28 ديسمبر 2024

الشاذلي القليبي: فاضل الجمالي، من عمالقة تاريخنا العربي الحديث

1 min read

الشاذلي‭ ‬القليبي

لم‭ ‬تمض‭ ‬إلا‭ ‬أسابيع‭ ‬قليلة‭ ‬على‭ ‬وفاة‭ ‬صديقنا‭ ‬الفاضل‭ ‬الجمالي،‭ ‬ويخيل‭ ‬إلي‭ ‬أنها‭ ‬دهر‭ ‬طويل،‭ ‬إذ‭ ‬الرجل‭ ‬كان،‭ ‬منذ‭ ‬آماد‭ ‬بعيدة،‭ ‬في‭ ‬عداد‭ ‬عمالقة‭ ‬تاريخنا‭ ‬العربي‭ ‬الحديث‭.‬

والدكتور‭ ‬الجمالي‭ ‬من‭ ‬القلائل‭ ‬الذين‭ ‬ارتقوا،‭ ‬عن‭ ‬جدارة،‭ ‬وهم‭ ‬أحياء،‭ ‬منبر‭ ‬التاريخ،‭ ‬وبعد‭ ‬رحيلهم،‭ ‬بقيت‭ ‬نبضات‭ ‬فكرهم‭ ‬متواصلة‭ ‬الوهج،‭ ‬بلا‭ ‬انقطاع‭.‬

ومن‭ ‬حق‭ ‬الإعلام‭ ‬العربي‭ ‬المبادرة‭ ‬إلى‭ ‬إحياء‭ ‬ذكرى‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬الفذ،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الجمالي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يرد،‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يصفه‭ ‬بضيف‭ ‬تونس،‭ ‬أنه‭ ‬تونسي‭ ‬محبة،‭ ‬وأصالة،‭ ‬واستحقاقا‭ ‬وأنه‭ ‬مقيم‭ ‬بها‭ ‬لمدة‭ ‬تقارب‭ ‬التي‭ ‬قضاها‭ ‬في‭ ‬بغداد‭. ‬ولئن‭ ‬كان‭ ‬منح‭ ‬لقب‭ ‬مواطن‭ ‬تونسي،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يتصرف‭ ‬فعلا‭ ‬عن‭ ‬إحساس‭ ‬عميق‭ ‬بالإنتماء‭ ‬إلى‭ ‬المجتمع‭ ‬التونسي‭. ‬ولا‭ ‬أعرف‭ ‬من‭ ‬التونسيين‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬أكثر‭ ‬منه‭ ‬حرصا‭ ‬على‭ ‬المساهمة‭ ‬في‭ ‬المنتديات‭ ‬الأدبية،‭ ‬وحضور‭ ‬المهرجانات‭ ‬المتنوعة،‭ ‬والاتصال‭ ‬الدائم‭ ‬بمختلف‭ ‬الشرائح‭ ‬الثقافية‭ ‬والدوائر‭ ‬السياسية،‭ ‬مع‭ ‬نشر‭ ‬المقالات‭ ‬في‭ ‬شتى‭ ‬المواضيع‭ ‬بالصحف‭ ‬اليومية‭.‬

والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬اسم‭ “‬فاضل‭ ‬الجمالي‭” ‬كان‭ ‬له،‭ ‬عن‭ ‬بعد،‭ ‬رنينه‭ ‬لدى‭ ‬الجماهير‭ ‬التونسية،‭ ‬منذ‭ ‬أوائل‭ ‬الخمسينات،‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬الشعب‭ ‬التونسي‭ ‬يخوض‭ ‬معركته‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬الاستقلال‭. ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬الجمالي‭ ‬إذاك‭ ‬يحضر‭ ‬مداولات‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬ويتصدى‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭ ‬القضية‭ ‬التونسية،‭ ‬ويقدم‭ ‬إلى‭ ‬نواب‭ ‬الحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يستطيع‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬الدعم‭ ‬والمؤازرة‭. ‬وكان‭ ‬التونسيون‭ ‬يترصدون،‭ ‬على‭ ‬أمواج‭ ‬الأثير،‭ ‬وبشغف،‭ ‬أخبار‭ ‬مداخلاته‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الجمعية‭ ‬العمومية‭. ‬ويستمعون،‭ ‬بلهف،‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يذاع‭ ‬من‭ ‬خطبه‭ ‬وتصريحاته‭. ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬العهد،‭ ‬الكلمة‭ ‬تقال‭ ‬عن‭ ‬تونس‭ ‬في‭ ‬أروقة‭ ‬المنظمة‭ ‬الدولية،‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬مفعول‭ ‬سحري‭ ‬على‭ ‬الجماهير‭ ‬الشعبية‭: ‬ترفع‭ ‬من‭ ‬معنوياتهم‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬القمع،‭ ‬وتزيد‭ ‬المقاومين،‭ ‬في‭ ‬المدن‭ ‬والأرياف،‭ ‬تصميما‭ ‬وجرأة‭.‬

