رشيد الذوادي: إضاءات عن الفقيد الباجي قائد السبسي (1926 – 2019)
1 min readرشيد الذوادي
الحديث عن الفقيد الباجي قائد السبسي، هو حديث ذو شجون… ويقودنا إلى التذكير بعطاءات العديد من عظماء تونس الكبار، الذين أحبوا هذا الوطن وساهموا بحنكة واقتدار في إرساء المبادئ والمواقف الجريئة وفي مقدمة هؤلاء يأتي محمد العربي زروق(1)، وفرحات حشاد، وعلي البلهوان، والحبيب بورقيبة، وصالح بن يوسف، وأحمد بن صالح، وأحمد المستيري، و محمد مزالي والحبيب ثامر، والحبيب طليبة، وأحمد التليلي، والشاذلي القليبي، وحسين بن عمار، ومصطفى الفيلالي، والهادي البكوش، وأضرابهم…
فهؤلاء أراهم بحق زعماء في جيلهم، وروادا في عصرهم، حيث بادروا مع غيرهم كـ: محمد مزالي، والبشير بن سلامة، والرشيد إدريس، في توعية الشعب وتنظيمه وتحسين أحواله والكتابات في هذا الشأن تكفي للدلالة على صدق مقاصدهم ونواياهم، وعلى ما اقتنعوا به ليقولوا (كلمة الحق) رغم خصوصية المراحل الصعبة.. ولذا كان يتأكد علي أن أقول: “إنهم قادة في عصر أنجب الرجال.
عصر… ورجال:
والحديث عن الباجي قائد السبسي يستوجب أن نعرف أشياء وأشياء… عن عصر سيتباهى التاريخ (برجاله الأوفياء من (خريجي جامع الزيتونة والمدرسة الصادقية) التي تخرج منها الباجي عام 1947 وقبل أن يستكمل الجزء الثاني من (الباكالوريا) ……….. وفاز بها بمدينة (ديجون) الفرنسية عام 1948م فيما بعد…
ففي هذا العصر عاشت النخب التونسية تتصارع مع الاستعمار وتصنع الفرص لكل من كان له الذكاء والشجاعة السياسية ليدخل حلبات الصراع مع سياسات المستعمر ومخططاته. وفي هذا العصر أيضا كانت أصوات المقاومين ترتفع هنا وهناك، تطالب بالعزة والشرف، وخطب الزعماء الكبار كـ: الحبيب بورقيبة، وصالح بن يوسف وعلي البلهوان، والحبيب شلبي، والمنجي سليم، وفرحات حشاد، تجلجل فوق منابر الأندية منادية بالثبات والصمود.. وسير الخطة الثقافية ومشاريعها يديرها مفكرون كبار أمثال: عثمان الكعاك، ومحمد الفاضل ابن عاشور، والطاهر الحداد، وأبو القاسم الشابي، والمختار بن محمود، وعلي البلهوان، ومحمد الشاذلي خزندار أمير شعراء تونس الداعي إلى الثورة في أكثر من قصيد شعري يتردد على لسانه كقوله:
يروح مقيم ويغدو مقيم
وشعب يئن ولا من رحيم(2).
وفي قصائد شعرية أخرى نادت بالتخلص من المستبدين، وتمثلت خاصة في أشعار كل من الشابي، والهادي المدني، ومحد بوشربية ومصطفى خريف وسعيد أبو بكر.. والقائمة تطول…
وشاهدنا في هذه الفترة تحديدا استبشار الشعب بدور النخب السياسية التي اضطلعت بقيادة الرأي العام التونسي والتحدث باسمه، والمتحفزة إلى إلحاقه بالشعوب المتقدمة… وكتابات الراحل الطاهر صفر في (الزهرة) وفي غيرها من الدوريات التونسية تشهد بوطنية الرجل وبمعاضدته القوية لكل المشاريع الوطنية لا فرق فيها بين (الخيرية والاقتصادية والأدبية)(3).
نجاح… وسعي حميد:
ومحمد الباجي قائد السبسي المولود بسيدي بوسعيد بتونس في 29 نوفمبر 1926 شق طريقه في هذه المسارات تدفعه الرغبة إلى خدمة القضية الوطنية منذ أن كان عمره خمسة عشر عاما، فكان في هذه المرحلة يبذل من النشاط والجهد الشيء الكثير مما جعله يحظى بتقدير تلاميذ الصادقية- وفي مدينة (ديجون) تحديدا التي التحق بها سنة 1948 واصل نشاطه السياسي ثم في عام 1949 تحول إلى باريس ليواصل دراسته العليا في الحقوق، حيث التقى هناك بالحبيب بورقيبة الابن، وتوطدت بينهما علاقة سمحت له بالالتقاء بالزعيم بورقيبة عام 1950م، وما أن عاد إلى تونس يوم 15 نوفمبر 1952 حتى انضم إلى مكتب المحامي فتحي زهير، كما أدى القسم يوم 3 أكتوبر 1952م… ومن مواقفه الوطنية دفاعه عن الوطنيين وعن الزعيم فرحات حشاد على إثر اغتياله في 5 ديسمبر، واشتغل لفترة طويلة كمحام لدى الاتحاد العام التونسي للشغل في أيام قيادة أحمد بن صالح للإتحاد.. وهنا كان تعرفه على الحبيب طليبة ومصطفى الفيلالي وأحمد التليلي وأضرابهم.
السبسي… في ظل معترك الحياة العامة:
وتمضي الأيام وتتاح الفرص ليتلققي الباجي من جديد بالمناضل الكبير الطيب المهيري: (1924 – 1965م) في تونس بعد أن تعرف عليه قبل بـ(ديجون) في فرنسا أيام كان يدرس هناك… وأحب الباجي هذه الشخصية كثيرا وتأثر بآرائه، وانساق فكره مع فكر الطيب المهيري، ثم تعددت زياراته له حسب توصية الأخ أحمد بن صالح، خصوصا بعد تسلمه لوزارة الداخلية إبان السنين الأولى للاستقلال (أفريل 1956).
