29 ديسمبر 2024

د.خالد شوكات: لقد نزع الأرمن سلطان الخوف!؟

1 min read

د.خالد شوكات

في طريقنا من العاصمة يريفان إلى بحيرة سيفان (واحدة من أعلى البحيرات العذبة في العالم وأجملها)، قال لي سائق التاكسي “ساكو”، وهو شاب في السادسة والثلاثين من العمر، “تبّاً لهذا البلد – أرمينيا- لقد حاربت من أجله، وصمدت في جبهة الحرب في ناغورنو كراباخ أربعة وثلاثين يوما، وكاد الجنود الأذريون يقتلونني، ولكن ماذا جنيت من كل هذا، لا شيء”، هكذا قال لي غاضبا، ثم استرسل في الحديث مهاجما بكل عنف رئيس الحكومة “نيكول باشينيان”، قائلاً ” هذا الرجل لم يكن يجد ثمن الخبز قبل أن يصبح رئيسا للوزراء، أما الآن فيذهب كل نهاية اسبوع الى منتجع على ضفاف البحيرة ليشرب “الكونياك” ويظل سكرانا يترنّح طيلة ثلاثة أيام، يسكر على نفقة الدولة كان أسبوع بآلاف الدولارات، ونحن نعاني هكذا لا نجد ما نضمن به عيشنا”.


في هذه الديمقراطية الناشئة، أرمينيا الواقعة جنوب القوقاز، وهي دولة حبيسة محصورة بين أربع دول هي تركيا الجارة اللدود غربا، واذريبدجان الجارة العدوة شرقا، وجورجيا الجارة الشبيهة شمالا، وايران الجارة الصديقة جنوبا، انطلق مسار الانتقال الديمقراطي مع اعلان استقلال البلاد سنة 1991 اثر انهيار الاتحاد السوفياتي، وما يزال هذا المسار لم يكتمل بعد، فقد خاضت هذه الدولة-الأمة الصغيرة منذ انتقالها من النظام الشيوعي الاستبدادي الى النظام الديمقراطي عديد الحروب مع اذربيجان المجاورة، بسبب التنازع على سيادة اقليم ناغورنو كراباخ الذي يتمتع بالحكم الذاتي، كما واجهت وما تزال تحديات كثيرة سياسية واقتصادية واجتماعية، وعرفت في كثير من الاحيان هزّات وثورات كان اخرها السنة الماضية، عندما أجبرت المظاهرات رئيس الحكومة باشنيان على تقديم استقالته اثر هزيمة الجيش الأرمني أمام نظيره الاذري المدعوم من تركيا واسرائيل.
وباشنيان هو في حد ذاته ظاهرة سياسية بامتياز، فقد كان الرجل صحفيا معروفا وناشطا في المجتمع المدني ومناهضا بارزا للحزب الجمهوري اليميني المحافظ الذي هيمن على الحياة السياسية في أرمينيا منذ السنوات الاولى للانتقال الديمقراطي. وقد فاز التنظيم الذي اسسه باشنيان واسمه “العقد المدني” بالانتخابات البرلمانية سنة 2018, دون ان يتمكن من تشكيل اغلبية برلمانية، وهو ما جعله رئيس حكومة الامر الواقع قبل أن تعصف به مظاهرات السنة الفائتة اثر الهزيمة العسكرية التي حمّل الجيش مسؤوليتها لباشنيان داعيا اياه الى الاستقالة وهو ما حصل فعليا.


من يزور أرمينيا سيلاحظ، رغم الازمات التي واجهتها والحروب التي خاضتها، بلدا “متقدما نسبيا”، عاصمته يريفان مدينة خضراء ومنظمة ونظيفة، وسكانها متمدنون، وعلى الرغم من عقود الاستبداد الطويلة التي خضعت لها في ظل الحكم السوفيتي، الا انه يمكن ملاحظة أثر ثلاثين عاما ونيف من الانتقال الديمقراطي بسهولة، خصوصا في تحرر الناس من سلطان الخوف، وعدم ترددهم في التعبير عن آرائهم السياسية المعارضة حتى للغرباء والاجانب الذين يزورون البلد، وعددهم في تزايد مستمر، فقد اصبحت أرمينيا خلال السنوات الاخيرة وجهة سياحية معروفة، خصوصا للروس ولعرب الخليج والعراق.
وعلى هذا النحو، لم يعد لا لرئيس الجمهورية، ولا لرئيس الحكومة، ولا لأي مسؤول أي قداسة أو حرمة، فتسمع عامة الناس لا يترددون في مهاجمة سياساتهم دون هوادة، بل مهاجمتهم بشكل شخصي كما ذكرت في البداية.
يتذمّر الأرمن من تراجع القدرة الشرائية جرّاء غلاء الاسعار بشكل فاحش، فثمن لتر البنزين مثلا يفوق الدولار، كما يشتكون من تواضع رواتب الموظفين، وتخلي الدولة عن السكن الاجتماعي، وكذلك من فساد النخبة السياسية وكثرة انقساماتها وصراعاتها، لكنّ حسّ الارمن القومي عالٍ جدّا، فعلى الرغم من سحنتهم الاوروبية فإن شخصيتهم لا تخلو من روح شرقية، اذ تلعب الكنيسة الارثوذكسية الارمنية دورا مهما في حياتهم، تماما كما تحظى العائلة بمكانة سامية، ولأنهم واجهوا الحروب والابادة الجماعية التي هددتهم في وجودهم القومي، تراهم شديدي الحرص على دولتهم الأمة التي تشكل حصنهم الوجودي الأخير، وهو ما يمكن ملاحظته في سلوكهم الحضاري، كاحترامهم لقواعد النظافة العامة وتمسكهم بالنظام العام.
إن الحالة الأرمينية في الانتقال الديمقراطي يمكن أن تكون مفيدة في تسطير العديد من الدروس والعبر، لكن القياس على هذه الحالة يجب أن يكون حذرا، اذ ما يزال المبحث محتاجا الى عناية الباحثين وتحليلهم لعوامل متعددة من قبيل طبيعة الدولة كدولة أمة ومكانة الدين في المجتمع ورسوخ الثقافة العلمانية ووراثة بنية تحية جيدة من الحقبة السوفيتية، فضلا عن ضغوطات المحيط الجغرافي حيث يقع البلد في مجال صراع حاد بين الشرق والغرب وبين الطموح الروسي في المحافظة على ارمينيا كجزء من منطقة النفوذ، وتصاعد التأثير الأمريكي الاوربي في البلاد منذ استقلالها قبل ثلاثة عقود.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Copyright © All rights reserved. | Newsphere by AF themes.