28 ديسمبر 2024

د.خالد شوكات: بعض مفاهيم الرئيس “بن علي” التي أعاقت المسار الديمقراطي..

د.خالد شوكات

تسقط الأنظمة لكنّ الكثير من “مفاهيمها” و”وسائلها” و”مصالحها” تظلّ سارية وفاعلة ومؤثرة، تشكّل معوّقا وتحدّيا أمام المفاهيم والوسائل والمصالح الجديدة التي يتطلّب الانتصار لها زمنا قد يطول..
إن تعثّر مسار الانتقال الديمقراطي ثم الانقلاب عليه قبل سنتين، يعود في جزء كبير منه إلى تلك المفاهيم التي تطوّرت واعتمدت خاصة خلال العهد الأخير السابق على الثورة، أي زمن الرئيس بن علي رحمه الله، وبعض هذه المفاهيم جذورها ضاربة في العهد الأسبق حتّى، بالنظر الى الطابع الفردي التسلّطي للنظام الحاكم في تونس منذ الاستقلال.. وهنا أعرض بشكل مكثّف لأهمّ هذه المفاهيم، التي تقف وراءها وسائل منحرفة ومصالح ضيّقة:

– ترذيل العمل السياسي: لأن الرئيس بن علي لم يكن في الأصل رجل سياسة كالزعيم بورقيبة، ولا كان ناشطا حزبيا كما هو حال جلّ الوزراء الكبار خلال الزمن البورقيبي، بل كان ضابطا عسكريا ثم ضابط أمن، فقد كان يكره النخب السياسة ويتبنى نظرة ترذيلية للعمل السياسي، باعتباره عملا تآمريا على الدولة غير ضروري، وهو ما دفعه تدريجيا إلى تحويل نظام الحكم من نظام سياسي إلى نظام أمني.

– شيطنة المعارضين الحقيقيين: طيلة عشرين عاما تقريبا عمل نظام الرئيس بن علي على تجذير ثقافة معادية للمعارضين، خصوصا منهم الاسلاميين، ومن هنا فإن أغلب القوى الناعمة التي نشأت خلال ذلك الزمن من قبيل الاعلاميين والفنانين والمثقفين قد تربّتْ على هذه الثقافة الترذيلية الاقصائية الكارهة في اعماقها للعمل السياسي والنخب السياسية والنظر إليها بشكل يتضمن قدرا كبيرا من الشيطنة والحط من القدر والرفض..

– نخب الوشاة والمخبرين والوظيفيين: بالنظر إلى الطابع الأمني لنظام الحكم، فقد طوّر نظام الرئيس بن علي شبكة من الوشاة والمخبرين والنخب الوظيفية، اخترقت جميع الأوساط والقطاعات والاحزاب والجمعيات، حتى عادت الوشاية مرضا وانحرافا نفسيا طال العديد ممن تحرّكوا في المشهد العام بعد الثورة جراء تسامح النظام الديمقراطي ورحابة صدره، وبدل الامتنان قابل هؤلاء الجميل بالنكران.

– الوزراء التكنوقراط: وزراء بن علي أغلبهم من التكنوقراط، ممن لم يكن يسمح لهم بأي استقلالية سياسية او اجتهاد اتصالي، وهكذا تصوّر الناس جراء النوستالجيا خاصة أنهم كانوا وزراء ناجحين، فيما بينت تجربة سنوات الانتقال الديمقراطي التي وزّرت مجددا الكثير منهم، أنهم وزراء من ذوي الأداء العادي، وأن سياقات العمل وطول المدة وطبيعة النظام هي التي مكّنت أغلبهم من تحقيق نتائج بدت جيّدة، ولو سمح بن علي بالتطور الطبيعي للحياة السياسية لاختلفت امور كثيرة.

– السفراء الموظفون: استغلّت نقابة الديبلوماسيين طبيعة النظام الديمقراطي لفرض قاعدة منحرفة لوظيفة السفير، على نحو جعلتها تتويجا لمسار مهني وفرضت هوية ديبلوماسية عليها، فيما تحمل وظيفة السفير طابعا مزدوجا، اذ لها وجهان ديبلوماسي وسياسي كذلك..هؤلاء السفراء الذين لا لون ولا طعم ولا رائحة، وليس لهم أي ارتباط بالمشروع الديمقراطي الناشئ، جعل السفراء غالبا الوجه الآخر لهؤلاء الوزراء التكنوقراط، وكلاهما نقطة ضعف شديدة الخطورة على النظام الديمقراطي الذي كان يحتاج وزراء وسفراء مؤمنين به حقا، وليس وزراء وسفراء صدفة والمصلحة الضيقة..

– الطابع الأمني للدولة: وهو ما ظهر في الموقع العلوي والاستثنائي لوزارة الداخلية، وما انجرّ عن ذلك من صراعات عمّقت ازمة الانتقال الديمقراطي، الى الحدّ الذي قاد إلى انتكاسته كلّيا ومحاولة الارتداد الى نظام ذي طبيعة أمنية خالصة من جديد، يقوم على توظيف القوة الأمنية لتصفية الحسابات السياسية..