وهنا بدأت أصداء نشاطاته في أندية الحزب الدستوري الجديد في معظم الجهات التونسية، كما كان على صلة قوية بالنقابيين كـ: أحمد بن صالح، والحبيب طليبة، ومصطفى الفيلالي، وأحمد التليلي، والبشير بالاغة، وبأسرة جريدة الهلال، وإسهامات الهلال هي الأخرى وافرة في حركة الكفاح السري،.. ومن أبرز أعضائها حسيب بن عمار، وأحمد بن صالح، والطيب المهيري، ومراد بوخريص، ونور الدين القماطي، وزكرياء بن مصطفى في آخر عهدها…(4).
وسي الباجي، في أحد لقاءات به، كان يثني على إسهامات جهة بنزرت في النضال الوطني وخصوصا عن فتوى الشيخ إدريس وعن مواقف محمد الخيمري والحبيب طليبة في مجال النضال العمالي.. وعن محاضرات في الأندية الحزبية وفي جمعية قدماء الصادقية، ذكرني بأعلام كبار من الزيتونة عرفهم وأشاد بنضالاتهم أمثال الطاهر الحداد، ومحمد الفاضل ابن عاشور، والصادق بسيس… وذات مرة قال لي، وبمقر صحيفة (الرأي) بنهج يوغسلافيا بتونس في أوائل السبعينات، “كنت حريصا على الالتقاء بالمناضلين الشرفاء وأشيد بخصالهم وبدورهم في المقاومة، ويحزنني أن أرى غيري يتناساهم… فمن الوطنية أن نعترف بجهودهم.. والإنسان السوي هو الإنسان النصوح الذي يعترف بجهود الآخر، ولا يعيش كريما إلا إذا ما كان جل من حوله يعيشون كرماء”.
وسي الباجي.. تحمل مسؤوليات كبرى في صلب دولة الاستقلال فقد عين على رأس إدارة الأمن الوطني عام 1963م، ثم وزيرا للداخلية بعد وفاة الطيب المهيري عام 1965م، وساند من منصبه هذا التجربة التعاضدية التي قادها الوزير أحمد بن صالح ولم يتنكر لصداقته كما تولى وزارة الدفاع، ثم سفيرا لتونس في أكثر من بلد، ولعب دورا نشيطا في سنة 1971 على خلفية تأييده لحركة إصلاح النظام السياسي وبحمادي التراس الصيدلاني ببنزرت والذي قدم دعما ماديا هاما لـ”صحيفة الرأي” وكان ذلك بحضور كل من المنجي الفقيه، والحبيب بولعراس، ورشيد الذوادي، وإسماعيل بولحية.
فهذا هو سي الباجي… الذي عرفته وعايشته والمتشبث بحقوق الإنسان، والمنضل السياسي واللاعب مع المجموعة الليبرالية وخاصة الثلاثي: (أحمد المستيري وحسيب بن عمار والباجي قائد السبسي) دورا وطنيا بالسعي إلى تخفيف حدة التوتر بين الحبيب عاشور والهادي نويرة، لكن كانت الأجواء العامة صدامية، ولم تشفع للتهدئة.
هو سياسي جريء، ونجمه ازداد صعودا بعد تحدي المجموعة الليبرالية للزعيم بورقيبة بالدعوة إلى انتخاب اللجنة المركزية والديوان السياسي من المؤتمر تكريسا للممارسة الديمقراطية.
وهو السياسي القدير المتشبث بحقوق الإنسان… الذي عاش طيلة حياته يستنكر الدسائس… حكى لي ذات يوم أن المقربين من الزعيم وهم كثر، حبكوا قصة خيالية ضد صديقيه أحمد المستيري وحسيب بن عمار، قالوا للرئيس بورقيبة ويمها كان بسويسرا للعلاج، “إن الوزيرين يعتزمان استغلال غيابك للاستيلاء على الحكم” وتلك القصة، هي قصة مكشوفة وأصحابها ليست لهم خبرة وذكاء… إذ هي تدخل في نطاق غلق المنافذ للانفتاح السياسي وبقاء الحال على ما هو عليه(5).
فهذه هي بعض الإضاءات عن (سيرة الباجي) وعن مسيرته الحافلة… والمرء إذا ما تابع هذه المسيرة النضالية، فسوف يجد فيها أن الباجي هو دائما مقدام وفي سباق مع الزمن، ويستلهم من أحداث الزمن ما يفي ويجمع بين قدرات المثقف المؤمن بالموقف الحرب، وبين ما يجسد القناعات بأن تونس لابد أن تتجه دائما إلى الأفضل.
الهوامش:
1) انظر مقال الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور بجريدة “الزهرة” بمناسبة عود بورقيبة من المنفى (جوان 1955م)، ومقال بعنوان: “محمد العربي زروق… الجرل الذي قال لا !..” بقلم: رشيد الذوادي: الصباح بتاريخ 12 ماي 2009م.
2) راجع كتاب: أدباء تونسيون): رشيد الذوادي طـ3 مصر 1995 ص84 وما بعدها.
3) أبطال وشهداء: رشيد الذوادي طـ تونس 1968 ص62 وما بعدها.
4) انظر تفصيلات عن صحيفة (الهلال في كتاب حسيب بن عمار المخطوط ص 15 وما بعدها).
5) انظر تفصيلات عن هذه القصة في كتاب: (شهادة للتاريخ): أحمد المستيري طـ تونس 2011 ص117 وما بعدها.