د.خالد شوكات: بورقيبة الزعيم الكبير..القابل للتأويل..؟
د.خالد شوكات
اليوم السادس من أفريل 2023 هو الذكرى الثالثة والعشرين لرحيل هذا الزعيم الكبير الذي ملأ الدنيا وشغل الناس حيّا وميّتاً.. والذي ما تزال شخصيته مؤثرة في مسارات بلده حتّى الساعة..بين من رفعه إلى درجة “الملاك” ومن نزل به إلى مرتبة “الشيطان” كما كتب الدكتور أحمد القديدي في مقاله اليوم تخليدا لذكرى وفاته..
شخصيا، أنا من الجيل الذي أدرك الزعيم وشهد نهايته..وكنت محظوظا بصداقتي مع عدد من كبار الشخصيات التي عملت معه ورافقته وكانت من أنجب تلامذته والمرشحين لخلافته..رافقت الاستاذ محمد مزالي في منفاه ما يقارب العشر سنوات، وواكبت كتابته لسيرته الذاتية التي نشرها لاحقا في كتابه “نصيبي من الحقيقة”، وسمعت منه الكثير مباشرة، وعشت معه لحظات مؤثرة وهو يستحضر بعض مواقفه مع الزعيم، وكان يراوح بين الوفاء لرجل لطالما اعتبره أباً ومعلّما له، ورئيس بلغ به الأمر حدّ الاصرار على إعدامه بعد أن عزله من منصبه كرئيس حكومة ونكّل به وبعائلته، كما فعل من قبل مع جميع أعضاده تقريبا، خصوصا من اعتبرهم الزعيم نفسه خلفاء ممكنين له، كأحمد بن صالح والهادي نويرة مثلا..
كنت محظوظا كذلك بمصاحبة الأستاذ محمد الصياّح، والاستماع إلى شهادته، ومرافقته صحبة عدد من البورقيبيين الأوفياء لقراءة الفاتحة على الروح الزعيم في ذكرى رحيله في مثل هذا اليوم، وفي ذكرى ميلاده في الثالث من أوت، في ضريحه في مدينة المنستير طيلة زمن الرئيس بن علي، وكانت مجرد قراءة الفاتحة على روح الزعيم حينها عملا معارضا في نظر النظام، ومن الذين ثابروا على هذا الصنيع إلى جانب الاستاذ محمد الصياح العم العروسي الهاني والاستاذ محمد بن نصر والي المنستير السابق الذي اعتنى بالزعيم في أيامه الاخيرة، ومما أذكره ذلك الغداء الذي دعانا إليه سنة 2009 الراحل الحبيب بورقيبة الابن وحرمه في المنزل الذي ولد فيه الزعيم في “القرّاعية” في كورنيش المنستير، وكان مناسبة للحديث عن سيرة الزعيم أيام الاستعمار، وكانت كلمتي حينها عن السنوات التي قضاها في القاهرة وخصوصا قصّته الطريفة مع صديقه الصحفي الفلسطيني الكبير محمد علي الطاهر..
ومعرفتي المباشرة بالاستاذين محمد مزالي (الذي كان الأقرب لي فكريا وسياسيا) ومحمد الصيّاح الذي يعتبر المؤرخ الأهم لسيرة الزعيم، وبالرغم من تمثيل الرجلين لتيارين مختلفين داخل الحزب، مكّنني من تشكيل صورة موضوعية عن الزعيم بورقيبة، بعيدا كما سبق القول، عن التقديس والشيطنة، فالتقديس المبالغ فيه عادة ما يصدر عن الأطراف التي سعت إلى استغلاله سياسيا لتحقيق مكاسب سلطوية غالبا، خصوصا تلك الأطراف التي كانت شاهدة على فترة خذلان الزعيم بل التنكيل به، وفي هذا ضرب من النفاق مريع، أمّا الشيطنة فمردّها إمّا إلى خصومات ايديولوجية راديكالية أو من منطلق دوافع سياسية وانتخابية، وما هو مطلوب في رأيي التوسّط والاعتدال ما أمكن، فبورقيبة زعيم استثنائي وفريد بل لعله الزعيم الأهم على مدار التاريخ الوطني لتونس، ولكنّه كسائر الزعماء لم يكن منزّها عن الأخطاء والأهواء التي دفعته إليها في جانب خصائص شخصيته البشرية بالاضافة الى المصالح المرتبطة بصراعاته المتواصلة على الزعامة والرئاسة، فالثابت أن الزعيم بورقيبة بدأ بأكل آبائه وإخوانه عندما قرّر كتابة نسخة سلطوية لتاريخ الحركة الوطنية، ثم انتهى بأكل أبنائه وهو يذبّ عن كرسيه في الحكم إلى أخر رمق، لكنّ كل هذا لا يجب أن يحجب انجازاته التأسيسية لصالح بلده ورؤيته السديدة لأولويات الدولة الوطنية المستقلّة، فهل نحن قادرون على إعادة تشكيل صورة موضوعية لهذا الزعيم المؤسس الكبير؟
واحدة من أهم الاشكاليات الكبيرة التي تعترضنا في هذا المسعى، أن الزعيم بورقيبة رحمه الله كان قابلا للتأويل في كل الاتجاهات، اذ كان اشتراكيا وليبراليا، وكان محافظا إذ هو المجاهد الأكبر وتقدميا إذ هو محرّر المرأة والجرئ على الأحكام الشرعية، وكان قريبا من الغرب ضد الشيوعية واحد مؤسسي مذهب عدم الانحياز، وكان من دعاة القبول بقرار التقسيم في فلسطين ولكنه كان احد اهم داعمي حركة التحرر الوطني الفلسطيني، وكان معجبا بفرنسا وثقافتها وقائدا لمسيرة التحرر ضدها، وكان على خلاف مع القومية العربية ولكن عنايته بالعروبة لم تنقطع، وكان في نظر الكثير نسخة عربية لاتاتورك ولكنه كان من ابرز منتقديه، وكانت صلته وصداقته لجماعة الاخوان المسلمين ثابتة ولكن سيرته في الحكم انتهت بخصومة شديدة معهم.. بورقيبة إذاً هو كل هذا وأكثر، ومن هنا الصعوبة في نحت صورة مجمع عليها له..
وفي الختام، لا مناص من الاشارة إلى أن جنوح التونسيين، خصوصا في مثل هذه المرحلة الانتقالية المضطربة ، إلى الحدّية والراديكالية، يجعل المهمة أكثر تعقيدا وصعوبة، لكنّ الرأي عندي أن الزعيم ملك لجميع التونسيين، وأن سيرته يجب أن تكون معينا لتقوية المشتركات بينهم وتعظيمها، لا مصدرا للتقسيم والفتنة، فمن يحبّ بورقيبة حقّا ويجلّه لا يجب أن يحوّله إلى رأسمال ضيّق ومحدود ووسيلة لضرب أهم المقاربات التي اعتمدها ألا وهي “الوحدة الوطنية”.. فالبورقيبي الحقيقي كما اعتقد، هو من يعمل على توحيد التونسيين لا بثّ الفتنة بينهم واضعاف الرابطة الجامعة لهم.. وبهذا تحفظ الدولة الوطنية المستقلة التي هي أهم منجز بورقيبي..
رحم الله الزعيم وطيّب ثراه وحفظ تونس من كل شر.