رشيد الذوادي: الزعيم أحمد المستيري.. الرجل والقضية
1 min readرشيد الذوادي
في البدء:
في البدء وفي ظلال الأضواء الكاشفة على تاريخ أمتنا العربية، وفي وقت تمتد فيه أيدينا إلى بعض الملفات، نرى أعمالا كبرى انبنت على أسس ومناهج وقواعد بذل فيها جهد ضخم، ونجد رجالا ومصلحين عبدوا لنا الطرائق، وشخصيات وزعماء كان أملهم أن تتقدم الأمة، وأن يكون لها حظ في الارتقاء وفيما يحفظ شخصيتها الوطنية وقيمها الأصيلة.. ومن هؤلاء كتاب وسياسيون بذلوا النفس والنفيس في سبيل تحرير أوطانهم كـ: سعد زغلول، وخير الدين الزركلي، وعبد العزيز الثعالبي، وساطع الحصري، وعبد الحميد بن باديس، وعبد القادر المغربي، ومحي الدين القليبي، وعباس محمود العقاد، والإمام محمد عبده، والطاهر الحداد، والحبيب بورقيبة، وصالح بن يوسف، وعلي البلهوان، وفرحات حشاد، وأحمد بن صالح، والحبيب طليبة، وحسيب بن عمار، وأحمد بن صالح، وأحمد المستيري وأضرابهم..
فهؤلاء الأبطال في تقديري عاشوا من أجل الغير في ظل خضم الأحداث الكبرى، وتحمسوا لقضايا شعوبهم، كما تحملوا الأعباء الصعبة في أحرج الأوقات.. وهم وإن اختلفنا حول رؤاهم في بعض القضايا، لكن والحق يقال جميعهم كان له مرجع واف ومفصل مدروس، يبرز فيه الصور المثلى، التي تبين الكنز على صورة تأنس بها الأفكار وتقبلها العقول.
ومما يقال عنهم، بوجه عام: هم رجال صناديد قاوموا الاستغلال ومؤامرات التغريب، ولفتوا الأنظار في الثبات والإقدام، وعززوا كل الجهود المقترنة بالكفاح الشعبي وبالنهضات الاجتماعية، كما عاشوا عذابات السنين، وعرفوا الشيء الكثير عن مظالم المستبدين، وعما روجوه من افتراءات في بلاد العرب والإسلام.
في الموسوعات الفكرية:
ونحن إذا ما عدنا إلى الموسوعات الفكرية وإلى عهد قريب جدا نجد الصدى الواسع عن حراك هؤلاء الذين أحدثوا انقلابا في الأفكار والأساليب، وانبعث عنهم ما ألهب جوانح النفس، وما أعاد الروح للبناء النفسي في المجتمعات العربية الصامدة.
فـ(الحراك) كان نابعا من الذات.. وهدفه تقوية الروابط بين الأشقاء، اعتمادا على الكفاح الشعبي، وعلى لفت النظر إلى ما هو رائع وخصب.. ومثل (الحراك) أيضا، (فكرا تجديديا)، وحصيلة ضخمة من الأسرار مازالت تروج وتقوي لروح الأمة، وتصف تاريخها الفكري، وتطور عقليتها وما تفاخر به وتعتز ضمن مفاخر الزمن.
وشخصيا وجدت في الكثير من الموسوعات أخبارا شائقة تحكي عن الشيخين: محمد السنوسي التونسي، ومحي الدين الخياط، وعن (فرسان اللغة العربية) كـ: الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، وعبد الحميد بن باديس، ومحمد الفاضل ابن عاشور، والبشير الإبراهيمي (889-31965) الذي تلقى تعليمه على أيدي علماء الدين، وجاور في المدينة المنورة، ثم تطلع إلى العمل من أجل العودة بالدين إلى بساطته الأولى في ظل موجة جمال الدين الأفغاني: (1839-1897م) إلى المشرق، وهو من كبار المدافعين عن “اللغة العربية” والقائل عنها: “اللغة العربية في القطر الجزائري ليست غريبة ولا دخيلة، بل هي في دارها وبين حماتها وأنصارها، وهي ممتدة الجذور مع الماضي، مشتدة الأواصر مع الحاضر، طويلة الأفنان في المستقبل، ممتدة مع الماضي لأنها دخلت هذا الوطن مع الإسلام على ألسنة الفاتحين، ترحل برحيلهم وتقيم بإقامتهم..”(1).
