4 يناير 2025

د. خالد شوكات: انحطاط الذوق العام السياسي

د. خالد شوكات

انحراف الميول العامة السياسية وارد، تماما كما هو وارد انحطاط الذوق العام السياسي، على غرار الذوق العام الفني، فالذائقة للأفراد كما الجماعات هي موضوع تشكيل مرتبط بالمصادر المسؤولة عن ذلك، ولهذا فقد منع الزعيم بورقيبة رحمه الله مثلاً بثّ موسيقى “المزود”، وكانت بعض الأنظمة الشيوعية السابقة في روسيا واوربا شرقية تفرض الموسيقى الكلاسيكية والسمفونية على وسائل الاعلام التي كانت جميعها عمومية، وكان تقدير القادة لدى هذه الأنظمة أن الدولة مَسؤولة عن مستوى الذوق العام وان عليها العمل على الارتقاء به حتى وان كان الامر على حساب الحرية.

ان اي تقييم موضوعي لمصادر تشكيل الذوق العام السياسي في تونس خلال العشر سنوات الاخيرة، لن يخرج بغير نتيجة واحدة، فطيلة هذه الفترة الممتدة على عقد من الزمان تابع الرأي العام من بذاءة اللسان ورداءة العبارة واستباحة الأعراض وانحدار مستوى النقاش ما لم يخطر على بال، وفيّ جميع انواع المواد والبرامج، السياسية اولا، والاجتماعية والدرامية، وفيّ التلفزيون والإذاعة، ناهيك عن وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع الانترنت.

انواع السباب والشتيمة وهتك الأعراض وخطاب السوقة والدهماء والرعاع وخصومات النخب والعوام وضرب جميع القواعد الاخلاقية والقيم والاعراف وتحطيم جميع الرموز والمرجعيات في شتى المجالات، فكيف للذوق السياسي العام ان يستقيم وكيف للذائقة ان تدرك السليم.

هذه اذاً معضلة الوجه الاخر للتأويل المنحرف أو الابتزازي أو الاستغلالي للحرية، أو للفهم والممارسة الخاطئين للديمقراطية، وهي معضلة ليست جديدة على الفكر الديمقراطي، وكانت من نقاط الضعف الرئيسية التي سجلها المفكرون الديمقراطيون عبر القرون وحاولوا ان يجدوا لها حلول لم ترق يوما الى مستوى الحلول الدائمة، ففي بداية الامر حاول قصر المواطنة وحق الانتخاب على دائرة الخاصة والنخبة والانتيليجنسيا، ثم لما فرضت المواطنة العامة والانتخاب العام نفسيهما على التاريخ تمت الدعوة الى اعتماد حل مبتكر تكلّف من خلاله مؤسسات عامة وخاصة بوظيفة “التثقيف السياسي” لضمان حد أدنى من جودة “الذوق السياسي العام” يحول دون انحرافات الميول الانتخابية نحو ما يهدد النظام الديمقراطي في وجوده، وهو النموذج الألماني بعد انتهاء الحقبة النازية خاصة.

لكن النموذج الليبرالي الامريكي ظل يراهن على منطق السوق في ضمان تدفق النظام الديمقراطي، فالانظلاق من الاعتراف بوجود نقاط ضعف وازالة جميع انواع الرقابة المسبقة والسماح بتنافسية لامحدودة فيما يتعلق بعناصر العملية الانتخابية لن يبقي الا الاصلح للمجتمع، وهذه نظرية كسرها وصول رجل كترامب الى السلطة أفزع جميع مؤسسات الحكم الامريكية واشعر اكثر المفكرين الأمريكيين ثقة في النظام الديمقراطي بالرعب عليه.

ثمّةَ عناصر جديدة في هذا السياق لا مناص من اخذها بعين الاعتبار، فقد تبين الى حد الان ان الثورة الرقمية التي شهدها العالم في مطلع القرن العشرين كانت الى اليوم في خدمة “التفاهة”، وبالتالي مزيدا من انحطاط الذوق العام، اكثر مما كانت في خدمة “التثقيف السياسي” لعموم المواطنين، على الرغم من بعض الايجابيات التي لا يمكن تجاهلها ايضا، ومن أهمها الدور الذي لعبته قنوات التواصل الاجتماعي في ثورات الشعوب ضد أنظمة الطغيان والتسلط والاستبداد، ومن هنا كان لزاما القيام بدراسات وابحاث علمية أعمق في تحليل هذا الحضور الرقمي السيبرني والتوقف عند أثره الحقيقي، السلبي والإيجابي، في تشكيل الذائقة السياسية. والثابت لدي ان مستقبل الديمقراطية وثيق الصلة بهذه المسألة، وان مستوى الذوق السياسي العام يعتبر محددا أساسيا في قدرة النظام الديمقراطي على التطور وخلق التنمية المنشودة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Copyright © All rights reserved. | Newsphere by AF themes.