د.خالد شوكات: ديمقراطية بلا ديمقراطيين!؟
د.خالد شوكات
الدرس الأساسي الذي تعلمته من تجربتي الهولندية، أنَّ صدر الديمقراطية يتّسع لكل شيء إِلَّا للعنف، فحتى أولئك الذين لا يؤمنون بالنظام الديمقراطي لكنهم لا يمارسون العنف ولا يدعون إليه لا تسحب منهم حقوق المواطنة، يتمتعون بها تماما كما يتمتع بها سائر المواطنين.
وقد وجدت أثرا لهذا المفهوم القويم للمواطنة في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، فعندما سئل عن الخوارج قال “إخوة لنا بغوا علينا”، أي أنه لم يسحب منهم صفة “الأخوّة” وظل يجري لهم مستحقاتهم بعد خروجهم السياسي عليه حتى خرجوا عليه عسكريا ومارسوا العنف فما كان منه عليه السلام إلا أن أوقفهم عند حدّهم، وكانت القاعدة أن بين الدولة ومواطنيها حدَّ العنف، فما داموا مسالمين لا يجوز انتهاك حرماتهم.
ومن الأسس الفلسفية للنظام الديمقراطي جعله مؤسسات الحكم، وفي المقام الاول البرلمان مجالا للصراع السلمي بدل الصراع البدني والدموي العنيف، وهكذا التزم المتحولون نحو الديمقراطية بتحكيم صناديق الاقتراع بدل تحكيم الايادي والبنادق، وتحكيم العقل واللسان في البرلمان بدل تحكيم الصولجان والعنفوان، وهكذا احتكرت الدولة العنف دون الجماعات والاحزاب والافراد، تستعمل أدواته وفقا لما تقضي به قواعد القانون.
خروج بعض القوى السياسية الممثلة في البرلمان، من الصراع السياسي السلمي في المجلس إلى الصراع العنيف في الشارع، وبصرف النظر عن تفاصيل هذا الصراع ودوافعه، هو خروج عن اهم قواعد الديمقراطية وأكثر قوانينها قداسة، وهو ما يؤشر الى بلوغ أزمة هذه الديمقراطية الناشئة مداها، واقترابنا الجماعي من الهاوية، ذلك ان الانجراف الى مربع العنف هو انزلاق في طريق خطير غالبا ما يكون السير فيه تذكرة بلا عودة.
لقد ضاقت دائرة الوسط، التي عليها يستند البناء الديمقراطي الى أضيق حد، وعادت الغلبة للمتطرفين والمتشددين الأيديولوجيين والسياسيين، وتبدو علاقة هؤلاء بالديمقراطية “علاقة تكتيكية” هشّة لا قناعة معرفية عميقة وثابتة، ولهذا لا مانع لدى هؤلاء من الاستجابة لغرائزهم الفكرية والحزبية وممارسة العنف ضد من يَرَوْن فيهم “أعداء” لا تستقيم الحياة الا بالتخلص منهم، عِوَض النظر اليهم ك”خصوم” لا مناص من التعايش معهم. الديمقراطية الظاهرية التي تحجب الفاشية والأصولية والإقصائية الباطنية، فضحت وتعرّت في تلك المسافة الفاصلة بين خيمتي “التخوين” و”التكفير”، وبدت الساحة “جاهلية” بامتياز حتى وان رفعت في ميدانها لافتات الحداثة والتنوير والمدنية والديمقراطية، شعارات جوفاء تماما كقميص عثمان إبان الفتنة الكبرى، أما حقيقة الدوافع فلا صلة لها بما يحدث..ديمقراطيتنا يعوزها الديمقراطيون.. فهؤلاء الذين هبّوا للنصرة “قبليون” و”غنائميون” و”عقائديون” تحركهم روابط ما قبلية ومصالح فئوية وأفكار إطلاقية لا نسبية فيها، وهو ما يتناقض تماما مع الفكر والسلوك الديمقراطيين. وبين عقل ديمقراطي ضعيف ونظام ديمقراطي يستغيث، قد تضيع التجربة أو بالأحرى الفرصة التاريخية ويا للأسف.