فأن‭ ‬يصدع‭ ‬مسؤول‭ ‬مرموق‭ ‬بالدفاع‭ ‬عن‭ ‬حق‭ ‬تونس‭ ‬في‭ ‬الحرية‭ ‬والكرامة،‭ ‬منددا‭ ‬بما‭ ‬يرتكبه‭ ‬الجيش‭ ‬الفرنسي‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬المدنيين‭ ‬العزل،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬مألوفا‭ ‬قبل‭ ‬فاضل‭ ‬الجمالي‭- ‬وأيضا،‭ ‬والحق‭ ‬يقال،‭ ‬قبل‭ ‬ظفر‭ ‬الله‭ ‬خان،‭ ‬وكذلك‭ ‬وزير‭ ‬الخارجية‭ ‬المصري‭ ‬محمد‭ ‬صلاح‭ ‬الدين‭ ‬الذي‭ ‬آواه‭ ‬وكرمه‭ ‬الرئيس‭ ‬أيضا،‭ ‬طيب‭ ‬الله‭ ‬ثراهم‭ ‬جميع‭. ‬ولا‭ ‬عجب‭ ‬أن‭ ‬بقي‭ ‬ذكر‭ ‬الجمالي‭ ‬حيا‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬التونسية،‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬أنحاء‭ ‬البلاد‭. ‬فقد‭ ‬حدثني‭- ‬رحمه‭ ‬الله‭- ‬أنه‭ ‬فوجئ،‭ ‬يوما‭ ‬بأن‭ ‬سمع‭ ‬تاجرا‭ ‬في‭ ‬أقصى‭ ‬الجنوب‭ ‬يذكر‭ ‬اسم‭ ‬الجمالي‭ ‬وفضله‭ ‬على‭ ‬تونس،‭ ‬قبل‭ ‬أنه‭ ‬يعرف‭ ‬أنه‭ ‬يتحدث‭ ‬إلى‭ ‬الجمالي‭ ‬نفسه‭.‬

وكان‭ ‬الفقيد‭ ‬محل‭ ‬تبجيل‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الدوائر‭ ‬الرسمية،‭ ‬وخاصة‭ ‬من‭ ‬لندن‭ ‬رئيس‭ ‬الدولة‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يشق‭ ‬الجموع‭ ‬في‭ ‬الحفلات‭ ‬الرسمية‭ ‬لتحيته،‭ ‬أو‭ ‬ينزل‭ ‬من‭ ‬منصة‭ ‬الخطابة‭ ‬متوجها‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬مكانه‭ ‬بالصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬الجلوس،‭ ‬للتحدث‭ ‬معه‭.‬

وما‭ ‬سمعت‭ ‬يوما‭ ‬الدكتور‭ ‬الجمالي‭ ‬يتبجح‭ ‬بما‭ ‬أسداه‭ ‬للقضية‭ ‬التونسية،‭ ‬أو‭ ‬لقضايا‭ ‬المغرب‭ ‬العربي‭ ‬الكبير‭ ‬عامة‭. ‬كان‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬واجباته‭ ‬تجاه‭ “‬الأمة‭”. ‬فمنذ‭ ‬شبابه‭ ‬كان‭ ‬يؤمن‭ ‬بالأمة‭ ‬العربية،‭ ‬ووحدة‭ ‬مصير‭ ‬شعوبها‭. ‬ولكنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يفصل‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬المجموعة‭ ‬الإسلامية‭. ‬وكان‭ ‬شديد‭ ‬التأكيد‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬العروبة‭ ‬والإسلام‭ ‬صنوان‭ ‬وكلاهما‭ ‬سبيل‭ ‬إلى‭ ‬الإنسانية،‭ ‬لاشتراك‭ ‬هذه‭ ‬الروابط‭ ‬الثلاث‭ ‬في‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬والمبادئ،‭ ‬بدونهما‭ ‬لا‭ ‬تستقيم‭ ‬أي‭ ‬منها،‭ ‬وفي‭ ‬مقدمة‭ ‬هذه‭ ‬القيم‭ ‬والمبادئ‭ ‬التسامح‭ ‬والتضامن‭ ‬وشرف‭ ‬العقل‭.‬

