د.خالد شوكات*: ديمقراطية بلا حارس أو دولة عميقة؟
د.خالد شوكات*
سأل مذيع قناة الجزيرة جلال شهدا في برنامج بلا حدود ليوم الاربعاء 11 أوت 2021، الاستاذ أحمد نجيب الشابي:” كيف للرئيس سعيّد ان يقوم بكل ما قام به يوم 25 جويلية 2021، وان يجمع كل السلطات في يده، ويضع البلاد في حالة استثناء، ويعتقل ويسجن ويمنع الناس من السفر، دون ان تعترض عليه أي سلطة او جهة رسمية؟”، وكان السؤال في غاية الوجاهة، فلسائل أن يسأل:”هل يملك أي رئيس في العالم في نظام الديمقراطي أن يفعل ذلك، وهل بمقدور أي رئيس ان يستلّ قاعدة دستورية من سياقها ويقوم بتأويلها كما يشاء مزاجه، فيلغي من خلالها العمل بالدستور برمّته، ويقيل الحكومة ويجمّد البرلمان وينصّب نفسه على رأس القضاء من خلال قراره رئاسته النيابة العمومية، دون خوف من رادع أو خشية من مؤسسة حكم تقول له قف عند حدودك؟”.
لعلَّ هذه الأزمة كشفت برأيي مكامن ضعف رهيبة لم يكن استثمارها لضرب الديمقراطية يخطر على بال الاحزاب السياسية والقوى الديمقراطية، من أهمها واخطرها:
أوّلاً: غياب الدولة العميقة، وعبارة “الدولة العميقة” أخذت نعتا سلبيا وسمعة سيئة جراء مخلفات الأنظمة الاستبدادية والقمعية، ولكن واقع الحال يشير الى انه ما من نظام سياسي في العالم، مهما كانت طبيعته او توجهاته، إلا وله دولة عميقة “حارسة” تحول دون انحرافه عن مساره الذي رسم له عند إرسائه، فما من نظام الا وله تهديدات وإمكانية للزيغ عن مرجعيته، ففي الولايات المتحدة يعرف الجميع ان هناك “المؤسسات” التي طردت ترامب شر طردة واجبرت قبله نيكسون على الاستقالة، بل هناك من يتهمها بتصفية الرئيس كينيدي في عملية اغتيال ما تزال غامضة، ورؤساء قبله تبين انهم انحرفوا عن ثوابت الدولة الامريكية.
وفي روسيا هناك “كي جي بي”، وفيّ تركيا والجزائر ومصر هناك مؤسسة عسكرية، وفي فرنسا وبريطانيا هناك اجهزة المخابرات العتيّة، وفيّ ايران هناك مؤسسة القائد الاعلى للثورة الاسلامية، وفي المغرب هناك القصر والمخزن، وهكذا أوجدت الأنظمة السياسية الديمقراطية وغير الديمقراطية من يحرس ثوابتها ويقيها من التلاعب والتحريف والمزاجية، حتى انه يقال ان الدولة الهولندية العميقة هي من قام بتصفية الزعيم الشعبوي “بيم فورتاون” سنة 2002 في حادث اغتيال مثير، عندما بدا انه في طريقه الى الفوز بالانتخابات وزعزعة استقرار النظام الديمقراطي.
إن القوانين او المؤسسات الظاهرية لا تكفي وحدها لحماية الأنظمة السياسية، ولا بد لها من حارس مستتر قوي أمين بمقدوره التدخل ساعة الحاجة، وغير ذلك سذاجة ما بعدها سذاجة مثلما جرى لنا اليوم في تونس، حيث قرر رئيس منتخب بالصدفة من خارج سياق الانتقال الديمقراطي، المغامرة بإرث وتضحيات قرنين كاملين من أشواق التونسيين الى الحرية والتعددية والعدالة السياسية، والدفع بالديمقراطية الناشئة والبلاد برمتها نحو المجهول.
ثانيا: لقد أثبتت مغامرة سعيّد المفتوحة خطورة النظام “الرئاسي” أو “الرئاسوي” على الديمقراطيات الناشئة التي لم يشتد عودها بعد، ولا وضعت لنفسها “ضمانات” و”حرّاسا” تقيها شرور النزعات المزاجية والطموحات الشخصية المبالغ فيها والمخططات الشرّيرة لمحيطها الاقليمي الممتنع عن التغيير والمتشبث بتقاليد سلطوية فردية عفى عنها الزمن.
ولعل البعض ممن ضغط في اتجاه تبني هذا النظام الهجين على نحو يكون فيه الرئيس منتخبا مباشرة من الشعب، بدل ان يكون منتخبا من البرلمان تحقيقا للتجانس المطلوب بين السلطتين وحرصا على النأي بالبلاد عمّا وقعت فيه الان، قد ندم اليوم على ضغطه، واقتنع بخطورة “الرئاسي” خصوصا وان الثقافة “الرئاسوية” ما تزال متغلغلة للأسف الشديد.
ثالثا وأخيرا: لقد بدا واضحاً ان المؤسسة العسكرية والأمنية، ما تزال في جزء من عقلها القائد مشدودة كذلك الى “الرئاسوية” وهو ما جعلها لا تقوم بتأويل “القيادة العليا للقوات المسلحة” المنصوص عليها في دستور 2014، التأويل الصحيح الذي يتفق مع مواد الدستور في كليته، والذي يعفيها من ان تكون اداة في مغامرة سياسية مجهولة، فهي تخضع للقائد الاعلى ليس للقيام باغلاق البرلمان او الخروج عن الشرعية الدستورية، بل في مواجهة الاخطار الحقيقية الداهمة المعروفة عند الجميع بالضرورة، التي تهدد امن الوطن وسلامة أراضيه واستقرار شعبه ومواطنيه.
وهذه عبرة سطرتها الشعوب التي مرت بتجارب انحراف مماثلة، عندما قبل الجيش الألماني ان يتحوّل الى “جيش نازي” بحجّة الاستجابة لاوامر القائد الاعلى “الفوهرر”، او عندما قبل الجيش الايطالي للتحول الى جيش فاشي. فطاعة القائد الاعلى ليست مطلقة في الأنظمة الديمقراطية وهي خاضعة لضوابط الدستور في مجمل مواده، خصوصا المتعلق منها بالحريات العامة وحقوق الانسان، واذا كان قرار القائد الاعلى هو الخروج عن الشرعية الدستورية، فليس للجيش أو الأمن أن يطيعه في هذا الخروج، وله ان يمتنع عن تطبيق الأوامر غير الدستورية وغير القانونية، والا فسيكرر ذات الأخطاء التي ارتكبت في العهود الماضية، والتي لم تفلح عشر سنوات من الانتقال الديمقراطي في تصحيحها على ما ييدو.