د. خالد شوكات: عندما يردّ الرئيس ماكرون على الحقد بالحقد!
1 min readبقلم: د. خالد شوكات*
قبل أيام قليلة أقرّت المحكمة الأوربية لحقوق الانسان بأن الاساءة للنبي محمد (ص) ليست حرية تعبير، وان الاساءة لأديان ومعتقدات الاخرين ومقدّسات لا تدخل في سياق الحرّيات، وتقديري ان هذا الحكم نابع من قراءة للقضاة فيما يمكن ان يترتب عن هذه الاساءة من عواقب وخيمة على السلم الأهلي والاستقرار المجتمعي والعلاقات بين الشعوب والثقافات والحضارات، ذلك انها تمنح المتطرفين والعنيفين من كل ملة ودين الحجج لتبرير أعمالهم العدوانية والهمجية والإرهابية، بحجّة الغيرة على المقدّس والانتصار للذات المهانة والمجروحة.
غير ان الغريب حقّا والمستهجن، أن لا ينصت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لحكم المحكمة الأوربية، وهي جهاز شديد الاحترام في الأوساط العامة والنخبوية على السواء، لتعبيره غالبا عن الضمير الانساني لأوربا المعاصرة الموحدة، ورئيس فرنسا تحديدا لا يغفر له عدم إنصاته هذا، فالثورة الفرنسية هي التي جسّت حلم الانسانية الحديث في تكريس مبادئ الاخوة والحقوق الانسانية كونيا، وقد كانت الجمهوريات الفرنسية – رغم الهنات الاستعمارية- محاولات جادّة في معظمها للارتقاء بمستوى الفكر والممارسة الإنسانيين الى مستوى القيم والمبادئ العليا المعلنة، ومن المشين جدّا ان تنحرف السياسة الفرنسية اليوم نحو اليمين الشعبوي المتطرف عاملة على قيادته نحو مزيد من الخروقات والجرائم، وان تسجل في ظرف قياسي كل هذه التجاوزات في حق الأقلية المسلمة خاصة والحريات وحقوق الانسان عامة، وما من حجة الا ذاك الشاب مغسول الدماغ الذي لا يتجاوز من العمر ثمانية عشرة عاماً، على الرغم من بشاعة جريمته، والذي لا يمكن باي حال ان يمثل الغالبية العظمى من المسلمين، ناهيك عن تمثيله الاسلام.
قال الرئيس ماكرون انه لن يتخلى عن الرسوم المسيئة للرسول محمد (ص)، ويا لها من رسوم لا يتخلى عنها، فهي بشهادة الفنانين والمبدعين المحترمين، رسوم سيئة جدا من الناحية الفنية، لا تشرف فرنسا او اوربا المليئة بالمبدعين، ناهيك عن مضمونها الرديء المسيء حقيقة للانسانية وليس للرسول محمد (ص) الذي اعتبرته عديد الاعمال الأدبية والشعرية الغربية اعظم عظماء البشر، وليت ماكرون وامثاله يعودون اليها ويعرفون من خلالها الحقيقة المحمدية ناصعة البياض، اذ يكفي الرئيس ماكرون ان يقرأ ما كتبه الشاعر العظيم غوته او المستشرقة العظيمة أنا ماري شيمل حتى يعلم فضل النبي العربي على الانسانية جمعاء، لا ان يردد هواجس وأراجيف الحمقى والمتعصبين والمرضى بأحقاد العنصرية البغيضة، ممن يقتاتون ببيع الكراهية للمغفلين.
كنت أتصور الى وقت قريب ان الرئيس ماكرون يجد مثاله ونموذجه في رجل كالمهاتما غاندي الذي قال “اذا رددنا على الحقد بالحقد فمتى سينتهي الحقد”، او في رجل مثل الزعيم نيلسون مانديلا الذي سامح البيض في ثلاثة قرون من ابشع انواع الاستعمار ليرسم للانسانية طريقا مضيئا خارج دائرة الانتقام والكراهية.. هذه هي الأمثلة التي كنت اعتقد انها تستحقّ ان تؤثر في رئيس شاب حسبنا انه يعبر عن روح فرنسا ما بعد الاستعمار، فرنسا الانسانية التي نحترم، ولكن يا لخيبة الامل وجدنا انه مشدود الى أمثلة القاع الشعبوي والعنصري، ربما لاعتبارات انتخابوية تافهة وعابرة وغير لائقة.
في واقع الامر، لا فرنسا ولا اوربا ولا الغرب مؤهل لإعطاء دروس للانسانية في السماحة والاعتدال واللاعنف، اذ لا الماضي ولا الحاضر فيه من المؤيدات ليمنح ماكرون او أشباهه هذا الحق، فقبل سنوات قليلة فقط جاء ماكرون للجزائر ممهدا للاعتذار عن جرائم بلاده الاستعمارية، وماذا تعني الجرائم الإرهابية – على بشاعتها وإدانتنا المطلقة وغير المشروطة لها- قياسا بالجرائم الاستعمارية، ومع ذلك لا نجد في انفسنا الرغبة في وضع ماكرون وجميع أبناء فرنسا الاستعمارية في خانة الاستعماريين، ذلك انه لا تزر وازرة وزر اخرى مثلما يعلمنا ديننا الحنيف ورسولنا الكريم، وهو امر غاب للاسف عن الرئيس الفرنسي.
المساهمة في اطلاق العنان وتوفير الأجواء للمتطرفين ليست هي الطريق القويم الذي يجب ان نسير فيه ونساهم في توجيه الانسانية جمعاء إليه، ولا شك عندي في ان الرسول (ص) الكامنة محبّته في قلوب ما يقارب المليارين من البشر سيتأثر كثيرا أو قليلا برسوم الحاقدين والمسيئين، ذلك انه قد تعرّض وهو حي يبشّر الناس ويقودهم الى الرحمة، الى مثل هذه الاهانات ولم يتأثر وأصر على المضي في دعوته الى الخلق العظيم، إنما الاساءة هي لفرنسا التي ستكون بصنيعها هذا خائنة لأجمل ما في تاريخها وأرقى ما ساهمت به في سجل الانسانية..
وسيأتي يوم على ماكرون مثلما أتى على سابقيه، وسيذهب غالبا غير مأسوف عليه، ولكن النبي العربي الامي سيظل أكبر معلّمي الانسانية وأهمهم وستبقى دعوته الصادقة إلى الرحمة سارية في قلوب المؤمنين.. صحيفة محمد (ص) باقية أبد الدهر أما صحيفة “شارلي ايبدو” رغم ترحمي على شهدائها المغدورين بسكاكين وأسلحة المجانين فلا أراها الا صحيفة بائدة كأي صحيفة ترى في الاساءة لمشاعر الانسان مهما كان رسالة، وبئس الرسالة رسالة بث الحقد والتحريض على الكراهية.
*رئيس المعهد العربي للديمقراطية