د.خالد شوكات: ماذا بقي من العقلانية البورقيبية؟
1 min readد.خالد شوكات
كان الزعيم الحبيب بورقيبة رحمه الله، والذي سنخلّد ذكرى ولادته ال119 بعد يومين، قائدا عقلانيا عظيما ذو نظرة استشرافية بعيدة المدى.. وكان خلافه مع الزعيم المصري جمال عبد الناصر في جزء كبير منه ناتجا عن كراهية بورقيبة الشديدة للإدارة “الشعبوية” لقضايا الأمة العربية، حيث كان يفضل سياسة أكثر واقعية دون الاخلال بالمبدأ.. ولقد نال الزعيم بورقيبة من “شعبويي ” المشرق ما يفوق الخيال، اتهموه بشتى التهم وقالوا فيه ما لم يقله مالك في الخمر، وقد ثبت لاحقا ان وجهة نظر الزعيم بورقيبة أقرب إلى الصواب وإنهم لو استمعوا حينها الى كلامه لكان الموقف الفلسطيني والعربي اقوى بكثير مما هو عليه الان من ذل وهوان.
وخلافا للدعايات الشعبوية التي اطلقها الراحل احمد سعيد من صوت القاهرة، وغيره من الاذاعات العربية التي سارت ذات السيرة، فان بورقيبة لم يدعو الى الاعتراف باسرائيل (والدليل انه لم يتبع السادات رحمه الله في الاعتراف بها بعد كامب ديفيد بل قاد جبهة مقاومته اقليميا واحتضن الجامعة العربية) انما دعا لقبول قرار التقسيم الاممي والسماح بقيام دولة فلسطين على الاراضي الحرة (الضفة والقطاع كانا حرين قبل خطاب اريحا وحصول النكسة بعد النكبة) ودعم هذه الدولة وجعلها قاعدة للمقاومة واستكمال التحرير، لكن العرب الواقعين تحت وهج الخطابات الشعبوية كانت لهم وجهة نظر اخرى حتى استفاقوا على صدمة استحواذ الكيان على بقية الاراضي الفلسطينية واحتلال سيناء والجولان وجزء من لبنان معها.
كان الزعيم بورقيبة مؤمنا بان الغرب يقف وراء قيام دولة الكيان، ولهذا السبب لن يتمكن العرب من الانتصار عليها عسكريا في حرب كلاسيكية، ولهذا كان لا بد من خوض حروب العصابات معها، وعندما اتابع اليوم انتصارات المقاومة في لبنان وغزة استحضر رؤية بورقيبة الواقعية الصادقة اترحّمُ على عقلانيته التي فهمت بسبب انشداد”العقل العربي” للشعبوية بطريقة خاطئة، فجرى تخوينه وتكفيره واخراجه من الملة.
جزء كبير من النجاحات التي حققها الزعيم بورقيبة داخليا، في بناء الدولة الوطنية المستقلة، وفي منحه الاولوية للتعليم والصحة والثقافة على حساب التسليح وغيره ، يعود الى منحاه العقلاني هذا الذي اراد ان ينشيء عليه الاجيال الجديدة من التونسيين، من خلال برامج تربوية ركزت على العلوم والتكنولوجيا والفلسفة وجميع الاتجاهات التي تغذي العقل النقدي.. وفي السياسة الخارجية انحاز بورقيبة الى المعسكر الغربي مستشرفا سقوط المعسكر الشيوعي السوفياتي، لايمانه بتعارض الفكرة الشيوعية مع الطبيعة البشرية..ولا شك ان لبورقيبة نقاط ضعف غير خافية، لعل ابرزها شدة اعجابه بنفسه الى درجة جعلته يأكل آباءه ورفاقه وابناءه على السواء، وينتهي تحت رحمة رجل عسكري لطالما خشي من ظهوره وعمل ما بوسعه على استبعاده.
لكنني اتساءل اليوم مندهشا، هل خلّف بورقيبة بعد ثلاثين عاما في السلطة شعبا عقلانيا يكره “الشعبوية” مثله، ام ان هذا الشعب ساير زعيمه خوفا وطمعا لكنه لم يقتنع بالثقافة العقلانية التي اراد الزعيم تجذيرها فيه،!!؟لعلي اقرب الى الاجابة الاخيرة، فقد ظل الشعب التونسي في معظمه “شرقي” الطبائع، ينصر من اصبح ، ويميل الى البيان على حساب البرهان، ويبدو اقرب الى ابن تيمية منه الى ابن رشد؟
قيس سعيد بالنسبة لي احد العناوين الكبرى لفشل المشروع البورقيبي، وليس أدل على ذلك من عدم ممانعة كثير من الدساترة (التجمعيين في واقع الامر) من ممالأة الرجل ومساندته من منطلقات مصلحية وبراغماتية محضة، تماما كما ساندوا الرئيس بن علي رحمه الله حتى انتهى الحزب عشية 14 جانفي 2011، الى اغلبية غالبة من هؤلاء الذين لا صلة لهم بأي فكر او رؤية، فقط الغنيمة لا اكثر ولا اقل.
كنت الى جانب مجموعة صغيرة جدا – انضم اليها في اخر سنتين قبل وفاته بورقيبة الابن- على رأسها سي محمد الصباح رحمه الله وسي العروسي الهاني وسي محمد بن نصر اطال الله في عمريهما.. كانت مجموعة لا تتجاوز العشرة ربما تذهب لقراءة الفاتحة على روح الزعيم يوم ولادته ويوم وفاته، وكنت اتساءل حينها بعد كل فاتحة “اين هم البرقيبيون وماذا بقي من بورقيبة يا ترى”؟ .. بعد الثورة ، تكاثر “البورقيبيون” لكن الايام اثبتت زيف اكثرهم ، اذ كانت الشعارات التي يرفعونها “شعبوية” تتناقض تماما مع العقلانية البورقيبية، بل لعلي ازعم زعما يغيض الكثيرين من ان اعداء بورقيبة المفترضين، وهم الاسلاميون، اقرب الى تمثل القيم البورقيبية، ممن يزعمون المرجعية البورقيبية وهواهم معلق بكل ديكتاتورية شرقية، ناهيك ان يساندوا رئيسا لو كان بورقيبة حيّا لاعتبره عدوّا مبينا، اذ يقول كلاما قريبا من ذاك الذي كان معمر القذافي يقوله في البالمريوم، وكاد الزعيم يلحقه في لباس النوم، ليعطيه درسا في السياسة العقلانية بدل سياسة الخطابات والشعارات الجوفاء والضحك على ذقون الشعوب البلهاء.. رحم الله بورقيبة وغفر لمن يزعمون الانتساب إليه ولم يفقهوا من عقله شيئا.