د. عبد الحسين شعبان: مناظرة السليمانية واستذكارات الحوار العربي – الكردي
1 min readكان أول حوار عربي – كردي خارج الأطر الرسمية تقرر قبل 30 عاماً، حين اجتمعت نخباً فكرية وثقافية وحقوقية و سياسية من العرب والكرد بدعوة من المنظمة العربية لحقوق الإنسان في لندن، التي تسجل لها هذه المبادرة، وذلك لمناقشة جوهر الموقف من حقوق الشعب الكردي و أهم الإشكاليات النظرية والعملية والقضايا الخلافية لبحثها ومناقشتها بروح الشعور بالمسؤولية والحرص وبكل صراحة وشفافية، حيث تم تبادل وجهات النظر واستمزاج الآراء والاستئناس بأفكار متنوعة بشأن واقع العلاقات العربية – الكردية وآفاق المستقبل ، خصوصاً بعد المآسي والارتكابات التي تعرض لها الشعب الكردي، لاسيما إثر مشاهد الهجرة الجماعية الكردية المرعبة 1991 بعد حملة الأنفال السيئة الصيت ومن ثم قصف قضاء حلبجة في 16 – 17 آذار/ مارس1988 بالسلاح الكيماوي وغاز الخردل، الذي أودى بحياة بضعة آلاف، وذلك قبيل وقف الحرب العراقية – الإيرانية (1980 – 1988) التي أعلن عن انتهائها في 8 آب/ أغسطس 1988 ، بقبول إيران لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 598 الصادر في العام 1987 .
لمعان الفكرة
حين علمت أن وفد الجبهة الكردستانية وصل بغداد للتفاوض مع الحكومة العراقية، لمعت برأسي فكرة الحوار العربي – الكردي، وذلك بعيد انسحاب القوات العراقية ، إثر حرب التحالف ضد العراق 17/1/1991 من الكويت وصدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 688 الخاص باحترام حقوق الإنسان، وذلك بعد فشل انتفاضة آذار / مارس 1991 ضد النظام الحاكم في العراق، فطرحت الفكرة في محاضرة لي في ديوان الكوفة كاليري في لندن وسط حشد كبير وذلك يوم 17 نيسان/ أبريل 1991، وكانت المحاضرة بعنوان ” المهجرون العراقيون والقانون الدولي”، وهي موثقة بكتابي “ عاصفة على بلاد الشمس”، دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1994 . وهو ما نشرته جريدة الحياة (اللندنية) في 28/4/1991 . ولكن الفكرة اختمرت في ذهني وقررت الإشتغال عليها بسبب تباين المواقف واختلاف وجهات النظر خلال وبعيْد المفاوضات الحكومية – الكردية.
اعتبارات موضوعية وذاتية
تعود قناعتي بفكرة الحوار العربي – الكردي إلى عدد من الإعتبارات أهمها:
أولها – الموقف المادي الجدلي “الماركسي” من مبدأ حق تقري المصير والذي مثل رؤية أممية – إنسانية كانت وما تزال صالحة عند الحديث عن حل مشكلة التنوع الثقافي، لاسيما المتعلق بالهويات القومية في المجتمعات والبلدان المتعددة الثقافات ، والذي تجسد في جوانب عملية إتخذتها الحركة الشيوعية في العراق منذ العام 1935 حين رفعت شعاراً “على صخرة الإتحاد العربي – الكردي تتحطم مغامرات الإستعمار والرجعية”، وذلك انطلاقاً من إيمانها بحق تقرير المصير للشعب الكردي، والذي انعكس على نحو ملموس في الكونفرنس الثاني للحزب العام 1956 الذي أكد على ” الإستقلال الذاتي” لكردستان في إطار التحالف القوي بين “حركة الانبعاث القومي العربي والحركة القومية الكردية وتطلع الشعب الكردي إلى التحرر والوحدة القومية”، فالاستعمار هو الذي فرق كردستان وهو الذي شجع سياسة الإضطهاد القومي في العراق، وهو الذي قسم البلدان العربية كما ورد فيه.
وثانيها – علاقاتي الكردية وصداقاتي الحميمة مع العديد من الكرد، خصوصاً فترة دراستي في جامعة بغداد، وسبق لي أن رويت الكثير عنها في مناسبات مختلفة يضاف إلى ذلك معرفتي بواقع الاضطهاد والإستلاب الذي عانى منه الشعب الكردي، وذاكرتي الأولى لإحدى المناسبات وأنا فتى حين اطلعت على بيان من صفحة واحدة، وجهها الأول باللغة العربية ، ووجهها الثاني باللغة الكردية وهو ما أثار فضولي الشديد آنذاك (ربما كان بمناسبة كردية أو عيد نوروز)، فضلا عما أثار قدوم الزعيم الكردي الكبير الملا مصطفى البارزاني من المنفى في العام 1958 من مشاعر تضامن ضلت عالقة بذهني.
وثالثها – انخراطي في أعمال جماهرية مبكرة بشأن القضية الكردية منذ العام 1961 وأنا في بدايات عضويتي في الحزب الشيوعي، ومنها مشاركتي في تظاهرة تدعو للسلم في كردستان في العام 1962 ، كذلك التوقيع على عريضة (مذكرة) موجهة إلى الزعيم عبد الكريم قاسم تطالبه بوقف الحرب ضد الحركة الكردية وتدعو إلى حل القضية الكردية بالإعتراف بحقوق الشعب الكردي، وذلك من خلال السلم والحوار. وقد ساهمت في جمع تواقيع العشرات من الأصدقاء حينها.
ورابعها – بعض الملاحظات المبكرة التي تولدت لدي بشأن بعض مواقفنا من القضية الكردية، ومواقف القوى الأخرى، بما فيها القوى القومية الكردية. وهنا أذكر على سبيل المثال لا الحصر الموقف من رفع شعار “السلم في كردستان”، الذي نظرت إليه في فترة لاحقة باعتباره شعاراً عاماً يصلح لمنظمة مجتمع مدني، أو جمعية إنسانية لا لحزب عريق ذو تاريخ عريق ومواقف عريقة بصدد القضية الكردية، إضافة إلى الموقف الخاطئ والضار من حمل السلاح ضد الحركة الكردية في فترة الجبهة الوطنية مع حزب البعث في العام 1974،وهذه ربما تحتاج إلى مناقشتها في سياقها التاريخي دون تبريرها أو إغفالها.