ولئن‭ ‬كان‭ ‬يتحمس‭ ‬ويشتد‭ ‬في‭ ‬دفاعه‭ ‬عن‭ ‬القضايا‭ ‬العربية،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬تعصبا‭ ‬منه،‭ ‬بل‭ ‬استنادا‭ ‬إلى‭ ‬قيم‭ ‬أخلاقية‭ ‬ومبادئ‭ ‬فلسفية،‭ ‬آمن‭ ‬بها‭ ‬منذ‭ ‬أول‭ ‬شبابه،‭ ‬وهي‭ ‬تجعل‭ ‬في‭ ‬نظره‭ ‬الإنسان‭ ‬مكلفا‭ ‬بواجبات،‭ ‬ومقيدا‭ ‬بضوابط،‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬تصرفاته،‭ ‬وخاصة‭ ‬منها‭ ‬التي‭ ‬تتعلق‭ ‬بغيره‭ ‬من‭ ‬البشر‭.‬

أبلغ‭ ‬مثال‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬دفاعه‭ ‬المتواصل‭ ‬عن‭ ‬قضية‭ ‬فلسطين،‭ ‬باعتبارها‭ ‬قضية‭ ‬عربية‭ ‬وإنسانية،‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الوقت،‭ ‬فكان‭ ‬الفقيد‭ ‬يكرس‭ ‬قلمه‭ ‬السيال،‭ ‬وفكره‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يني،‭ ‬لإبراز‭ ‬فظاعة‭ ‬المعاملة‭ ‬التي‭ ‬يلقاها‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭. ‬وكان‭ ‬لا‭ ‬يدع‭ ‬فرصة‭ ‬للإلحاح‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬فرض‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الشعب‭ ‬يتنافى‭ ‬والمبادئ‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬عليها‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬في‭ ‬ميثاقها‭. ‬والدكتور‭ ‬الجمالي‭ ‬من‭ ‬الموقعين‭ ‬عليه‭. ‬وبوفاته‭ ‬تفقد‭ ‬وثيقة‭ ‬San Francisco‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭ ‬من‭ ‬شهودها‭ ‬الموقعين‭ ‬عليها‭.‬

واحترام‭ ‬ميثاق‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬نقطة‭ ‬خلاف‭ ‬جوهري‭ ‬بين‭ ‬الجمالي‭ ‬والإدارات‭ ‬الأمريكية‭ ‬المتعاقبة‭ ‬منذ‭ ‬سنة‭ ‬1947‭. ‬فقد‭ ‬كان‭- ‬مثل‭ ‬الكثيرين‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬السياسة‭ ‬والفكر‭ ‬العرب‭- ‬يكن‭ ‬للشعب‭ ‬الأمريكي‭ ‬الإعجاب‭ ‬والمودة،‭ ‬لمساهماته‭ ‬العظيمة‭ ‬في‭ ‬شتى‭ ‬مجالات‭ ‬السلام‭ ‬والثقافة‭ ‬والحضارة،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يكبر‭ ‬الدور‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬قامت‭ ‬به‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إعلان‭ ‬مبادئ‭ ‬Wilson،‭ ‬الذي‭ ‬فتح‭ ‬السبيل‭ ‬أمام‭ ‬الشعوب‭ ‬المولى‭ ‬عليها،‭ ‬لتقرر‭ ‬مصيرها‭ ‬بنفسها‭. ‬لكن‭ ‬الجمالي‭ ‬كان‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬الأمريكية‭ ‬حادت‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬المبادئ،‭ ‬لما‭ ‬تعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بالقضية‭ ‬الفلسطينية‭. ‬وإني‭ ‬لأعرف‭ ‬حق‭ ‬المعرفة‭ ‬صداقة‭ ‬الفقيد‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة‭. ‬وكنا‭ ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬نتجاذب‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬فنتفق‭ ‬في‭ ‬الرؤية،‭ ‬وفي‭ ‬تحليل‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الجوانب‭ ‬المحيطة‭ ‬بالقضية‭. ‬وأعرف‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يكدر‭ ‬صفو‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة،‭ ‬لديه‭ ‬غير‭ ‬قضية‭ ‬هذا‭ ‬الشعب‭ ‬المهضوم‭ ‬الحق‭.. ‬ثم‭ ‬أيضا‭.. ‬ما‭ ‬يتحمله‭ ‬اليوم‭ ‬الشعب‭ ‬العراقي‭ ‬من‭ ‬جراء‭ ‬حصار‭ ‬اقتصادي‭ ‬كان‭ ‬يقول‭ ‬عنه‭ ‬إنه‭ ‬أخطر‭ ‬ما‭ ‬عرفه‭ ‬التاريخ‭ ‬الحديث،‭ ‬لا‭ ‬فحسب‭ ‬لأنه‭ ‬قاس،‭ ‬بل‭ ‬أيضا،‭ ‬وأولا‭ ‬وبالذات،‭ ‬لتوقع‭ ‬الجمالي‭ ‬أن‭ ‬ستكون‭ ‬له‭ ‬مخلفات‭ ‬وذيول‭ ‬في‭ ‬منتهى‭ ‬الخطورة‭ ‬على‭ ‬صحة‭ ‬الأجيال‭ ‬العراقية‭ ‬الصاعدة،‭ ‬وعلى‭ ‬كيفية‭ ‬تربيتهم،‭ ‬خاصة‭ ‬بما‭ ‬يزرع‭ ‬فيهم‭ ‬من‭ ‬مشاعر‭ ‬متشنجة‭ ‬تجاه‭ ‬الحياة،‭ ‬وتجاه‭ ‬الآخرين‭.‬