شخصيات لامعة في غمار أحداث العرب الكبرى:
فهكذا كان المشهد العربي، وكنتم ورأيتم فيه أقلاما ناضلت ببسالة عن الكيانات العربية، ودافعت عن “لغة العرب” وعن أصالتهم، وتحدثت عن ممارسات الأجانب في الحكم، وعن معاناة العرب وعذاباتهم، وألحت في نفس الوقت على صيانة المبادئ والقيم، وشهرت بمن ابتعد من الكتاب والمثقفين عن الجماهير الشعبية، بوصفهم حراسا للكلمة الصادقة وللفضائل.
فكل هذا حدث في واقع العرب المضطرب، وفي أصداء نضالاتهم.. وقد رأيناه ماثلا وجليا أمامنا في عديد الكتابات وتحديدا في مجلات: المنار)، و(التمدن الإسلامي)، و(الفتح) في المشرق، وفي (شمس الإسلام)، و(السعادة العظمى)، و(المجلة الزيتونية) في تونس ثم وفي مجلة (المعرفة)، وصحيفة (البصائر) الصادرتين بالجزائر، وفي (مجلة الوحدة) في الرباط(2).
أقلام جعلت الصدق شعارها:
واعتبارا لكل هذا، استوجب أ، نقول بالصوت العالي: إن “الأقلام” لم تتأخر قط في التعبير عن قضايا الأوطان، بل وغذت روح الإنتماء الوطني، وعززت الكفاح الشعبي.. ومن هذه الأقلام، أقلام من بلدان المغرب العربي وصالح بن يوسف، وابن باديس، وعلال الفاسي، وعلي البلهوان، ومحي الدين القليبي، وعبد الكريم غلاب، وعبد الله قنون، وفرحات حشاد، والمنصف المستيري.. والقائمة طويلة..
إذن كان للأفلام دور، والأقلام أحيت فينا التفكير الصائب، وحررتنا من الجمود، وعرفتنا بما هو متشابه في التكوين والخلق والمزاج، وبفضلها تأثرت الأجيال، فكان إيقاظ الهمم وتحريك السواكن.. وشخصا تذكرني الأقلام العربية باستمرار، بكوكبة من المجاهدين الصادقين منهم: الخضر حسين، ومحمد الفاضل ابن عاشور، والطاهر الحداد، وعبد الحميد بن باديس(3) ومحب الدين الخطيب الذي مارس الكتابة وتعلق بحب الأوطان العربية وعاش أكثر من نصف قرن يدعو إلى حماية الأوطان، وإلى دراسة ميراث العرب والرد على خصومهم.. ووجدناه أيضا في مرحلة حاسمة من واقع العرب يحث الشباب على أن ينهض بالعلم والتربية.. وصفحاته ظلت مدوية في صحيفة “الفتح” التي أنشأها لهذا الغرض، وضمت 30 ألف صفحة لتصحيح التاريخ الإسلامي ولمعارك العرب الكبرى.
وأنا شخصيا لست أعرف مفكرا أوضح رأيا في ربط الإسلام بالعروبة منه، ولا حرصا على توجيه الشباب ليقبل على الدراسة والتعلم.. ويؤكد على هذا بقوله في افتتاحية مجلة “الزهراء” عام 1924 بقوله:
”تأصل في نفسي منذ أعوام كثيرة أن الناطقين بالضاد، لا تثبت لهم نهضة، ما لم تكن قائمة على دعامتين:
* الأولى: في الاحتفاظ بتقاليدنا التاريخية وأوضاعنا الوطنية ولساننا العربي الأصيل.
* والثانية: في الاقتباس من وسائل القوة لدى الغرب(4).
فتلك هي قناعات الرجل ورؤاه الفكرية في ذلك الوقت العصيب لذا.. ونحن كتونسيين إذا ما عدنا إلى كتابات العرب في أيام محنهم، نجدها كتابات صادقة وعبرت عن مواقف وأزمات وانشغالات.. و(الأقلام التونسية) بانت للجمعي في هذا الزحام، أقلام شجاعة ألهبت العواطف، ووجهت النفوس لتقويض صروح الظلم.. ومن بين الكتابات المتميزة في هذا الشأن كتابات الزعيمين: فرحات حشاد (أب الشغالين)، وأحمد المستيري: (أب الديمقراطية) في تونس الحديثة.