وهناك جوانب أخرى كان لدي تحفظات بشأنها، وخصوصاً اتفاقية 6 آذار/ مارس لعام 1975 المعروفة بإسم “إتفاقية الجزائر” وهي اتفاقية مجحفة وغير متكافئة، وكنت قد توقفت عندها في وقت مبكر، أذكر بعضاً منها ما ورد في كتابي ” النزاع العراقي – الإيراني”، بيروت، 1981، وما جاء في مقالة بحثية بعنوان: “القضية القومية الكردية والحزب الشيوعي العراقي”، مجلة الحرية، العدد 87 (1162) في 21/10/ ، 1984. ومقالة أخرى الموسومة “القضية الكردية والحرب العراقية – الإيرانية”، مجلة الحرية، العدد 96 (1171) في 23/12/1984،. وهو ما أصبح نهجاً لي في معالجة الوضع العراقي.
أين دور المثقفين؟
ويعود الإهتمام بالقضية الكردية أيضاً إلى شعوري أن ثمة دور للمثقفين لا بد أن يلعبوه كما كانوا في خمسينيات القرن الماضي، بهدف بلورة رؤية خارج الأطر الرسمية، بحيث تساهم فيها النخب الفكرية والثقافية والسياسية العربية – الكردية اليسارية والقومية . وقد أخذت على عاتقي تحويل الفكرة إلى مبادرة، وهذه الأخيرة إلى فعل قابل للتنفيذ بتشكيل لجنة تحضيرية للملتقى الفكري الذي اتخذ من “الحوار العربي – الكردي” عنواناً له، وضمت اللجنة التحضيرية للملتقى أعضاء من اللجنة التنفيذية للمنظمة العربية لحقوق الإنسان وساهم معنا من الأصدقاء الكرد سامي شورش كعضو في اللجنة التحضيرية، وانعقد المؤتمر في المركز الثقافي الكردي الذي كان يرأسه محمد صديق خوشناو حينها.
وقد اخترنا عدداً متكافئاً من الكرد والعرب (25 + 25) بحيث يكون المجموع 50 مثقفاً وحضرت وسائل الإعلام المختلفة، وبعض الصحافيين مثل عبد الوهاب بدرخان وحازم صاغية وكاميران قرداغي، وكانت الشخصيات العربية والكردية تمثل الألوان المتنوعة في الساحة الثقافية والسياسية والفكرية.
ووقع اختيارنا من العراق على خمسة شخصيات أساسية تمثل كل منها تياراً فكرياً فعامرعبد الله رمزاً للشيوعيين والماركسيين وهاني الفكيكي عن البعثيين والقوميين والسيد محمد بحر العلوم عن الإسلاميين وعبد الكريم الأزري أقرب إلى التيار الملكي المنفتح وحسن الجلبي من التيار الليبرالي الأكاديمي القريب من التوجه الغربي، إضافة إلى حضور عراقي لعدد من الشخصيات المهتمة، ومن العرب حضرت شخصيات من مصر و سوريا والسودان و لبنان وفلسطين و المملكة العربية السعودية و البحرين و ليبيا.
ولعل مثل هذا الحضور النوعي والجغرافي كان الأول من نوعه في إطار حوار مفتوح دون أجندات مسبقة أو إصطفافات مبيتة، بل كان الغرض منه التعرف على واقع المطالب الكردية وعلى لسان الكرد بشكل حر وفي إطار مواقف عربية بعضها يستمع لأول مرة إلى واقع التنوع القومي في العراق، ناهيك عن ما تعرض له الكرد من مظالم.
وكان التمهيد لذلك الحوار محاضرة ألقيتها في مركز آل البيت الإسلامي في لندن ( بإدارة السيد محمد بحر العلوم) والموسومة “القضية الكردية في الفكر السياسي العراقي ” (31/5/1992)، ومحاضرة أخرى في المركز الثقافي الكردي، نشرتها في جريدة الحياة بعنوان:” الفيدرالية وحق تقرير المصير: جدل الحاضر والمستقبل”، (حلقتان في 2 و 3 آب/ أغسطس 1992 ).
القرار 688
ترافق ذلك التوجه بعد فشل مفاوضات بغداد و صدور القرار 688 في 5 نيسان/ أبريل 1991 من مجلس الأمن الدولي حيث عادت القضية الكردية إلى الأروقة الدولية، وخصوصاً في الأمم المتحدة، حيث أكد القرار المذكور على وقف القمع الذي تتعرض له المنطقة الكردية وبقية مناطق العراق، بل اعتبر هذا القمع “تهديداً خطيراً” للسلم والأمن الدوليين، ودعا إلى احترام الحقوق السياسية لجميع المواطنين العراقيين، وذلك في إطار الدعوات التي ارتفعت لاحترام حقوق الإنسان، لاسيما بعد تحلل الكتلة الإشتراكية في نهاية الثمانينيات، كما طلب تقديم تقرير دوري إلى الأمين العام للأمم المتحدة.
وبسبب مشاهد الهجرة الجماعية وما رافقها من دعوات إنسانية، وأخرى تتعلق بتداعيات ما بعد غزو الكويت وتدمير العراق، قررت حكومات كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا منع الطيران العراقي من التحليق فوق خط العرض 36 باعتباره منطقة آمنة “الملاذ الآمن ” Safe Haven ، وقد شملت المنطقة الكردية التي تأسست فيها إدارة ذاتية بعد إنسحاب الإدارة الحكومية في نهاية العام 1991 وإجراء إنتخابات لأول برلمان في كردستان (ربيع العام 1992) ، وتأليف أول حكومة لإقليم كردستان، الذي قرر برلمانه في 4 تشرين الأول / أكتوبر 1992 اختيار الفيدرالية كشكل للعلاقة المستقبلية مع عرب العراق. وهو ما تقرر في مؤتمر صلاح الدين للمعارضة
وإذا كان من يقرر مصير العلاقة العربية – الكردية هي الجهات السياسية، خصوصاً القابضة على السلطة، فإن رأياً عاما يمثل تيارات مختلفةً وبقوة ناعمة ومتنوعة ، وخصوصاً بحضور نوعي للمثقفين، يمكن أن يؤثر في التوجه العام، وذلك بالتراكم والتطور التدرجي، حتى وإن جاء بعد حين. ولم يكن بيان 11 آذار /مارس 1970 ، سوى ثمرة لتراكم كمي طويل الأمد وصل إلى مثل هذا التغيير النوعي.