وكثيرا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يراسل‭ ‬الجهات‭ ‬الرسمية‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬للفت‭ ‬نظرها‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬من‭ ‬القضايا‭ ‬العربية،‭ ‬مضيفا‭ ‬دوما‭ ‬إن‭ ‬ملاحظاته‭ ‬صادرة‭ “‬صديق‭ ‬قديم‭ ‬يرجو‭ (‬للولايات‭ ‬المتحدة‭) ‬الخير‭ ‬والنجاح‭ ‬في‭ ‬سياستها‭ ‬الدولية‭”.‬

وكانت‭ ‬مقالات‭ ‬الجمالي‭ ‬سيلا‭ ‬لا‭ ‬ينضب،‭ ‬في‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬رفع‭ ‬المعاناة‭ ‬عن‭ ‬الشعب‭ ‬العراقي،‭ ‬وكذلك‭ ‬عن‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬المجاهد‭. ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬أنه،‭ ‬لو‭ ‬بقي‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة،‭ ‬لخصص‭ ‬هذه‭ ‬الأيام،‭ ‬مقالات‭ ‬بليغة‭ ‬للتشنيع‭ ‬بما‭ ‬يتركبه‭ ‬الجنود‭ ‬الإسرائيليون‭ ‬في‭ ‬ملاحقة‭ ‬أطفال‭ ‬مراهقين،‭ ‬وأشبال‭ ‬في‭ ‬مقتبل‭ ‬العمر،‭ ‬لا‭ ‬سلاح‭ ‬بأيديهم‭ ‬غير‭ ‬الحجارة‭. ‬فيرمون‭ ‬بأنواع‭ ‬السلاح،‭ ‬الجارح‭ ‬منها‭ ‬والقاتل،‭ ‬بمسمع‭ ‬ومرأى‭ ‬من‭ ‬المجتمع‭ ‬الدولي‭. ‬ورئيس‭ ‬الحكومة‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬لا‭ ‬يأبه،‭ ‬إذا‭ ‬هو‭ ‬مقتنع‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬معقب‭ ‬لأفعاله،‭ ‬ولا‭ ‬راد‭ ‬لقراراته‭. ‬فهو‭ ‬لذلك‭ ‬لا‭ ‬يقيم‭ ‬وزنا‭ ‬لما‭ ‬يبدى،‭ ‬هنا‭ ‬أو‭ ‬هناك،‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬العربية‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬أوروبا،‭ ‬من‭ ‬استنكار‭ ‬وامتعاض‭. ‬وقد‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬الدكتور‭ ‬الجمالي‭ ‬غير‭ ‬مرة،‭ ‬ما‭ ‬معناه‭: ‬المجتمع‭ ‬الدولي،‭ ‬بصمته‭ ‬أو‭ ‬إحجامه‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬عمل،‭ ‬يطلق‭ ‬يد‭ ‬الحكومة‭ ‬الإسرائيلية،‭ ‬فكأنه‭ ‬يعطيها‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬تجاوز‭ ‬الحق،‭ ‬ودوس‭ ‬القانون،‭ ‬وتجاهل‭ ‬الأعراف‭. ‬وما‭ ‬ذلك‭ ‬إلا‭ ‬لأن‭ ‬أمن‭ ‬إسرائيل‭- ‬بل‭ ‬ما‭ ‬يحلو‭ ‬لغلاة‭ ‬الصهاينة‭ ‬أن‭ ‬يعتبروه‭ ‬أمن‭ ‬إسرائيل‭- ‬أصبح‭ ‬من‭ ‬المقدسات‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العصر‭. ‬فلا‭ ‬يجرؤ‭ ‬أحد‭ ‬على‭ ‬استنكار‭ ‬أعمال‭ ‬ظالمة‭ ‬أو‭ ‬تصرفات‭ ‬خاطئة،‭ ‬خشية‭ ‬أن‭ ‬يتهم‭ ‬بتعريض‭ ‬أمن‭ ‬إسرائيل‭ ‬للخطر،‭ ‬فينعت‭ ‬باللاسامية،‭ ‬وتلحقه‭ ‬هذه‭ ‬الوصمة‭ ‬طوال‭ ‬حياته‭.‬

