دائم مع رئيسه نوري السعيد، في خصوص التنظيمات الداخلية، ويستفاد من بعضها أيضا أنه بذلك جهودا شخصية لإقامة تعاون مع الأجوار، وربما للقيام بخطى أبعد من مجرد التعاون.
وذلك راجع إلى أنه كان يولي رابطة الحضارة بين شعوبنا مكانة متميزة ويرى أنها هي القادرة على لم شملها، وتقريب الشقة بينهم. فدعوته إلى إحياء ثقافتنا العربية الإسلامية في جوهر مقومات كان لا شك عن اعتزاز بها، ولكن كان أيضا لإيمانه أنها اللحمة بين شعوبنا ودولنا.
ولئن كان شديد الإعجاب بالثقافة الغربية، فقد كان أيضا حريصا كل الحرص على أصلة ثقافتنا، مع الدعوة إلى إذكائها بما يتلاءم وروحيتها من إيجابيات الثقافة العالمية. وكان يعيب على النظم المدرسية والجامعية عندنا تجاهلها لجذور الأمة. ويضرب لذلك مثلا قلة الاهتمام بتدريس القرآن والسنة في كليات الآداب والقانون والفلسفة، باعتبارها معينا من المعلومات اللغوية والبلاغية والفلسفية والقيم الأخلاقية، لا فقط مرجعا دينيا.
شخصية فاضل الجمالي كانت قوية، متعددة الجوانب، غزيرة الأبعاد. ولكن الذي يغلب عليها هو الوضوح: وضوح الرؤية، ووضوح المقصد، ووضوح الموقف. أمثال فاضل الجمالي لا يمكن نسيانهم. فبغض النظر عن قوة آرائه، ومتانة معرفته بالأمور، وثبات ذاكرته وهو في العقد العاشر من عمره، فإن للرجل إشعاعا يحببه إلى مخاطبيه، منذ أول لقاء، لبريق لحظه، وجزالة عبارته، ودائم حركته. لا يعرف الكلل، ولا يترك، عند الجلوس إليه، سبيلا للسأم. حديثه شيق، وملاحظاته مثيرة- سواء اتفقت معه أم اختلفت. يلتزم أدب الملوك: لا يأتيك متأخرا، ولا يغادر مستعجلا ولا متراخيا. يعطيك الانطباع أنك أنت المتفضل، سواء زرته أو كان هو الزائر. وفي لأصدقائه، ولو مر عليهم زمن، يذكرهم بخير، ويشيد بخصالهم، ويستذكر أيامهم.
وإني لأعرف محبته لوطنه العراق، وشوقه إلى بغداد، وحنينه إلى بيته على ضفاف دجلة، بما فيه من عزيز الأثاث ونفيس الكتب. وقد غادر العراق في ظروف معروفة، ولم يعد إليه قط. لكنه لازم واجب الحفاظ على الصمت، والإمساك عما يسيء إلى وطنه. وكان ذلك رغبة منه في عدم إحراج تونس، لا شك، ولكن أيضا لخلق فيه كريم، وهمة تربو عن مثل ذلك.
ولم يتعرض لشؤون العراق إلا بعد الهجمة التي أودت بأمنه، وضيقت من عيشه، ونالت من سلطانه على أرضه. فكان عندئذ يدافع عن شعبه، معتبرا أن الحصار الاقتصادي يسيء إلى مبادئ الأمم المتحدة، لأنه يسيء إلى شعب من شعوبها، في قوته وصحته ومستقبل أبنائه. لذلك رفض، سنة 1995، المشاركة في الاحتفال الذي أقامه المنتظم الأممي بمناسبة مرور خمسين سنة على تأسيسه، وكان قد دعي إلى ذلك باعتباره أحد المؤسسين الموقعين على وثيقة سان فرانسيسكو.
الذي يتبادر إلى الذهن، عند الحديث عن فاضل الجمالي، هو حيوية الفكر وحيوية البدن، إلى آخر أيام حياته. ويمكن أن يقال عنه إن الله أعطاه بسطة في الجسم والعقل: بسطة في الجسم، بأن متعه بالصحة والعافية طيلة حياته، وبسطة في العقل، لأنه بقي راجح الفكر، ثاقب النظر، إلى أن حان الأجل. وقد حسب يوما، في علته التي مات فيها، أن الأجل حان. فوقف على رجليه، في انتظار الانتقال إلى الرفيق الأعلى. ثم بعد ذلك قال لمتحدث إليه: كرهت أن ألقى الموت جالسا.
كان شديد المراس في الحق، لطيف المشائل في الصحبة والمودة، حيي الطبع، متسامحا في كل ما يتعلق بشخصه، لا يحمل كراهية لأحد. يقنع بالقليل، ويأنف أن يستزيد، مؤمنا من الأتقياء، لكن دون تظاهر ولا رياء، مرحا بالمزاج، أنيسا بالطبع، وحدانيا في الليل، يتفرغ للفكر والقلم والعبادة.
يتقي الله في عباده، ويقوم بواجباته في طي الخفاء، يعتبرها من خاصة حاله، وكمين صلته بخالقه.
تحسبه في سعة من العيش، وإنما ذلك من التعفف. أسبغ الله عليه شآبيب الرحمة والغفران وبوأه تعالى مكان الصدقين جزاء عما قدمه لأمته مفكرا جليلا، وفارسا من أكبر فرسان هذه الأمة، لن يفي بحقه مجرد الحديث. وإنا لله وإنا إليه راجعون.