أحمد المستيري في دروب الحياة:
والحديث عن الزعيم الكبير أحمد المستيري، وعن سيرته ومساراته السياسية والفكرية، هو حديث شائق، ويذكرنا بصفوة من عظماء الأمة كـ: شكيب أرسلان وحسين الشافعي، والحبيب بورقيبة، وصالح بن يوسف، والمنجي سليم، وفرحات حشاد، والمهدي بن بركة.. وأضرابهم.. وبالنخب الفكرية الصادقة ذات الأثر الخالد من نقابيين وسياسسين كـ: أحمد بن صالح، والمنجي سليم، والحبيب طليبة، وحسين بن عمار، ومصطفى الفيلالي، ومحمد مزالي.
والرجل كما أثبتته الأيام، شق طريقه دون جلبة أو ضوضاء، وعاش يعمق هذه الطريق بالكد وبمقومات الكفر والإيمان، وبنظافة اليد، وبكل ما يبدو دقيقا في التراث العربي الإسلامي، شأنه شأن الكثيرين من أبناء العاصمة التونسية.
هو فخور جدا بعائلته وبإخوته وجده، وأبيه وعمه.. وفخور أيضا بأصدقائه في أيام الصبا والدراسة والكفاح، وسجل لأساتذته كـ: محمد الصالح الخماسي، والهادي عويج، وسعيد شويرف.. والرجل عاش في صباه في المرسى أين ولد في عام 1925م وتعرف على أصدقاء له في المرسى ومن كامل البلاد لما اختلط بالشبان في معاهد التعلم، كما كان يقظا كل اليقظة، وأسعده الحظ أن يحضر بعض المناقشات السياسية التي دارت في بيت جده (حمودة) كشاهد صامت لا يفهم الكثير مما يقال فيها.. وأحمد المستيري أمتعنا كثيرا لما تحدث عن أسرته قائلا: “إني سليل عائلتين من أعرق عائلات العاصمة وضواحيها، وقدم إليها أسلاف والدي (الحاج فرج مرزوق) مصحوبا بابنه الحاج أحمد من مدينة المنستير بالساحل في أوائل القرن الثاني عشر(هـ) والثامن عشر(م) واستقرا بنهج سيدي الرصاص قرب حي باب سويقة قبل أن ينتقل جدي (حمودة) بعد قرن إلى (ضاحية المرسى) حيث ولدت.. وأخذ أسلافي لقب (المنستيري).
وهذا اللقب منتشر في عدة أنحاء من البلاد، ويحمله المهاجرون من (المنستير)، وذلك على غرار غيرهم نم المهاجرين المنتمين إلى مدن أخرى.. وتحول المنستيري إلى “المستيري) بحذف النون عملا بقاعدة اختزال الأحرف المعروفة عند اللغويين”(5).
وأحمد المستيري سليل العائلة الوطنية، والذي التحق بالمدرسة الابتدائية بالمرسى عام 1931م، ومنها انتقل إلى مدرسة (خير الدين) بنهج (التريبونال) بالعاصمة مع شقيقه العادل، بدأ ولوعه بالسياسة في سن المراهقة وتأثر بجده (حمودة ووالده)، حيث كانا من أوائل من آزروا الشيخ عبد العزيز الثعالبي يوم أسس (الحزب الدستوري الحر) عام 1920م وأول اجتماع عقدته (اللجنة التنفيذية) التأم في بيت جده (حمودة) بالمرسى(6).
والحفيد حدثنا عن جده (حمودة) يقول: “كان من ضمن الوفد الذي عرض ميثاق الحزب على الملك الناصر باي، كما كان ضمن الوفد الذي سافر إلى فرنسا لعرض (القضية التونسية) على أعضاء البرلمان الفرنسي المهتمين بشؤون المستعمرات ووزارة الخارجية، وبعد سنوات مع تقدمه في السن، سلم المشعل إلى ابنه (المنصف)، الذي عرضه في (اللجنة التنفيدية) على أنه بقي مع ذلك يتابع عن كثب قضايا الساعة، ويتحدث فيها مع أبنائه وأصدقائه..”(7).