كان‭ ‬الجمالي‭ ‬رجل‭ ‬أخلاق‭ ‬ومبادئ،‭ ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬أكره‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬تجاوز‭ ‬الحق،‭ ‬واستعمال‭ ‬القوة‭. ‬وكان‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬هاذين‭ ‬هدما‭ ‬للروح،‭ ‬وتقويضا‭ ‬لأساس‭ ‬الاجتماع‭. ‬وهو،‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬مسلم‭ ‬حقا‭.‬

ومن‭ ‬أهم‭ ‬القضايا‭ ‬المصيرية‭ ‬التي‭ ‬عني‭ ‬بها‭ ‬أستاذنا‭ ‬الجمالي‭ ‬النهوض‭ ‬بشعوبنا‭ ‬العربية،‭ ‬لتأخذ‭ ‬بأسباب‭ ‬الازدهار،‭ ‬وتقوى‭ ‬على‭ ‬الدود‭ ‬عن‭ ‬حياضها‭. ‬ويرى‭ ‬أن‭ ‬البداية‭ ‬إنما‭ ‬تكون‭ ‬بإحياء‭ ‬القيم‭ ‬الأخلاقية،‭ ‬ونشر‭ ‬التربية‭ ‬الصحيحة،‭ ‬والثقافة‭ ‬الأصيلة،‭ ‬لإيقاظ‭ ‬الضمائر،‭ ‬وانتشال‭ ‬الجماهير‭ ‬من‭ ‬هوة‭ ‬التخلف‭.‬

وفي‭ ‬نظره،‭ ‬من‭ ‬أكبر‭ ‬أسباب‭ ‬التخلف،‭ ‬عندنا،‭ ‬جمود‭ ‬مناهج‭ ‬التعليم،‭ ‬وفقدانها‭ ‬للروح‭ ‬التربوية‭.‬

فكان‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬تأسيس‭ ‬النهضة‭ ‬على‭ ‬تعميم‭ ‬التعليم،‭ ‬وإصلاح‭ ‬المناهج،‭ ‬وغرس‭ ‬القيم‭ ‬الروحية‭ ‬والأخلاقية‭ ‬والاجتماعية‭. ‬وإنما‭ ‬بذلك‭ ‬تنمو،‭ ‬في‭ ‬نظره،‭ ‬لدى‭ ‬الشعوب،‭ ‬روح‭ ‬التضحية،‭ ‬والغيرة‭ ‬على‭ ‬المثل‭ ‬العليا‭ ‬وسائر‭ ‬مقومات‭ ‬الأمة‭. ‬

وكان‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬التربية‭ ‬والثقافة‭ ‬من‭ ‬أنجع‭ ‬وسائل‭ ‬العلاج‭ ‬لما‭ ‬تشكوه‭ ‬شعوبنا‭ ‬من‭ ‬تخلف‭ ‬وهوان‭. ‬وقد‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬قائلا‭- ‬ولعله‭ ‬من‭ ‬أواخر‭ ‬ما‭ ‬صدر‭ ‬عنه‭- “‬أمتنا‭ ‬العربية‭ ‬اليوم‭ ‬مريضة‭ ‬بأمراض‭ ‬خطيرة،‭ ‬وأخطر‭ ‬أعراض‭ ‬المرض‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تدري‭ ‬أنها‭ ‬مريضة‭..”.‬

وكان‭ ‬كثير‭ ‬الترداد‭ ‬لاقتراح‭ ‬صدع‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬كتاباته،‭ ‬وهو‭ ‬إنشاء‭ “‬مجلس‭ ‬حكماء‭” ‬لوضع‭ ‬اقتراحات‭ ‬أساسية،‭ ‬على‭ ‬ضوئها‭ ‬يتم‭ ‬النهوض‭ ‬بالأمة‭.‬