إن فكرة الحوار تنم عن رغبة في إيجاد حلول ومعالجات، ووضع مخرجات للتطبيق يمكن أن تكون خلفية لأصحاب القرار، فالحوار العربي – الكردي، الذي كنا وما زلنا ندعو له هو حوار معرفي وثقافي وفكري وحقوقي يبدأ من منطلقات المصير المشترك والحقوق المتكافئة وتوسيع الخيارات بما يستجيب لمصالح الشعبين العربي والكردي، ومن مقاصده أيضاً لفت الإنتباه إلى أهمية حل القضية الكردية كمسألة مركزية بالإرتباط مع مسألة الحكم في العراق على صعيد السلطة والمعارضة، وكان شعار “الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان” يمثل جزءًا مهماً من الحركة الوطنية وعموم الحركة الكردية منذ الستينيات.
والحوار يعبر عن درجة عالية من الوعي والمسؤولية والشجاعة في تناول المشكلات بصراحة ووضوح وأفق مستقبلي أيضاً، دون نسيان الحواجز الفعلية والوهمية التي تعترض هذه الطريق، بما فيها مواقف بعض القوى القومية العربية السلبية ولا أبالية الحركة الدينية الناشئة التي لم تتخذ موقفاً فعلياً من الحقوق الكردية حتى العام 1992، بل ظل موقفها أقرب إلى جملٍ عمومية متفرقة.
مناظرة بعد 30 عام
على هذه الأسس والخلفية التأمت مناظرة بعد 30 عاماً في مدينة الثقافة والجمال السليمانية ضمت كاتب السطور والسياسي والمثقف الكردي الفطن والجريء ملا بختيار ( حكمت محمد كريم) القيادي في حزب الإتحاد الوطني الكردستاني الذي أسسه الرئيس جلال طالباني في العام 1975 ، لتناقش بجو حضاري وشفافية عالية المشكلات القديمة والجديدة، بما فيها ما احتواها الدستور النافذ لعام 2005 ، وكان هدفها الأساسي البحث عن المشتركات وتوسيع دور المثقفين في تعزيز العلاقات بحثاً عن السلم والمساواة والجمال.
جدير بالذكر أن المناظرة التي خصصت لها جلسة مستقلة و لقيت اهتماماً بالغاً، حيث تم نقلها مباشرة عبر يوتيوب، كانت ضمن جدول أعمال فعالية ثقافية عربية تم تنظيم جلستها الأولى في مدينة العمارة ( جنوب العراق) لتجمع عدد من المثقفين العرب تحت عنوان “مؤتمر القمة الثقافي” الذي ينسق أعماله الأديب محمد رشيد، فجاءت المناظرة مترافقة مع انعقاد الجلسة الثانية في مدينة السليمانية.
وكان الحوار خارج دائرة المدح أو القدح وبعيداً عن الولاء أو العداء أو التأييد أو التنديد أو التقديس أو التدنيس، بل تم طرح القضايا ذات الإهتمام المشترك بروح الصداقة المتبادلة وضمن أجواء حضارية ومستقبلية، بما فيها تباين وجهات النظر واختلاف زوايا الرؤية في الماضي والحاضر.
فماذا يريد الكرد من العرب؟
وماذا يريد العرب من الكرد؟
وكيف السبيل لطي صفحة الماضي البغيض خصوصاً تعامل الحكومات المتعاقبة مع حقوق الشعب الكردي، تلك التي اقترنت بالتمييز والعسف والاضطهاد، ومنذ تأسيس الدولة العراقية في العام 1921 ، وكان أكثرها قسوة من جانب النظام البعثي السابق، على الرغم من أن الإعتراف بحقوق الشعب الكردي الأولية، كان قد تقرر في بيان 11 آذار/ مارس 1970 وأدرجت في الدستور العراقي الصادر في تموز/ يوليو 1970 ، وتلك مفارقة كبيرة أيضاً تستحق التوقف عندها، وقد سبق لي أن أضئت بعض جوانبها.
نصوص دستورية
كان أول نص دستوري تقرر فيه “شراكة العرب والكرد” في الوطن العراقي قد ورد في الدستور العراقي المؤقت الذي خطه يراع الطيب الذكر الفقيه القانوني حسين جميل في العام 1958 بعيد ثورة 14 تموز/ يوليو، وأهم من ذلك، بعد اتفاق 11 آذار/ مارس 1970 حيث ورد النص دستورياً ” أن العراق يتألف من قوميتين رئيسيتين هما العربية والكردية ….” وهو إعتراف صريح وواضح بالحقوق السياسية والإدارية والثقافية، وكل ذلك في إطار الإئتلاف والإختلاف، من خلال الإقرار بخصوصية الشعب الكردي في العراق، وهذه تقود منطقياً إلى الإعتراف بمقوماته بما فيها حقه في تقرير المصير.
وهذا لا يعني بالضرورة الانفصال كما يذهب البعض إلى ذلك، وهو إعتقادٌ خاطئ من أي جاء، فالعديد من القوميات والشعوب والمجموعات الثقافية والإثنية والدينية والسلالية واللغوية تعيش في دول متعددة الثقافات وفي إطار حقوق متساوية دستورياً، بغض النظر عن عددها وحجمها، لكن الإقرار بكيانيتها وخصوصيتها يمنحها مثل هذا الحق الذي يمكنها التمتع فيه كحق قانوني واستخدامه بطريقة إيجابية، وتعود المسألة في أغلب الأحيان إلى درجة تطور المجتمع والثقافة السائدة ودور النخب الفكرية والثقافية والسياسية من الأمة” المضطهدة” ومدى تضامنها مع الأمة “المضطهدة” حسب تعبير كارل ماركس ” لا يمكن لشعب يضطهد شعباً آخر أن يكون حراً” ، أي لا بد من الاعتماد على شكل من أشكال الإستقلالية المتجسدة بالحكم الذاتي أو الفيدرالية أو الكونفيدرالية وصولاً إلى إقامة كيانية خاصة حين يصبح العيش المشترك مستحيلاً، وهو مثل الطلاق على حد تعبير لينين ( أبغض الحلال عند الله ).