وأحمد المستيري، الذي أنهى دراسته الجامعية خلال صائفة 1948 بإحرازه على الإجازة في الحقوق من كلية باريس، دخل معترك الحياة المهنية والعامة في سلك المحاماة في سوسة ثم في العاصمة ويعتبر هذه الفترة هي فترة مناسبة له ومكنته من الإطلاع على سير دوالي الإدارة التونسية في عهد الحماية.. ويقول عنها: “اكتشفت فيها مدى نفوذ الفرنسيين على كل المستويات، حتى في القطاعات الخاصة بالتونسيين وحدهم كالمحاكم التونسية، وإدارة الأوقاف، والإدارة الجهوية”.
و(المستيري) الشاب المثقف، له إسهامات جدية ووافرة في منظمات المرسى في أيام شبابه كـ: (الكشافة)، و(الهلال الأحمر)، و(الشبان المسلمين)، و(الشبيبة الدستورية)، و(شعبة المرسى)، وشارك في هذه الأنشطة كل من الطيب المهيري، ومحمد الصالح الشاهد، وحسين النيفر، وصالح المهدي، وصالح المهيري، والحبيب البوزيري، ومحمد السنوسي.
و(المستيري) المناضل عاش أحداث 9 أفريل 1938م عن قرب مع صديقه الوفي حسيب بن عمار.. وقص علي حكايات كثيرة عن أحداث 9 أفريق وعن بطليها: علي البلهوان والمنجي سليم، وقال: “كنا كشبان ووطنيين نتهيأ للقيام بالمظاهرة استعدادا لمرحلة جديدة في الكفاح التحريري تحت لواء الدستور الجديد.. وهنا سعدت بزيارة المناضل محمد الماطري، وروجته، وبإلحاح شديد أن يتواجد في مقدمة صفوف المتظاهرين على الرغم من ابتعاده عن (حركة الدستور الجديد) يومئذ.. ويومها استجاب محمود الماطري لطلبي، فكان في الصفوف الأمامية المطالبين ببرلمان تونسي.. وما أن علم الزعيم بورقيبة بحضوره.. حتى تساءل قائلا: “لماذا أحضرتم الماطري؟ ألم يقل لنا إنه ابتعد عنا وعن الدستور الجديد؟..”.
أحمد المستيري كما عرفته:
تعود بدايات معرفتي بأحمد المستيري إلى صائفة عام 1967 يوم أقام لنا عشاء، كأعضاء للجنة التنسيق ببنزرت، بوصفه رئيسا للقائمة البرلمانية في الجهة.. وفي العشاء تحدث إلينا عن النكسة التي حلت بمصر، وعن القضية الفلسطينية وما حدث في تاريخها الممتد.
وكان أحمد المستيري جادا في حديثه، وكشف لنا عما حل بالخيال والعاطفة، ويستخلص من حديثه أن قضايا الأوطان لا تحل إلا بالديمقراطية، وبحرية الشعوب، وبإحياء إمتدادات تاريخها وكتابته من جديد. ويتم لي أيضا لقاء آخر معه (بالمصيدة) في بنزرت في نفس الصائفة، ويومها كنت مساعدا لرئيس بلدية بنزرت، ورئيسا للجنة الثقافية الجهوية بها.. واللقاء تم بمناسبة توزيع الجوائز على المتفوقين من أبناء العسكريين في (البحرية).. ومما استرعى انتباهي في هذا الحفل البهيج، أن الحضور كان مكثفا.. والحدث أعطاني صورة جادة عن (قضايا الرجل) وعن اهتماماته الذهنية والعلمية والسياسية.. وبان لي الوزير ومن خلال كلمته وتوجيهاته للمتفوقين، أنه مثقف، وواسع الأفق، ومحب لوطنيه، ومؤمن بأمته العربية وبفكرها وقيمها، وشديد الحرص على توجيه أبنائه المتفوقين بزاد معرفي جديد في الإرشاد..
