د.خالد شوكات: مخاض “الدولة الوطنية الجديدة” في العالم العربي
1 min readد.خالد شوكات
لم تكن ثورات الربيع العربي سنة 2011، في رأيي مجرّد نهاية لجيل من الحكّام العرب، ممن خلفوا كجيل ثانٍ أو ثالث جيل الحكام المؤسسين الذين تزعموا حركات التحرر الوطني ضد المستعمر وقادوا بلادهم الى الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية، بل مثّلت نهايةً لنموذج “الدولة الوطنية” المستمد في جذوره من معاهدة “سايكس بيكو” التي قسمت المجال العثماني أو تركة الرجل المريض، والذي قاوم طيلة عقود سلسلة من التحديات حتى ظهر مع اندلاع الثورة التونسية في 17 ديسمبر 2010، وكأنه منتهي الصلاحية، غير قادر على الاستمرار.
لقد أحرق محمد البوعزيزي نفسه حينها، وبدا كما لو أنه يحرق هذا النموذج معه ويطوي بذلك صفحة من التاريخ العربي المعاصر، ليفتح صفحة جديدة قد تستغرق كتابتها عقودا قبل أن تستقر على شيء يصلح للقراءة. عَلِينا أن لا ننسى أن هذه “الدولة الوطنية” منذ نشأتها لم تكن مقنعة لأهلها، ولا محلّ ثقة لديهم في قدرتها على الاستجابة لطموحات شعوبها وأمتها، وأن القبول بها كان غالبا ما يتم باسم “الواقعية” و”الطبيعة المرحلية”، فقد كانت الصيغة المقبولة في المشرق العربي اثر سقوط الخلافة العثمانية هي “الدولة القومية العربية”، أما في المغرب العربي فقد كان الاتجاه الغالب على حركات التحرر الوطني في الأقطار الثلاثة قيام “دولة الاتحاد المغاربي”، ولم يكن جل قادة هذه الحركات يرغبون في ان تتكرّس التجزئة الاستعمارية بعد رحيل المستعمر، ولم يكن الخلاف في وجهات النظر حول قيام الدولة الاتحادية من عدمها، بل كان حول القبول بالاستقلال المرحلي من عدمه، وهو الخلاف الذي جسدّه في التاريخ التونسي الصراع اليوسفي البورقيبي.
وفي المجال العربي تحديدا، قياسا الى المجالين التركي والفارسي، عانت مقاربة “الدولة الوطنية” أكثر، فقد وجد الفرس والترك مجالا أكثر تناسبا مع مقولة “الدولة الأمة” أو “الدولة القومية” (L’Etat Nation)، فإيران وتركيا اليوم، خلافا للعرب، يعتبران دولة أمة أو دولة قومية، وكلاهما يتوفر على مشروع للنهوض والتقدم، وكلاهما يمتلك الى حد كبير استقلال القرار، بينما تاهت الدول العربية جميعها تقريبا في لخبطة “هووية” ولم تتمكن من تخطي هذه العقبة زمن المؤسسين، الى ان انهارت تماما بعد فشل الجيل الثاني والثالث من قادتها في تجديد العقيدة الوطنية واستكمال الاستقلال واستقلال القرار والقطع مع التبعية الخارجية، فضلا عن فشلها في تحقيق التنمية الحضارية الاقتصادية والاجتماعية.
يبدو الاختبار الذي تتعرض له منذ عشر سنوات الدولة الوطنية العربية، اختبارا وجوديا استثنائيا هذه المرة، يتجاوز مسألة التداول على السلطة، أو حتى الطموح الى استبدال نظام استبدادي بنظام ديمقراطي، فالمسألة أعمق من ذلك بكثير، على نحو تبدو فيه هذه الدولة بين خيارين متباعدين أو حتى متناقضين تماما، فإما التداعي الى تجزئة المجزأ وتقسيم المقسّم أو العودة الى تبني الاطروحة الاتحادية الجزئية (المغاربية مثلا) أو الكلية (العربية)، ودون إيجاد حل جذري لازمة الدولة الوطنية من خلال مجاراة نسق التاريخ الانساني والانخراط في مسارات اقوى وتكتلات اكبر ستغرق هذه الكيانات الوطنية في مزيد من الأوحال والحروب الأهلية والصراعات الداخلية والفتن البينية.