إن مثل هذه المواقف مرهونة بالظرف الموضوعي والذاتي للطرفين ومدى توافقهما على المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة وعلى درجة الإصطفاف في معسكر الأصدقاء أو معسكر الأعداء. أي على مدى تضامن الأمة الأكبر مع الأمة الأصغر في نبذ الإستعلاء والهيمنة مقابل نبذ الأمة الأصغر للتعصب والانغلاق، سواء حين يتقرر الإتحاد الإختياري الأخوي في ظل شراكة متكافئة، ومواطنة كاملة ومتساوية أو حين يتقرر الإنفصال، علماً بأنه ليس كل انفصال يقضي إلى تطور ورفاه وتنمية، إلا إذا توفرت ظروفه الموضوعية والذاتية، وتجربة جنوب السودان الذي انفصل باستفتاء حاز على 98% لصالحه وبإشراف من الأمم المتحدة لكن أوضاعه زادت سوءًا وحالته تدهوراً.
دروس التاريخ
إن دراسة التاريخ ضرورية، فالتاريخ مراوغ وماكر حسب هيغل، ووفقاً لماركس “ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم إنما وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم” بمعنى من المعاني أن الحياة هي التي تحدد الوعي، وبالطبع فلكل تاريخ فلسفته ، وفلسفة تاريخ القمع ضد الكرد، ليست سوى الانجراف بالضد من الصيرورة الإنسانية. وهو الأمر الذي يثير أسئلة مقلقة بشأن استخدامات القوة والعنف واللجوء إلى السلاح لحل الخلافات، خصوصاً من جانب القوى المهيمنة، وإذا كانت قوة الحق وقوة المقاومة متسقة برفض من جانب الجهات التي تتعرض للقمع، ففي وجهها الثاني تضامنٌ من جانب الأصدقاء في الدفاع عن المظلومين والمضطهدين، خصوصاً وأن الشعب الكردي تعرض منذ تأسيس الدولة العراقية أي قبل 100 عام إلى إنتهاكات سافرة على حد تعبير ملا بختيار.
وكانت الكثير من القوى تتخذ من حقوقه موقفاً سلبياً أو لا مبالياً حتى فترة قريبة. وقد حاولت جميع الحكومات التي تعاقبت على سدة الحكم استخدام الوسائل العسكرية و العنفية في مواجهة مطالبه العادلة والمشروعة، لكنها لم تتمكن من فل عزيمته، كما أنه لم يستطع نيل حقوقه وتحقيق آماله بوسائل المقاومة العنفية على أهميتها وعلى اضطراره إليها، الأمر الذي يقتضي التفكير ملياً بالوسائل السلمية والمدنية أسلوباً مرجحاً وغالباً لتحقيق طموحاته، وهو ما ينطبق اليوم على علاقة إربيل ببغداد وعلى حل القضية الكردية في كل من إيران وتركيا، إضافة إلى مستقبل الإدارة الذاتية الكردية في سوريا وعلاقتها مع الدولة السورية.
الحوار الثاني
إذا كان أول حوار عربي – كردي من النوع الذي جرت الإشارة إليه انعقد في لندن في العام 1992 ، فإن الحوار الثاني التأم في القاهرة في العام 1998 بعد وقف الإقتتال الكردي – الكردي 1994 – 1998 بالتعاون مع لجنة التضامن المصرية برئاسة أحمد حمروش وشارك في التحضير له الصديق عدنان المفتي (ممثل عن أوك) وعمر بو تاني (ممثل عن حدك) ، وحضره نحو75 شخصية بينهم عدد كبير من الشخصيات الكردية وعدد قليل من عرب العراق من بينهم كاتب السطور الذي حضر بحثاً رئيسياً وعدد من الشخصيات المصرية البارزة ، وكان مؤتمر القاهرة استكمالاً وتواصلاً للحوار الأول وشارك فيه جلال الطالباني، زعيم الإتحاد الوطني الكردستاني وعدد من قيادات الحزب الديمقراطي الكردستاني وبمباركة من رئيسه مسعود البارزاني.
لكن هذا الحوار المتكافئ والموضوعي كان يمكن تطويره و مأسسته، وجرت محاولات على صعيد تشكيل جمعيات للصداقة العربية – الكردية، فضلاً عن دعوات لقيام معهد للدراسات العربية – الكردية، إلا أنه بعد إحتلال العراق العام 2003 اتخذ أشكالاً أخرى ، وذلك باستقطابات جديدة، فإما كان أقرب إلى مهرجانات تأييد ومبايعة وولاء دون حوار يطرح الإشكالات أو يقترح حلولاً ومعالجات أو يناقش وجهات النظر المختلفة، حيث ظلت معظم المشكلات عائمة دون حلول، وانعكس ذلك في دستور العام 2005 ، الذي زاد من حدة الإختلاف بسبب الألغام العديدة التي احتواها لدرجة أن الفرقاء الذين أقروا الصيغة الفيدرالية حين كانوا في المعارضة وفي مؤتمر صلاح الدين العام 1992 ظهروا كمتخاصمين، بل أقرب إلى “الإخوة الأعداء” باقتباس من عنوان رواية الشاعر والمفكر اليوناني نيكوس كازانتزاكيس، وهو ما انعكس في صياغات غامضة وملتبسة ومشفرة تكاد تنفجر عند أول منعطف أو اختلاف كما حصل عند استفتاء إقليم كردستان ، وأصبحت مع مرور الأيام عقداً تضاف إلى العقد المزمنة والمشاكل المعتقة.
الاستفتاء
كان الإستفتاء الكردي في 25 أيلول/ سبتمبر العام 2017 مجساً جديداً للعلاقات العربية – الكردية، وكاد الأمر أن يؤدي إلى صدام لا يحمد عقباه على الرغم من خطر داعش الإرهابي (تنظيم الدولة الإسلامية) الذي كان ما يزال يحتل الموصل وأجزاء أخرى من محافظات صلاح الدين والأنبار وله جيوب في كركوك وديالى . وانقسمت النخب وسط تأجج للمشاعر واستدرار للعواطف بين مؤيد بلا حدود للإستفتاء، حتى وإن لم يكن مؤيداً لحق تقرير المصير للشعب الكردي، ولكن لمكاسب وامتيازات وطموحات ومساومات سياسية وخصومات معلنة أو مستترة وفقاً لميزان القوى، وبعضها الآخر رافض بالمطلق للفكرة أساساً منقلباً حتى على بعض مواقفه السابقة من تأييد حقوق الشعب الكردي، سواء لحسابات إقليمية أو لقصور في التفكير وضيق أفق ومحاولات للإستقواء.
