د.خالد شوكات: مخاطر خروج الحكم عن الاعتدال!!؟
د.خالد شوكات
ينتمي “الحكم” و”التحكيم” إلى نفس الجذر اللغوي، والحكم (أي السلطة) هو نوع من التحكيم فعلا، تحكيم بين مصالح النّاس المختلفة وضمان لها جميعا، والحكم السوّي العادل هو الذي يضمن مصالح جميع الأطراف بأقدار كلّما كانت أقرب إلى أحجام الأطراف الحقيقية كلّما كان الحكم أقرب إلى العدل..
ولهذا يشكّل الغلاة والمتطرّفون خطرا على الحكم إن أمسكوا به، فهم غالبا سيتطرّفون في أحكامهم، على نحو يسخّرون فيه الأمر لصالح فئة بعينها دون باقي الفئات، وهكذا كان حكم الشيوعيين لصالح “البروليتاريا” على حساب بقيّة الطبقات، وحكم الدواعش لصالح من يعتبرونهم “مسلمين حقيقيين” دون بقية أتباع الطوائف والأديان، وحكم القوميين لصالح أغلبية عرقية دون بقية الأقليات، وحكم الطغاة المستبدين لصالح الموالين دون بقية المواطنين..
ولهذا كانت الدولة الديمقراطية التعددية هي أفضل أنواع الدول، باعتبارها ضامنة لمصالح الأغلبية والأقليات بجميع أنواعها، الدينية والقومية والعرقية واللغوية والطائفية ..الخ، فلا أغلبية تشعر بالغبن، ولا أقلية تشعر بالظلم والحرمان، وتشترط استدامة الديمقراطية بقاء الحكم في أيدي “قوى الاعتدال”، أي تلك التي تمارس “التحكيم” ب”العدل”، ولا تحوِّلُ السلطة إلى ديكتاتورية الأغلبية.
وفي كل مجتمع ثمة قوى معتدلة وقوى متطرفة أو متشددة، وكلّما اتسعت الدائرة الوسطى التي يمثلها المعتدلون على حساب الهوامش والاطراف تلك التي يحتلها الغلاة والمتطرّفون، كلما استطاعت آلة الديمقراطية أن تدور، والعكس صحيح كذلك.
وحتى لا يكون الكلام نظريا مجرّدا، أقول مثلا أن ديمقراطيتنا الناشئة قد فقدت القدرة على الاستمرار عندما اختلت نتائج الانتخابات سنة 2019، باتساع مكانة المتشددين من كل عائلة سياسية على حساب المعتدلين، وذلك جرّاء فساد مزاج الناخب، وهكذا ضعف المعتدلون من كل لون لصالح الراديكاليين أو المتشددين، بسبب رئيسي هو ضعف الأداء الحكومي خلال السنتين الاخيرتين خاصة، في ارتباط بطموح رئيس الحكومة الشاب حينها، الذي خيّل إليه أن المجد السياسي في انتظاره، فأهمل المخطط التنموي الخماسي الموروث من الحكومة السابقة وتفرّغ للشعبوية الانتخابية..ولو بقيت حكومة الحبيب الصيد مستمرة ربّما لأمكن إيصال الناخب إلى مزاج معتدل يفضي إلى تصويته إلى القوى المعتدلة، وبما يحول دون وقوع السيناريو الذي نعيشه حاليا..
علينا أن نتذكّر جيّداً أن جلَّ مشاكل البرلمان السابق كانت نتاج الصرّاع الجذري الذي ظهر بين القوى الراديكالية التي لا مشترك بينها، فيما لو كانت الأغلبية للقوى المعتدلة لكان البرلمان أكثر هدوءا وقدرة على ابرام التوافقات التي تحتاجها مؤسسات الحكم الديمقراطي، ولجرى تجنّب العديد من الأزمات التي تراكمت وتعمّقت حتى أضحت تمهيدا للانقلاب على النظام الديمقراطي التعددي برمّته.
إن النظام الديمقراطي هو نظام المعتدلين بالدرجة الأولى، أولئك الذين بمقدورهم التداول السلمي على السلطة، أو حتى التوافق والحكم المشترك عند الضرورة، فإن هيمن ملّاك الحقائق المطلقة على المشهد كان ذلك ثغرة كبيرة في جدار الحكم الديمقراطي قد يقود إلى انهياره، فكثرة الشقوق غالبا ما تنبئ بالتصدّع الجزئي ثمّ التصدّع الكامل..
ولهذا فإن جزءاً من مشروع إعادة البلاد إلى مسار الانتقال الديمقراطي، مرتبط في تحقّقه بقدرة النخب على الانتصار للاعتدال الفكري والسياسي، وتجذير ثقافة التوافق والوسطية والتحكيم، أي بقدرتها على تمثيل مصالح أكبر قدر ممكن من الأطراف، ففي تونس يجب أن يشعر غالبية التونسيين على اختلاف انتماءاتهم ومرجعياتهم بأن بمقدورهم العيش بأريحية وأمان في بلدهم.