وصحيح‭ ‬أن‭ ‬الجمالي،‭ ‬في‭ ‬شبابه،‭ ‬تأثر‭ ‬بآراء‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الأمريكي‭ ‬جون‭ ‬ديوي‭- ‬JohnDewey‭- ‬صاحب‭ ‬النظرية‭ ‬القائلة‭ ‬بمركزية‭ ‬دور‭ ‬التربية‭ ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬المجتمعات،‭ ‬وإعطائها‭ ‬مراجع‭ ‬أخلاقية‭ ‬تكون‭ ‬لها‭ ‬بمثابة‭ ‬النبراس‭ ‬الهادي‭ ‬لها‭. ‬لكن‭ ‬الجمالي‭ ‬كان،‭ ‬منذ‭ ‬فتوته،‭ ‬مسكونا‭ ‬بروح‭ ‬النضال‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬عراق‭ ‬قوي‭ ‬حر‭ ‬كريم،‭ ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬أمة‭ ‬عزيزة‭ ‬متفتحة‭. ‬وإنما‭ ‬هذا‭ ‬الهاجس‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬جعله‭ ‬يتجاوب‭ ‬مع‭ ‬النظرية‭ ‬التربوية،‭ ‬ويهضمها،‭ ‬ويتطلع‭ ‬إلى‭ ‬الاستفادة‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬معالجة‭ ‬الواقع‭ ‬العربي‭. ‬وقد‭ ‬حاول‭ ‬ذلك‭ ‬عندما‭ ‬أسندت‭ ‬إليه‭ ‬مسؤوليات‭ ‬حكومية‭. ‬فاضطلع‭ ‬بها‭ ‬بروح‭ ‬نضالية،‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬الرتابة،‭ ‬والضوابط‭ ‬التي‭ ‬تفرضها‭ ‬المناصب‭ ‬الرسمية‭. ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يؤمن‭ ‬بأن‭ ‬المسؤوليات‭ ‬إنما‭ ‬هي‭ ‬وسيلة‭ ‬لتجسيد‭ ‬المبادئ‭ ‬الفلسفية‭ ‬والأخلاقية‭ ‬التي‭ ‬بدونها‭ ‬لا‭ ‬تستقيم‭ ‬شؤون‭ ‬المجمتع‭. ‬واقتناعه‭ ‬برسالة‭ ‬التربية‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬جعله‭ ‬يعطي‭ ‬الأولوية‭ ‬لطريقة‭ ‬الحوار‭ ‬المفتوح‭ ‬في‭ ‬العلاقات‭ ‬الاجتماعية‭. ‬فكان‭ ‬من‭ ‬أنصار‭ ‬الحريات‭ ‬داخل‭ ‬العراق‭. ‬وكان،‭ ‬في‭ ‬علاقات‭ ‬العراق‭ ‬مع‭ ‬أجواره،‭ ‬يغلب‭ ‬منهج‭ ‬التشاور‭. ‬وكانت‭ ‬له‭ ‬وقائع‭ ‬يرويها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد،‭ ‬ويتضح‭ ‬من‭ ‬بعضها‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬على‭ ‬وفاق‭ ‬دائم‭ ‬مع‭ ‬رئيسه‭ ‬نوري‭ ‬السعيد،‭ ‬في‭ ‬خصوص‭ ‬التنظيمات‭ ‬الداخلية،‭ ‬ويستفاد‭ ‬من‭ ‬بعضها‭ ‬أيضا‭ ‬أنه‭ ‬بذلك‭ ‬جهودا‭ ‬شخصية‭ ‬لإقامة‭ ‬تعاون‭ ‬مع‭ ‬الأجوار،‭ ‬وربما‭ ‬للقيام‭ ‬بخطى‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬مجرد‭ ‬التعاون‭.‬

وذلك‭ ‬راجع‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يولي‭ ‬رابطة‭ ‬الحضارة‭ ‬بين‭ ‬شعوبنا‭ ‬مكانة‭ ‬متميزة‭ ‬ويرى‭ ‬أنها‭ ‬هي‭ ‬القادرة‭ ‬على‭ ‬لم‭ ‬شملها،‭ ‬وتقريب‭ ‬الشقة‭ ‬بينهم‭. ‬فدعوته‭ ‬إلى‭ ‬إحياء‭ ‬ثقافتنا‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬جوهر‭ ‬مقومات‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬عن‭ ‬اعتزاز‭ ‬بها،‭ ‬ولكن‭ ‬كان‭ ‬أيضا‭ ‬لإيمانه‭ ‬أنها‭ ‬اللحمة‭ ‬بين‭ ‬شعوبنا‭ ‬ودولنا‭.‬

ولئن‭ ‬كان‭ ‬شديد‭ ‬الإعجاب‭ ‬بالثقافة‭ ‬الغربية،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬أيضا‭ ‬حريصا‭ ‬كل‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬أصلة‭ ‬ثقافتنا،‭ ‬مع‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬إذكائها‭ ‬بما‭ ‬يتلاءم‭ ‬وروحيتها‭ ‬من‭ ‬إيجابيات‭ ‬الثقافة‭ ‬العالمية‭. ‬وكان‭ ‬يعيب‭ ‬على‭ ‬النظم‭ ‬المدرسية‭ ‬والجامعية‭ ‬عندنا‭ ‬تجاهلها‭ ‬لجذور‭ ‬الأمة‭. ‬ويضرب‭ ‬لذلك‭ ‬مثلا‭ ‬قلة‭ ‬الاهتمام‭ ‬بتدريس‭ ‬القرآن‭ ‬والسنة‭ ‬في‭ ‬كليات‭ ‬الآداب‭ ‬والقانون‭ ‬والفلسفة،‭ ‬باعتبارها‭ ‬معينا‭ ‬من‭ ‬المعلومات‭ ‬اللغوية‭ ‬والبلاغية‭ ‬والفلسفية‭ ‬والقيم‭ ‬الأخلاقية،‭ ‬لا‭ ‬فقط‭ ‬مرجعا‭ ‬دينيا‭.‬