ولم يكن بعض هذه المواقف بعيداً عن دول الإقليم، وخصوصاً إيران وتركيا، وكلاهما وجها رسائل واضحة وصريحة من جهة، ومن تحت الطاولة من جهة أخرى ، بأن الإستفتاء لن يمر وسيعملان بكل ما يستطيعان على إفشاله، لإدراكهما ما سيكون له من تأثير على حقوق الشعب الكردي لديهما، فالبلدان يعانيان بأشكال مختلفة من إنسداد أفق إزاء حقوق الشعب الكردي في كل منهما ، فتركيا تلتهب فيها القضية الكردية منذ الثمانينيات وينشط فيها حزب العمال الكردستاني PKK حيث ما يزال زعيمه عبد الله أوجلان رهن السجن منذ العام 1999 ، وهو صاحب فكرة “الأمة الديمقراطية “التي تكمن في إطارها تحقيق حقوق الشعب الكردي بالإعتراف به وبخصوصيته وحقه في حكم نفسه بنفسه. أما إيران فما تزال تعتبر “القومية” بدعة وضلالة، وكل بدعة في النار، وبالتالي فأي مطالبة بالحقوق القومية تنظر إليها بصفتها استهدافاً للجمهورية الإسلامية.
وإذا كان الإستفتاء قد حصل في إطار إقليم كردستان، وصوت إلى صالحه الغالبية الساحقة من سكانها، إلا أن نتائجه ظلت مقتصرة على الرغبة المعلنة، وهي خيار استراتيجي كردي مع معارضة قوى داخلية وإقليمية وتحفظات دولية. وكان وزراء خارجية كل من إيران وتركيا وسوريا يلتقون منذ مطلع التسعينيات ولغاية وقوع العراق تحت الإحتلال العام 2003 ، وفي كل اجتماع ، تتم الإشارة إلى حالة الفلتان الأمني والفوضى والمخاطر على الوحدة الوطنية العراقية، وليس ذلك سوى التعبير عن خشية من انتقال مثل تلك الحالة إليها، وخصوصاً ما يتعلق بقيام كيانية كردية.
اللحظة التاريخية
إذا كنا قد تحدثنا عن المؤيدين والمنددين لخيار الإستفتاء، فثمة فريق ثالث وإن كان الأقل عدداً ولكنه الأكثر وجدانية وصميمية بتأييده حقوق الشعب الكردي كاملة وغير منقوصة، بما فيها حقه في تقرير المصير، ولكن قرار مثل ذلك القرار المصيري لابد من دراسته بدقة وإحكام، بما فيه قياس درجة تقبل الوضع الإقليمي والدولي، إضافة إلى حشد قوى صديقة ومجتمعية في الداخل العراقي، كيما تتوفر له عوامل النجاح والإستمرارية والديمومة، خصوصاً وأنه سيقود إلى إحداث تغيرات جيوبوليتكية في الحال أو في المستقبل، الأمر الذي يقتضي حساب اللحظة التاريخية في الإختيار والتوقيت استراتيجياً وتكتيكياً، بما لها علاقة بمستقبل الشعب الكردي وطموحاته المشروعة،إضافة إلى علاقته المستقبلية بالشعب العربي وظروف توازن القوى في المنطقة كي لا يكون عرضة لإختراق القوى الإقليمية، خصوصاً ما يتردد عن تأييد مجاني يشكل إستفزازاً لمشاعر عربية من جانب “إسرائيل” مستغلة ومستفيدة من اضعاف أي كيانية عربية من خلال تأجيج نار الصراع والإحتراب وصولاً إلى تفتيتها أو تقسيمها.
وحتى بعض القوى الدولية التي كان يعتقد تأييدها لخطوة الإستفتاء، فإن موقفها كان سلبياً ومتحفظاً، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، التي كان بعض المسؤولين الكرد يعولون عليها، لأنها وضعت مصالحها الحيوية في العراق والمنطقة، قبل أي اعتبار آخر.
وعلى الرغم من استراتيجية واشنطن المعلنة والتي بلورها على نحو واضح برنارد لويس منذ نهاية السبعينيات، إلا أن إختيار اللحظة التاريخية مسألة ينبغي أن تؤخذ بنظر الإعتبار بقراءة المستجدات والمصالح الدولية، إذْ لا تكون أحياناً متوافقة أو متطابقة مع متغيرات محلية ولكل ذلك سياقاته الجيوبوليتكية في الصراع والإتفاق وبما ينسجم مع المصالح الحيوية كما تسميها القوى المتنفذة.
لقد نظر برنارد لويس لفكرة تقسيم العالم العربي إلى دويلات إثنية ودينية وطائفية ومناطقية وغيرها، حتى أنه اقترح خريطة ضمت 41 كياناً، وهكذا يصبح الجميع “أقلية “، وتكون حينها “إسرائيل” الأقلية المتفوقة تكنولوجياً وعلمياً، لاسيما بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص والغرب عموماً، وكان إيغال ألون في سياساته الإستيطانية الطويلة الأمد وصولاً إلى إجتياح لبنان ومحاصرة العاصمة “بيروت” 1982 قد تبنى سياسة القضم التدرجي للأراضي الفلسطينية وتفتيت العالم العربي، وهو مشروع قائم ومستمر بأشكال مختلفة، وكان آخرها وليس أخيرها مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي روج له جورج بوش الإبن عند احتلال العراق، ومشروع الشرق الأوسط الجديد الذي بشرت به كونداليزا رايس وزيرة خارجية الولايات المتحدة بعد العدوان “الإسرائيلي” على جنوب لبنان في العام 2006 ومشروع جو بايدن الخاص بتقسيم العراق إلى ثلاث فيدراليات أقرب إلى “كانتونات” أو “دوقيات” والذي وافق عليه الكونغرس الأمريكي العام 2007 ، وهو وإنْ ما يزال في الأدراج إلا أنه يمكن تحريكه باللحظة المناسبة فيما إذا اختارت الولايات المتحدة ذلك، وقد دعا الرئيس دونالد ترامب إلى مشروع صفقة القرن ، والذي هو استمرار لإتفاقية سايكس – بيكو ولكن بطبعة جديدة، وكان الفلسطينيون قد خسروا وطنهم في الصفقة الأولى، ولم يتمكن الكرد من تلبية طموحهم في وطن موحد كما جاء على لسان الملا بختيار في مناظرة السليمانية.