– قضاء التعليمات: تطويع القضاء لخدمة أجندة سياسية قمعية، هي أيضا عادة “بن عليية”، ولا أدل على ذلك من تسخير القضاء طيلة العهد البنفسجي للقضاء على الأعداء السياسيين و”تطهير” البلاد منهم، فمصطلح تطهير ليس طارئا كما قد يعتقد البعض.

– دولة الغنيمة: لمّا كان الرئيس بن علي رجل أمن بالأساس، فقد تحوّلت معه الممارسة السياسية إلى ممارسة أمنية، ذبل معها الفكر السياسي وتحوّل خلالها الحزب إلى إدارة ذات وظيفتين أساسيتين، الأولى الاسناد الأمني لمؤسسات الدولة الأمنية، وأمّا الوظيفة الثانية فهي رعاية الغنيمة، ولهذا غلب الطابع الغنائمي على الجيل الأخير للتجمعيين خاصّة، من طلبة وشباب التجمع، وكل من عاشر هؤلاء في التجارب الحزبية التي سمحت لهم بالمشاركة بعد الثورة خبر طبيعة غالبيتهم من حيث ضعفهم الفكري وميلهم الجارف ل”التكمبين” ورغبتهم الطاغية في نيل المناصب الحكومية خصوصا الولاة والمعتمدين والمدراء العامين ولاحقا الوزراء، فضلا عن استعدادهم للانخراط في الفساد صغيره وكبيره والزبونية..

– دولة المهف: من المفاهيم التي كرّسها الحكم زمن بن علي، هي تحطيم القدوة الأخلاقية لصالح “المواطن المهف” الفهلوي الذي يستطيع “تدبير الرأس” و”الاغتناء” عبر جميع الوسائل الشرعية وغير الشرعية، وأخطر ما في هذا الموضوع نظرة التونسي التي أصبحت تفسّر جميع قصص النجاح على هذا النحو، حتى تلك الحقيقية الناتجة عن كفاح صاحبها وموهبته..

– دولة تلفيق الملفات: كان الرئيس بن علي بنظرته الأمنية للناس، وهي نظرة قائمة على الشك والتشكيك في كل شيء، نادرا ما يحظى لديه شخص باحترام، فكل البشر لديهم ملفات خفية وخطايا غير مرئية، وكل شخص بالتالي يمكن أن يلفق له ملف، خصوصا ملفا أخلاقيا تتحطّم من خلاله صورته في نظر المجتمع، اذ هو أول من بدأ بتلفيق مثل هذه الملفات لمعارضيه لاغتيالهم نفسيا ومعنويا، والمؤسف في الموضوع هو تجذيره قبول الناس لمثل هذه الروايات الملفقة وشماتتهم في أصحابها..

– دولة “إعلام” التفاهة: لأنه لم يكن قادرا على التعايش مع اعلام محترم ومهني فقد غلّب اعلام التفاهة وصنع نجومه وجمهوره معا..ولعل الجميع يدرك ان اغتيال المشروع الديمقراطي قد جرى على أيدي نجوم الاعلام التافه الذي ورثته تونس عن زمن بن علي، وما يزال هؤلاء هم من يتحكّم في الرأي العام، ويوجهونه كما يشاؤون..هم من رذّل الشخصيات الديمقراطية والديمقراطية في حد ذاتها..

– دولة “القطاعية” و”المربعات”: من موروث زمن بن علي صناعة نسخ معاصرة من “القبيلة” كمحدد للعقل السياسي الفاسد..القطاعية التي تحكم العمل النقابي وكل عملية ذات صلة بالمصالح بمعناها الضيق، والامر لا يتعلق باتحاد الشغل، بل بكل اتحاد تقريبا، بما في ذلك اتحاد الكتاب والأدباء..ومن لا قطاع له ولا مربّع يحتمي به ضاع في الزحام..

– دولة “الدعم” و”اللجان”: لضمان دعم الفنانين والمخرجين وسائر المشتغلين بالابداع، او ضمان سكوتهم، جرى ربط المسألة الثقافية بالدعم الحكومي المالي وباللجان المشرفة على توزيع الكعكة، وهكذا سرت ذات قواعد الانحطاط الاخلاقي على هذه الشريحة التي يفترض ان تكون مؤتمنة على قيم المحبّة والاصلاح الاجتماعي..

– دولة “المكايدة” و”البهتان”: استمرأ الناس زمن الرئيس بن علي سلوك المكايدات والبهتان واختلاق القصص والتشويه وانتهاك الاعراض والحرمات..وقد أثر هذه الممارسات في سلوك العامة والنخبة على السواء، حتّى أنك تجد الغالب على النخب الاعلامية والثقافية هذه المحددات البائسة..على نحو جعل التونسيين غالبا لا يذكرون لفاضل فضيلة في أي مجال او اختصاص، وبطريقة اضحى معها المجتمع خاليا من أي مرجعية يلتجأ إليها ساعة الحاجة..

هذا التراث الذي وقف في وجه تدفق مسار الانتقال الديمقراطي، وكان أحد مصادر الانقلاب عليه، يحتاج جهودا كبيرة في رأيي لتجاوزه، جهودا تحتاج رؤية واضحة وبرنامج عمل شاق..فالاصلاح الفكري والثقافي والاجتماعي يظل اصعب انواع الاصلاح..لأنه ببساطة يتعلق بصناعة عقل جديد وانسان جديد..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Copyright © All rights reserved. | Newsphere by AF themes.