شخصية‭ ‬فاضل‭ ‬الجمالي‭ ‬كانت‭ ‬قوية،‭ ‬متعددة‭ ‬الجوانب،‭ ‬غزيرة‭ ‬الأبعاد‭. ‬ولكن‭ ‬الذي‭ ‬يغلب‭ ‬عليها‭ ‬هو‭ ‬الوضوح‭: ‬وضوح‭ ‬الرؤية،‭ ‬ووضوح‭ ‬المقصد،‭ ‬ووضوح‭ ‬الموقف‭. ‬أمثال‭ ‬فاضل‭ ‬الجمالي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬نسيانهم‭. ‬فبغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬قوة‭ ‬آرائه،‭ ‬ومتانة‭ ‬معرفته‭ ‬بالأمور،‭ ‬وثبات‭ ‬ذاكرته‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬العقد‭ ‬العاشر‭ ‬من‭ ‬عمره،‭ ‬فإن‭ ‬للرجل‭ ‬إشعاعا‭ ‬يحببه‭ ‬إلى‭ ‬مخاطبيه،‭ ‬منذ‭ ‬أول‭ ‬لقاء،‭ ‬لبريق‭ ‬لحظه،‭ ‬وجزالة‭ ‬عبارته،‭ ‬ودائم‭ ‬حركته‭. ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬الكلل،‭ ‬ولا‭ ‬يترك،‭ ‬عند‭ ‬الجلوس‭ ‬إليه،‭ ‬سبيلا‭ ‬للسأم‭. ‬حديثه‭ ‬شيق،‭ ‬وملاحظاته‭ ‬مثيرة‭- ‬سواء‭ ‬اتفقت‭ ‬معه‭ ‬أم‭ ‬اختلفت‭. ‬يلتزم‭ ‬أدب‭ ‬الملوك‭: ‬لا‭ ‬يأتيك‭ ‬متأخرا،‭ ‬ولا‭ ‬يغادر‭ ‬مستعجلا‭ ‬ولا‭ ‬متراخيا‭. ‬يعطيك‭ ‬الانطباع‭ ‬أنك‭ ‬أنت‭ ‬المتفضل،‭ ‬سواء‭ ‬زرته‭ ‬أو‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬الزائر‭. ‬وفي‭ ‬لأصدقائه،‭ ‬ولو‭ ‬مر‭ ‬عليهم‭ ‬زمن،‭ ‬يذكرهم‭ ‬بخير،‭ ‬ويشيد‭ ‬بخصالهم،‭ ‬ويستذكر‭ ‬أيامهم‭.‬

وإني‭ ‬لأعرف‭ ‬محبته‭ ‬لوطنه‭ ‬العراق،‭ ‬وشوقه‭ ‬إلى‭ ‬بغداد،‭ ‬وحنينه‭ ‬إلى‭ ‬بيته‭ ‬على‭ ‬ضفاف‭ ‬دجلة،‭ ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬عزيز‭ ‬الأثاث‭ ‬ونفيس‭ ‬الكتب‭. ‬وقد‭ ‬غادر‭ ‬العراق‭ ‬في‭ ‬ظروف‭ ‬معروفة،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬إليه‭ ‬قط‭. ‬لكنه‭ ‬لازم‭ ‬واجب‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬الصمت،‭ ‬والإمساك‭ ‬عما‭ ‬يسيء‭ ‬إلى‭ ‬وطنه‭. ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬رغبة‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬عدم‭ ‬إحراج‭ ‬تونس،‭ ‬لا‭ ‬شك،‭ ‬ولكن‭ ‬أيضا‭ ‬لخلق‭ ‬فيه‭ ‬كريم،‭ ‬وهمة‭ ‬تربو‭ ‬عن‭ ‬مثل‭ ‬ذلك‭.‬