وحتى بعد إتفاقية سيفر لعام 1920، التي اعترفت بجزء من حقوق الكرد والتي تم تسويفها بمعاهدة لوزان العام 1923حين قرر الحلفاء المساومة لحساب تركيا، كان الضحية الشعب الكردي وشعوب المنطقة جميعاً، خصوصاً بعد وعد بلفور العام 1917 القاضي بمنح اليهود حق إقامة دولة لهم في فلسطين، وتمهيداً لذلك كان الإنتداب البريطاني على فلسطين في العام 1922 ، بعد أن تقرر الأمر في مؤتمر سان ريمو العام 1920.
وحين أستعرض تاريخ المنطقة، فإنما أريد الإضاءة على إشكالية إتخاذ القرار بالتساوق بين ما هو موضوعي وما هو ذاتي، دون أن يعني ذلك تخفيض سقف مبدأ حق تقرير المصير. وبالعودة إلى قرار الإستفتاء الذي أثار زوبعة من العداء والكراهية والإتهامات المنفلتة من عقالها، حيث عادت لغة التخوين والتشكيك، ووجد البعض ضالته بإذكاء نار الصراع، فأحيا من جديد ما توفر في القاموس القديم بما فيه استخدامات الأنظمة السابقة ومعارضاتها، ولعبت القوى الأكثر تطرفاً في الضرب على الأوتار الحساسة لدى الجانبين العربي والكردي. فماذا يتطلب الأمر من المثقفين المؤمنين بقيم الحرية والتحرر وحق تقرير المصير؟
الأمير الحسن وحوار عمان
كمثقفين يهمنا إقامة علاقات سوية ومتكافئة ومتساوية وسلمية، خصوصاً بما يجمعنا من قيم مشتركة أساسها نبذ التمييز ورفض الظلم والإستبداد والإضطهاد والدفاع عن الحقوق والحريات وصولاً إلى سلام عادل يلبي طموح الكرد في إطار المصالح الوطنية العليا والقيم الإنسانية، ولكي يتم توسيع دائرة الحوار ونزع فتيل النزاع بادر سمو الأمير الحسن بن طلال بقناعة بالدعوة الخيرة لرأب الصدع وإعادة اللحمة، خصوصاً بين المثقفين الكرد والعرب، فدعا في عمان إلى حوار عربي – كردي في 1 آذار/ مارس 2018 ، ساهم فيه مثقفون كرد وعرب من الأقطار العربية المختلفة، وبينهم بالطبع من العراق أيضاً.
وطرح لقاء عمان بلاتفورم للعمل عليه فيما يتعلق بتعزيز الروابط الثقافية والفنية والأدبية وتشجيع الترجمة وتبادل الزيارات وإقامة فاعليات وأنشطة مشتركة على جميع المستويات الفنية والرياضية والإجتماعية، يكون سقفها الإحترام المتبادل ومراعاة الخصوصية والهويات المتعددة بما يجمعها من مشتركات عامة. وصدر في كراس بعنوان ” الحوار العربي – الكردي” – خلاصة أعمال ندوة عقدها منتدى الفكر العربي في 1 آذار/ مارس 2018.
وقد أجريت جولة الحوار العربي – الكردي، الفكري والثقافي بشفافية عالية واعتمدت كأساس لإقامة جولة ثانية موسعة للحوار وفقاً للبلاتفورم الذي وضعه منتدى الفكر العربي، ولولا اجتياح المنطقة والعالم أجمع جائحة كورونا (كوفيد-19) لكان من المقرر التواصل لتحديد موعد للجولة الثانية.
حوار أعمدة الأمة الأربعة
واستناداً إلى نجاح فكرة الحوار العربي – الكردي، بادر سمو الأمير الحسن لتبني مقترح تنظيم جولة لحوار مثقفي الأمم الأربعة: الكرد والفرس والترك والعرب في 23 تموز/ يوليو 2018 ، وكان أول لقاء لوضع هذا المقترح موضع التنفيذ قد حصل في تونس في إطار المعهد العربي للديمقراطية 2016 بمبادرة من كاتب السطور ، وشارك فيه شخصيات كردية وفارسية “إيرانية” وتركية وعربية، وتأسس وفقاً له لاحقاً منتدى التكامل الإقليمي في بيروت 2019، إلا أن جائحة كورونا وظروف التباعد حالت دون تنشيط دوره، علماً بأنه عقد لقاءً تشاورياً في تونس أيضاً في مطلع العام 2020.
وبالعودة إلى مبادرة سمو الأمير الحسن فقد انعقد “مؤتمر أعمدة الأمة الأربعة” بحضور شخصيات من تركيا وإيران وكردستان (العراق) والبلاد العربية. وتجري الإستعدادات لعقد لقاء جديد يستكمل اللقاءين السابقين، العربي – الكردي و”أعمدة الأمة الأربعة”، وقد انعقد لقاء تشاوري للجنة مصغرة ضمت ممثلين عن مثقفين من الأمم المشار إليها .
السليمانية : التواصل والتكامل
تواصلاً مع مؤتمرات الحوار العربي – الكردي منذ 30 عاماً، فإن المناظرة الفكرية التي انعقدت في السليمانية 3-5 أيلول/سبتمبر 2021، والتي تحدث فيها ملا بختيار وكاتب السطور، أعادت طرح الإشكالية التي هي العنوان العام لجميع الحوارات: ماذا يريد الكرد من العرب وماذا يريد العرب من الكرد؟ وكيف السبيل لتعزيز دور المثقفين للتفاعل والتواصل في إطار المشترك الإنساني؟
ومن خلال المداخلات وعلى هامشها أيضاً تم التفكير في سبل جديدة لبحث و تطوير ما هو مشترك وصولاً إلى ما هو خلافي، أو العكس البدء مما هو خلافي لتنقية الأجواء وصولاً إلى ما هو مشترك، وذلك بالعمل على إزالة العقبات التي تعترض طريق المثقفين والثقافة التي هي المظلة التي يستظلون تحت لوائها، كما يمكن تحديد الأولويات بدءًا بالمواطنة وفكرة الإتحاد الإختياري والعيش المشترك، من خلال مناقشة التجارب العملية، سواء ما هو قائم منها أو ما هو محتمل إبتداءً من الحكم الذاتي ومروراً بالفيدرالية وصولاً إلى الكونفيدرالية، مثلما يمكن مناقشة حق تقرير المصير في تجلياته الحقوقية والسياسية، بجوانبها النظرية والعملية بما فيه تشكيل كيانية خاصة بالكرد فيما إذا رغبوا بالإستقلال وتكوين دولة حين يصبح العيش المشترك مستحيلاً.