.. وتلك المناسبة أتاحت لي أن أهديه كتابا لي في (أدب الرحلة) وهو (يوغسلافيا كما شاهتها).. وأثنى علي قائلا: “الكتابة كما تعلم، هي رسالة سامية.. والكاتب من حقه أن يكتب بحرية، وعليه أن يثابر ليصل إلى الغايات المنشودة.. وشخصيا إني متابع لما يكتبه أدباؤنا أمثال: عزالدين المدني، والحبيب الجنحاني، وحسن نصر.. ومتابع لما تنشره أنت في (الصباح)، وفي (مجلة الشباب) تحديدا”.
وتمضي الأيام، وتتعدد متابعاعتي لنشاطاته السياسية، ثم كان لي موقف مؤيد له على إثر (مؤتمر المستيري) 1971 نقل له الخبر كل من المناضل حسب بن عمار، والأخ محمد الصالح بالحاج.
وتبعا لما حصل تعززت ثقة المستيري بي، واقتبلني فيما بعد مرارا بمكتبه بنهج الجزائر بتونس، وكثيرا ما كان بحضور الأخ محمد الصالح بالحاج المناضل المعروف.. وهنا.. تعددت أحاديثي وحواراتي مع الرجل، وأحيانا ينضم إلينا المؤرخ المعروف الراحل المنصف الدلاجي، (المسؤول عن قسم أرشيف الدولة).
• وسألته يوما: كيف استلمتم مقاليد الأمور في بدايات الاستقلال؟.. وهل كانت هناك صعوبات؟..
• وأجاب: بالطبع، ولكن بفضل حماسنا أقدمنا على تجسيم الاستقلال على أرض الواقع.
• وعن دور حشاد العظيم في الكفاح التحريري؟..
• أجابني: حشاد كان زعيما وعظيما بحق، وله دور مهم في النضال الشعبي، واجتمعت فيه خصال عديدة: العبقرية والوطنية الصادقة، واللطف، ودماثة الأخلاق.
• ولماذا منعتكم السلط الفرنسية من الإدلاء ببيان للشعب يوم 20 مارس 1956 بواسطة الإذاعة؟
• أجابني: توجهت مع الصادق المقدم ويومها كان رئيس حكومة بالنيابة إلى (مبنى الإذاعة) للإدلاء ببيان إلى الشعب، فمنعونا من الدخول، وبقينا مدة ننتظر الترخيص من “المندوبية السامية الفرنسية” دون جدوى.
وعن أزمة الخلاف بين بورقيبة وصالح بن يوسف.. قال: “إن المفاوضات كانتصعبة ولا سيما بالمفاوض الأصلي المرحوم المنجي سليم.. والضغوطات هي متعددة ومتناقضة.. هي لم تصدر عن (الباي) ولا عن رئيس الحكومة الطاهر بن عمار، بل وأساسا عن رئيس الحزب وكاتبه العام صالح بن يوسف” وذكر لي أنه حضر في (جنيف) مقابلات صالح بن يوسف مع المنجي سليم، والطاهر بن عمار، والعزيز الجلولي، وصالح بن يوسف يستدل بآراء الرئيس جمال عبد الناصر في تقديم بعض المقترحات لتعديل فصول من الاتفاقيات..
تونس.. وأزمة الخلاف بين بورقيبة وبن يوسف:
والخلاف كما هو معلوم، أحدث رجة في البلاد، وكاد أن يتحول إلى حرب أهلية، وفي وقت كانت الظروف تستدعي وحدة الشعب وتجسيد حريته.. ومنشأ الخاف يعود إلى التنافس على زعامة الحزب، واشتد بعد عودة صالح بن يوسف إلى تونس في سبتمبر 1955م ورفض صالح بن يوسف الدعوة الموجهة إليه لحضور (مؤتمر صفاقس) في 15 نوفمبر.. فقد طالب صالح بن يوسف بتأجيله ليتمكن من جمع أنصاره وتشريكهم فيه.. وبقول أحمد المستيري في هذا الشأن: “كان الاختيار صعبا بين الجرلين بالنظر إلى الغموض السائد في الأوضاع والريبة في مآل الأمور.. وتحدثت مع بورقيبة وبن يوسف، ومع أنصار كل منهما، ومع الباهي الأدغم وعلي البلهوان والمنجي سليم وتبين لنا يوما كما قال الطيب المهيري في المسألة: من هو رقم (1) ومن هو رقم (2)؟ وصالح بن يوسف لا يرضى بأن يكون رقم (2) في المعادلة.
