د.خالد شوكات: ثقافة الريع.. كل شيء إِلَّا العمل!؟
د.خالد شوكات
الذين يبحثون عن الثروة في الغاز والبترول المنهوب من قبل الشركات الأجنبية والعقود الاستعمارية كما يزعمون، والذين يبحثون عن الثروة في مكافحة الفساد باعتباره عملية انتقامية من الفئة الغنية وحالة ثورية طبقية كما يدعون، والذين يبحثون عن الثروة في “زيادة في الشهرية” بصرف النظر عن حالة الدولة التي تشرف على الافلاس.. كل شيء إِلَّا أن يُحدّثَ التونسيون انفسهم بالعودة الى ورشات العمل ومواطن الانتاج، والجدّ في السعي الى الرفع من مستوى الإنتاجية وتحسين الجودة، وتحريك “موتورات” النمو الثلاثة: التصدير والاستثمار والاستهلاك، والتضامن والاجتهاد من اجل التقدم في التصنيف الاقليمي والدولي للتنافسية.
لقد هبَّتْ علينا رياح “الريع” وثقافة “الدولة الريعية”، لا نريد ان نقلّد الدول الشقيقة ذات الاقتصاد الانتاجي كماليزيا وتركيا وإندونيسيا وباكستان وغيرها من البلدان التي شمرّت شعوبها عن سواعد الجد لتبني وتعمّر وتواجه تخلّفها، بل يممنا وجوهنا شطر الدول الشقيقة ذات الاقتصاد الريعي، التي تبيع نفطها وغازها وثرواتها الطبيعية لتصرف على الاستهلاك المفرط والرفاه المزيَّف، ولا مانع لدينا في ان نأخذ اموالا لم نتعب في جنيها لنجلس ساعات طوال ندخن “الشيشة” و”ننبّر” في مواقع التواصل الاجتماعي ونمارس الغيبة والنميمة.
تتقدم الشعوب بالعمل، وتبنى الحضارات بالعمل، وتستقيم اخلاق المواطنين بالعمل، وتكسب الرهانات بالعمل، وترفع التحديات بالعمل، ويتغير واقع المواطنين نحو الافضل بالعمل، ويحافظ على المكتسبات والمنجزات بالعمل، وتصان الكرامة الفردية والجماعية بالعمل.
تسعون بالمائة من العاطلين عن العمل في بلادنا يريدون “وظيفة” في القطاع العمومي لانهم في واقع الامر يرغبون في وظيفة وراتب مضمون ولا يرغبون في العمل، فثقافة “مسمار في حيط” هي الوجه الاخر ل”رزق البيليك”، حيث “الشهرية المكتسبة من الوظيفة العمومية” هي الحد الأدنى من نصيب الفرد من الريع العام كما تصور العقلية السائدة والثقافة الريعية المهيمنة، شهرية لا ترتبط بشروط او التزامات تجاه الانتاج والانتاجية في ظل التفلّت العام الطاغي من المسؤولية.
العمل النقابي اصبح رديفا لحراسة “اللاعمل” وانهيار منظومة الانتاج العمومية وانقلاب الموازين الوظيفية. لم يعد المدير في اي ادارة حكومية قادراً على فرض النظام او مطالبة الموظفين والعمال باداء واجباتهم المهنية، فالسلطة لم تعد بيده بل اصبحت بيد كاتب عام النقابة وبيد العناصر النقابية الأكثر “بلطجية” واستعدادا لممارسة العنف النقابي، فتونس البلد الوحيد الذي تُمارس فيه إضرابات مفتوحة بلا سقف زمني، والبلد الوحيد الذي لا يحرم فيه المضرب عن العمل من اجرته.
لا يوجد رئيس قسم في مستشفى عمومي او مدير مدرسة عمومية في تونس اليوم قادر على ممارسة دوره كما هو منصوص عليه في القانون، فالمسؤولون النقابيون هم الحاكمون الفعليّون الذين لا يملك احد تجاوز أوامرهم ونواهيهم.
وعلى الرغم من ان جل الشركات والمؤسسات العمومية هي في حالة افلاس حقيقية فان بلاغات المركزية النقابية لم تدعو يوما الى تعبئة القوى العاملة لإنقاذ مؤسساتها وشركاتها واعادة قيمة العمل الى المستوى الذي يجب ان تكون عليه في ظل دولة يتهددها شبح الافلاس وتضيّق المديونية المفرطة عليها انفاسها، بل تدعو باستمرار الى الإضراب والاحتجاج وتحمّل المسؤولية للحكومات المتعاقبة، التي لا يحق لها الاعتراض على السلوك النقابي وليس أمامها الا الاستجابة للشروط المجحفة التي تفرضها.
وبمقابل العنجهية النقابية، تقف مؤسسات الحكم والقوى السياسية، مداهنة ومراوغة، تعرف الحقيقة ولا تقولها، تحاول إيجاد حلول مؤقتة للازمات المالية والاقتصادية، دون ان تكون لها شجاعة الصدع بالحقيقة، حقيقة ان إصلاح الأوضاع يستوجب تنفيذ حلول جذرية وهيكلية، تعود الى جذر واحد، الا وهو العمل فدون العودة الى العمل بشكل جماعي وكثيف ومتواصل لن نتمكن من الخروج من دائرة الضيق الى دائرة الفرج.
هل يجوز لبلد ثروته الاساسية هي الفوسفاط ان يستورد فوسفاطا لان “بلطجية” تسندهم جماعات نقابية، يمنعون العمل في مناجم الفوسفاط، وهل يجوز لبلد لديه مليون عاطل عن العمل ان يتداين من الخارج للصرف على مليون موظف عمومي نصفهم لا يؤدي اي عمل، وهل يجوز لبلد في قلب العالم والمتوسط ان يواصل سياسات الشيوعية المدمّرة اكثر من الدول الشيوعية نفسها التي ما تزال قائمة في اطراف العالم وتسعى الى تغيير سياساتها نحو مزيد من الانفتاح والليبرالية والخوصصة، ويخصص نصف ميزانيته لدفع اجور الموظفين الحكوميين، ربعهم يعمل في شركات ومؤسسات مفلسة.
واخيرا، لا مناص من القول ان هذا النظام السياسي القائم على حسناته، يبدو النظام الأكثر ملاءمة للعقلية الريعية هذه، من حيث إنتاجه غالبا حكومات ضعيفة لا تملك الا مجاملة الاطراف المعطلة للإنتاج المشجعة على الكسل، وإنتاجه أيضاً برلمانات متفتتة لا تتفق مكوناتها الا على استدامة الشلل وتفضيل سياسات المداهنة والهروب من المسؤولية على سياسات الاصلاحات الحقيقية.