”الضد” واﻠ “مع”
الأمر لا يتعلق بالرغبات (ضد أو مع)، بل بتوازن القوى والمصالح وإمكانية الإستمرار في كيانية كردية خاصة دون تداخلات أجنبية، وخصوصاً إقليمية، ناهيك عن ضغوط دولية، فما هو دور المثقف الكردي النقدي التنويري التبصيري؟ وأين يكمن جوهر ثقافته؟ وكيف السبيل للتواصل مع شقيقه المثقف العربي في العراق والعالم العربي، ناهيك عن المثقف الإيراني والمثقف التركي ؟ والأسئلة ذاتها هي التي تواجه المثقف العربي في العراق، فما هو دوره؟ وكيف ينظر إلى مطالب شقيقه المثقف الكردي؟ وماذا يريد منه؟
ففي بعض المواقف ثمة اختبار لصدقية وإنسانية وثقافة المثقف، إذْ كيف يمكن تطويع وسيلته الإبداعية لخدمة القيم الإنسانية والجمالية؟ ثم ما السبيل لتواصله مع شقيقه المثقف الكردي في كردستان العراق أو في بقية أجزاء كردستان؟ ويتطلب الأمر النظر بحيوية وتكافؤ دون إستعلاء أو تسيد أو ادعاء بالأكثرية العددية من جانب المثقف العربي ودون تعصب أو انغلاق من جانب المثقف الكردي.
الراهن مستمر
مثل هذه الأسئلة الراهنة، كانت “راهنة” دائماً وعلى قدر كبير من الحساسية في وقت تمت الدعوة لأول حوار عربي – كردي في العام 1991 خارج الأطر الرسمية حين التأم في العام 1992 ، ويتذكر الأحياء من الذين حضروا المؤتمر الأول للحوار وهم كثر من العرب والكرد كيف سارت وجهة الحوار في بداياتها؟ وكيف انتهت إليه في خاتمتها وهو ما يعزز الثقة بالحوار وأهميته وأفقه المستقبلي؟
وهو ما يمكن الإجتماع عنده كمثقفين وأصدقاء معنيين بشؤون الثقافة وبالدور المنشود للمثقف، خصوصاً حين يكونون على قناعة بأهمية العلاقات العربية – الكردية ليس ببعدها السياسي فحسب، بل بأبعادها الجيوسياسية والثقافية والإجتماعية والصداقية والإنسانية.
وبما أن المثقف ناقدٌ فمن خلال النقد والنقد الذاتي والمراجعات الضرورية يمكن التوصل إلى مشتركات لتجسير الفجوة بين المثقفين أولاً، وإزالة بعض الحساسيات والعوائق خارج دوائر الإستتباع والهيمنة أو الإنعزالية والإنغلاق، وهو ما ينبغي البناء عليه في إطار علاقات حميمية وصادقة، فلا الولاء أوالمديح أوتأييد السياسات بما لها وما عليها، ولا العداء أوالتجريح أو الشوفينية ، تستطيع بناء علاقات صادقة وصافية ومحترمة وواعدة في الآن، تلك التي تعني توسيع خيارات الناس في التنمية والتقدم والإزدهار.
لقد كانت مناظرة السليمانية علامة مضيئة على طريق الحوار العربي – الكردي، خصوصاً وأنها من السليمانية وكردستان، لذلك فإنها ستكون خطوة إيجابية وموفقة لتعضيد المبادرات العربية على هذا الصعيد، وبالتالي يمكن أن تكون نواة لحوار قادمٍ بين مثقفي الأمم الأربعة الذي هو الآخر يحتاج إلى مأسسة وإدارة وتواصل في الحقول المختلفة.
حوار 50 عاماً أفضل من ساعة حرب
أعتقد إن السبيل لبلوغ الأهداف المشتركة هو الحوار، وكما قيل حوار 50 عاماً أفضل من حرب ساعة، فالحرب ستترك ويلات ومآسي وآثار إجتماعية ونفسية وجروح يصعب إندمالها أحياناً وذاكرة قد تتجه إلى الكراهية والحقد والإنتقام، فما بالك حين يكون ضحيتها الشعب الأعزل والجهات التي دفعت إليها دفعاً، حتى وإن كانت خارج دائرة الصراع.
والحوار يتطلب جهداً أكبر يجمع مثقفين من تيارات فكرية واجتماعية مختلفة، ليكونوا قوة ضغط وقوة إقتراح وقوة شريكة ومكملة في وضع الحلول والمقترحات، من خلال رؤية حقوقية – إنسانية، انطلاقاً من المشتركات والمصالح والمنافع المتبادلة.
أعتقد أننا كنخب عربية وكردية بحاجة إلى حوارات معمقة وتفاهمات استراتيجية واتفاقات طويلة المدى وثقة متبادلة وصراحة كاملة وشفافية عالية ونقد متبادل ونقد ذاتي أيضاً، لندفع بجهد السياسيين لعلاقات منزهة خالية من الأغراض والتكسب والمصالح الأنانية الضيقة، والتفاهمات التكتيكية الطارئة والظرفية والصفقات، والتي سرعان ما تتبخر وتظهر عيوبها، وذلك بعيداً عن أجواء الغرف المظلمة أو المهرجانات الصاخبة ذات الطابع الدعائي والتي غالباً ما تأخذ جانب المجاملة والإحتفالية.
وكنت لأكثر من مرة قد أشرت إلى ضرورة مراجعة وتدقيق ما يحتاجه الطرفان العربي والكردي وكلاهما مستهدفٌ من قوى خارجية وأخرى داخلية لا تريد لهذا الملف أن يصل إلى غاياته المنشودة ، وكان آخرها في المنتدى الأكاديمي الدولي بالتعاون بين جامعتي كويسنجق وبغداد 28 - 29 نيسان/ أبريل 2019 وفي بحثٍ عن “المثقف ومسألة التعايش المشترك” حاولت أن أضع أمام المعنيين عدداً من القضايا التي تحتاج منا إلى وقفة جدية لمراجعتها ومنها:
• المحاولات الحثيثة لعزل الكرد عن المحيط العربي وإضعاف ما هو مشترك وإيجابي في العلاقات وتقديم ما هو إشكالي و خلافي، حيث يجري تضخيم “الفوارق” بدلاً من تعظيم “الجوامع”. وفي هذا المجال هناك تفاصيل عديدة، تتعلق باللغة والثقافة والترجمة والفنون والأداب والعلاقات بشكل عام.