ويذكر أحمد المستيري أن الظروف التاريخية جعلت فرنسا تسرع بالإعتراف بالحكم الذاتي لتونس، بعد تأثير ثورة الجزائر عام 1954م وثبات ومثابرة المقاومة المغربية.. هذا كان له تأثير، على الاسة الفرنسيين ليكونوا مدفوعين للتنازل لبورقيبة وللإمضاء على (بروتوكول 20 مارس 1956م)(8).
والزعيم أحمد المستيري الواثق بقدراته وآرائه وبما أنجزه في مجالات التنمية والإصلاح، تولى مهمات سياسية كبيرة في دولة الاستقلال منها: وزارة المالية، ووزارة الداخلية، ووزارة الدفاع الوطني، ووزارة العدل، كما كان سفيرا لتونس في عدة بلدان عربية وصديقة: كالقاهرة، والجزائر، وموسكو.
وفي أيم اضطلاعه بوزارة العدل وتقلدها في أفريق 1956 إلى موفي 1958م أنجز عدة محاكم إبتدائية واستئناف لتقريب المحاكم من المتقاضين، كما م في عهده توحيد القضاء، وتنظيم مهنة المعاماة، والعدول المنفذين، وإصدار قانون الجنسية، وحل الأوقاف، وإصدار عديد المجلات مثل: (مجلة العقود والإلتزامات)، و(مجلة الأحوال الشخصية)(9).
فهذا.. هو أحمد المستيري، الذي عاش في خضم مراحل الكفاح الوطني وتعرض للمضايقات.. هو مناضل بامتياز، وزعيم بحق، وصاحب رؤية ورسالة، ونموذج، وصورة متجددة للسياسيين الكبار الذين أعطوا وبذلوا، وأوصوا الأجيال، لكي تحترم الكلمة الحرة، وبتعزيز الحكم الرشيد القائم على أن تسمع: (الصوت المؤيد والصوت المخالف لك).. هو خبرة وحيوية، وذكاء، ونظافة يد.. عرفته ضمن الوجوه السياسية في الحزب الدستوري، وحاورته في بعض الشؤون وتلازمنا لما التقينا مرارا في مقر (صحيفة الرأي) مع الإخوة: حسيب بن عمار، ومحمد مواعدة، وأحمد الكرفاعي، وإسماعيل بولحية، ومحمد الصالح بلحاج.. وكان المستيري مدركا للمواقف المطلوبة كما أسسنا (الرأي)، ومدركا لمقتضيات الإصلاح، ويعتبر أن المبادئ هي أغلى وأسمى القيم، وتجسمت لنا أقواله فيما أوصانا به حشاد وأحمد التليلي، ورفقاء لهما من النقابيين الشجعان أمثال: أحمد بن صالح، والحبيب طليبة وأبو بكر عزيز.
وأحمد المستيري هو مناضل نشيط، وودود لكل من عرفهم وعمل معهم.. وخياراته باستمرار، هي خيارات (اللعبة الديمقراطية) ولا يقبل لونا من التعددية (الديكور) الصالحة للاستغلال، لذلك استبشر بالثورة وقال عنها: “إنها المعجزة التونسية”، واستمعنا إليه يتحدث وأدلى بآرائه في الثورة، وفي متطلبات الثورة، وراسلته حول ذلك.
الهوامش:
1) انظر صحيفة (البصائر) الجزائرية العدد 415 عام 1948م وكتاب: (رواد الإصلاح: رشيد الذوادي ط4 2017 صفحات: 154-166.
2) انظر دراسة عن ابن باديس في (رواد الإصلاح): رشيد الذوادي ط4 صفحات 127-153.
3) انظر كتاب (مفكرون وأدباء): أنور الجندي ط بيروت ص198 وما بعدها.
4) المصدر نفسه ص 199 وما بعدها.
5) كتاب (شهادة للتاريخ): أحمد المستيري ط تونس 2011م ص13.
6) المصدر نفسه ص16.
7) المصدر نفسه ص18 وما بعدها.
8) شهادة للتاريخ ص90 وما بعدها.
9) انظر (شهادة للتاريخ: أحمد المستيري ص102 وما بعدها.