ولم‭ ‬يتعرض‭ ‬لشؤون‭ ‬العراق‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬الهجمة‭ ‬التي‭ ‬أودت‭ ‬بأمنه،‭ ‬وضيقت‭ ‬من‭ ‬عيشه،‭ ‬ونالت‭ ‬من‭ ‬سلطانه‭ ‬على‭ ‬أرضه‭. ‬فكان‭ ‬عندئذ‭ ‬يدافع‭ ‬عن‭ ‬شعبه،‭ ‬معتبرا‭ ‬أن‭ ‬الحصار‭ ‬الاقتصادي‭ ‬يسيء‭ ‬إلى‭ ‬مبادئ‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬لأنه‭ ‬يسيء‭ ‬إلى‭ ‬شعب‭ ‬من‭ ‬شعوبها،‭ ‬في‭ ‬قوته‭ ‬وصحته‭ ‬ومستقبل‭ ‬أبنائه‭. ‬لذلك‭ ‬رفض،‭ ‬سنة‭ ‬1995،‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬الاحتفال‭ ‬الذي‭ ‬أقامه‭ ‬المنتظم‭ ‬الأممي‭ ‬بمناسبة‭ ‬مرور‭ ‬خمسين‭ ‬سنة‭ ‬على‭ ‬تأسيسه،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬دعي‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬باعتباره‭ ‬أحد‭ ‬المؤسسين‭ ‬الموقعين‭ ‬على‭ ‬وثيقة‭ ‬سان‭ ‬فرانسيسكو‭.‬

الذي‭ ‬يتبادر‭ ‬إلى‭ ‬الذهن،‭ ‬عند‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬فاضل‭ ‬الجمالي،‭ ‬هو‭ ‬حيوية‭ ‬الفكر‭ ‬وحيوية‭ ‬البدن،‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬أيام‭ ‬حياته‭. ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬يقال‭ ‬عنه‭ ‬إن‭ ‬الله‭ ‬أعطاه‭ ‬بسطة‭ ‬في‭ ‬الجسم‭ ‬والعقل‭: ‬بسطة‭ ‬في‭ ‬الجسم،‭ ‬بأن‭ ‬متعه‭ ‬بالصحة‭ ‬والعافية‭ ‬طيلة‭ ‬حياته،‭ ‬وبسطة‭ ‬في‭ ‬العقل،‭ ‬لأنه‭ ‬بقي‭ ‬راجح‭ ‬الفكر،‭ ‬ثاقب‭ ‬النظر،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬حان‭ ‬الأجل‭. ‬وقد‭ ‬حسب‭ ‬يوما،‭ ‬في‭ ‬علته‭ ‬التي‭ ‬مات‭ ‬فيها،‭ ‬أن‭ ‬الأجل‭ ‬حان‭. ‬فوقف‭ ‬على‭ ‬رجليه،‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬الانتقال‭ ‬إلى‭ ‬الرفيق‭ ‬الأعلى‭. ‬ثم‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬قال‭ ‬لمتحدث‭ ‬إليه‭: ‬كرهت‭ ‬أن‭ ‬ألقى‭ ‬الموت‭ ‬جالسا‭.‬

كان‭ ‬شديد‭ ‬المراس‭ ‬في‭ ‬الحق،‭ ‬لطيف‭ ‬المشائل‭ ‬في‭ ‬الصحبة‭ ‬والمودة،‭ ‬حيي‭ ‬الطبع،‭ ‬متسامحا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بشخصه،‭ ‬لا‭ ‬يحمل‭ ‬كراهية‭ ‬لأحد‭. ‬يقنع‭ ‬بالقليل،‭ ‬ويأنف‭ ‬أن‭ ‬يستزيد،‭ ‬مؤمنا‭ ‬من‭ ‬الأتقياء،‭ ‬لكن‭ ‬دون‭ ‬تظاهر‭ ‬ولا‭ ‬رياء،‭ ‬مرحا‭ ‬بالمزاج،‭ ‬أنيسا‭ ‬بالطبع،‭ ‬وحدانيا‭ ‬في‭ ‬الليل،‭ ‬يتفرغ‭ ‬للفكر‭ ‬والقلم‭ ‬والعبادة‭.‬

يتقي‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬عباده،‭ ‬ويقوم‭ ‬بواجباته‭ ‬في‭ ‬طي‭ ‬الخفاء،‭ ‬يعتبرها‭ ‬من‭ ‬خاصة‭ ‬حاله،‭ ‬وكمين‭ ‬صلته‭ ‬بخالقه‭.‬

تحسبه‭ ‬في‭ ‬سعة‭ ‬من‭ ‬العيش،‭ ‬وإنما‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬التعفف‭. ‬أسبغ‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬شآبيب‭ ‬الرحمة‭ ‬والغفران‭ ‬وبوأه‭ ‬تعالى‭ ‬مكان‭ ‬الصدقين‭ ‬جزاء‭ ‬عما‭ ‬قدمه‭ ‬لأمته‭ ‬مفكرا‭ ‬جليلا،‭ ‬وفارسا‭ ‬من‭ ‬أكبر‭ ‬فرسان‭ ‬هذه‭ ‬الأمة،‭ ‬لن‭ ‬يفي‭ ‬بحقه‭ ‬مجرد‭ ‬الحديث‭. ‬وإنا‭ ‬لله‭ ‬وإنا‭ ‬إليه‭ ‬راجعون‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Copyright © All rights reserved. | Newsphere by AF themes.