• تحميل العرب والعروبة وزر ما حدث للكرد من اضطهاد وعسف شوفيني. وبنظرة تعميمية تتحول ارتكابات النظام السابق وآثامه والأنظمة التي سبقته وكأنها ارتكابات من جانب العرب والعروبة، ومثل هذه النظرة تنطلق من رد الفعل بعيداً عن العقلانية النقدية الإيجابية، ناهيك عن الواقع.
أما من جانب العرب فيتم:
• اتهام الكرد بالانفصالية والعداء للعرب لمطالبتهم بحق تقرير المصير ودعوتهم لإقامة كيانية خاصة مستقلة بهم (دولة) ، وتحميلهم مسؤولية ما حدث وما يحدث بعد الاحتلال. ومثلما ينبغي التمييز بين عروبة الحكام المستبدين وعروبة العرب، فإن ضيق أفق بعض النخب السياسية الكردية الانعزالية لا ينبغي أن يتحمله المثقفون الكرد، ناهيك عن الشعب الكردي.
• عدم اكتراث بعض عرب العراق وقسم كبير من القوى السياسية، فضلاً عن المثقفين العرب من بلدان عربية أخرى بمسألة كرد إيران وكرد تركيا وكرد سوريا وحقوقهم المشروعة، وكأن الأمر لا يعنيهم، في حين أنهم يطالبون الكرد باتخاذ مواقف تضامنية مع العرب في كل مكان، وخصوصاً فلسطين، إلا أنهم يقفون موقفاً سلبياً إزاء حقوق الكرد.
• عدم اكتراث بعض كرد العراق أو غيرهم من الكرد بحساسية العلاقة مع “إسرائيل” المنتهكة لحقوق الشعب العربي الفلسطيني، ولاسيما حقه في تقرير المصير.
• وعلى الطرفين العربي والكردي عدم تقديم ما هو طارئ ومؤقت وآني من قضايا شائكة ومعقدة، على حساب ما هو استراتيجي وثابت وبعيد المدى. والأمر يشمل النخب السياسية بالدرجة الأساسية، والنخب الفكرية والثقافية والحقوقية أيضاً وإن بدرجة أدنى.
وعلى الطرفين العربي والكردي تبديد المخاوف والشكوك إزاء بعضهما البعض، إذْ لا بد للمثقفين العرب تبديد مخاوف الكرد وذلك من خلال تعزيز وتوطيد العلاقة والتفاهم والمشترك الإنساني، والاعتراف بحقوقهم وفي مقدمتها حقهم في تقرير المصير بكل ما يتضمنه هذا الحق وما يعنيه من مضامين، لا باعتبارها منة أو هبة أو هدية، بقدر كونها إقراراً بواقع أليم وانسجاماً مع النفس في الإنتصار للمظلوم والشريك في الوطن، فضلاً عن مبادئ المساواة والعدالة والشراكة والمواطنة المتكافئة التي هي الأساس الذي ينبغي أن يقوم عليه بناء الدولة ، مثلما ينبغي أن تقوم عليه العلاقات بين الشركاء. فالكرد أمة مثل بقية الأمم لها الحق في تقرير مصيرها وتحقيق الوحدة الكردية الكيانية، مثلما العرب أمة قسمها المستعمرون أيضاً ولها الحق في إقامة الوحدة العربية. وهو ما ينبغي أن يؤطر قانونياً وفي سياق دستوري متسق.
كما لا بد للمثقفين الكرد تبديد مخاوف العرب بتأكيد اعتبارهم جزءًا من العراق في إطار حق تقرير المصير الذي اختاروه عبر النظام الفيدرالي، علماً بأن لا سعادة للعرب من دون الكرد، ولا سعادة للكرد من دون العرب في العراق، لأن مصيرهما مشترك وذلك قدر الجغرافيا، سواء أكان نقمة أم نعمة.
ولعل جميع هذه القضايا ستظل مطروحة للنقاش، وقد جاء بعض هذه القضايا في مناظرة المفكر الكردي ملا بختيار مع كاتب السطور عبر فيها الطرفان برحابة صدر وموضوعية وشفافية عالية.
عوضاً عن الخاتمة
وفي الختام أود أن أشير إلى ما سبق وأن قلته منذ عقود من الزمن، وهو أن “أغلبيات” كثيرة اجتمعت في شخصي المتواضع، وذلك بمحض الصدفة، وهي أغلبيات دينية وقومية وحسب البعض مذهبية، وأزعم أنها أغلبيات شعبية، وخصوصاً دفاعي عن الفقراء والكادحين وعموم المظلومين، ولكن عروبتي التي أعتز بها وانتمائي الصميمي للحضارة العربية – الإسلامية ودفاعي عن المسحوقين ستكون ناقصة ومبتورة ومشوهة إن لم أعترف بحقوق الآخرين وفي مقدمتهم الشعب الكردي الشقيق، ولاسيما حقه في تقرير مصيره.
وكنت كتبت رسالة خاصة للزعيمين الكرديين مسعود البارزاني و جلال الطالباني عشية غزو العراق واحتلاله في العام 2003 محذراً من المخاطر الجمة، وأكرر اليوم ما جاء فيهما فحتى لو تخلى هذا الطرف الكردي أو ذاك لأسباب سياسية أو تكتيكية عن حق تقرير المصير، فسوف أبقى مدافعاً عن حق الشعب الكردي في تقرير مصيره وخياراته الحرة لإيماني المبدئي، الفكري والحقوقي بذلك، ولأن ذلك حق قانوني وإنساني أيضاً، سواء بالإتحاد الإختياري الأخوي أو إقامة دولة مستقلة صديقة للعرب، وأقول ذلك دون لبس أو غموض وبثقة وشفافية كمثقف يؤمن بقيم التحرر والحرية والسلام والتسامح وحق تقرير المصير.