د.خالد شوكات: الشاذلي القليبي.. رموز الإصلاح والثقافة في جحيم السياسة
د.خالد شوكات
لم يسر وراء نعشه إلا نفر قليل، ذلك قدر المصلحين، فإن لم يردﱠ السبب لمكر الإنسان وقدرته العجيبة على نكران الجميل، فإن الطبيعة قد تتكفل بالأمر ذاته، إذ صادف أن التحق الأستاذ الشاذلي القليبي بالرفيق الأعلى، رحمه الله وقدﱠس سرﱠه يوم 13 مايو/أيار 2020، وتونس في غمرة الحجر الصحي العام جرﱠاء وباء الكورونا اللعين، فلم يتمكن أحبابه وأصدقاؤه في وطنه وسائر أرجاء بلاد العرب من القيام بالواجب إزاءه، وجاء موكبه حزينا اقتصر على عدد محدود من أهله وأقاربه، وليس ذلك حتما من مقام هذا الرجل الرمز، الذي وهب حياته خدمة للثقافة الوطنية والعربية، ولقضايا أمته العادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وكان من بين قلة من كبار المسؤولين العرب، لم تتردد في تقديم استقالتها احتجاجا على العدوان الامبريالي على كرامتها، فالشاذلي القليبي الذي كان أمينا عاما للجامعة العربية في سبتمبر/أيلول 1990، قدﱠر أن عليه المغادرة لأن المنصب الذي هو فيه لم يعد يتلاءم مع قناعاته وما عرف به من مواقف طيلة اضطلاعه بالمسؤولية العربية الأولى لفترة جاوزت العشر سنوات.
يعد الشاذلي القليبي الذي ولد في 6 سبتمبر 1925، أحد أبرز أبناء الجيل القيادي الذي تربى على أيدي الزعيم الحبيب بورقيبة مباشرة، هذا الجيل الاستثنائي الذي ضمﱠ أسماء بارزة في عالم السياسة والثقافة، من قبيل محمد مزالي والباجي قائد السبسي وأحمد بن صالح وأحمد المستيري وغيرهم، وكان من بناة الدولة الوطنية المستقلة، وقد أسندت لكل واحد من هؤلاء مسؤولية مباشرة إبان استقلال البلاد، وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره بعد، وقد نجح جميعهم في تقديم أجلﱠ الخدمات لبلادهم، ونسب لكل واحد منهم منجز أو أكثر سيخلد لاحقا اسمه، وكان نصيب الشاذلي القليبي أنه من أسس وزارة الثقافة، ففضلا عن التأسيس يكون هو الوزير الذي شغل إدارتها العليا عدة المرات ولفترات متفاوتة تجعله في مجملها أكثر من عمﱠر كرسيها، وهو حقيق بها لا شك في ذلك.
مارس الشاذلي القليبي المسؤولية السياسية بروح المثقف، فلم يكن سياسيا عابرا جاء بالصدفة إلى موقعه، ولا سياسيا تافها شغل المسؤولية الوزارية بتملقه وتزلفه لمن بيده مقاليد الأمور. صحيح أنه لم يكن من صقور الحزب الدستوري ولا من دائرة القرار الأولى المقرﱠبة من الزعيم التي تصوغ سياسات الدولة الكبرى وتوجهاتها، ولكنه كان على أي حال رجلا صاحب التزام أخلاقي صارم، مثقفا وكاتبا أصيلا ومتواضعا صاحب مشروع ثقافي واضح المعالم، ولم يكن أشد خصومه وكارهيه ينكر عليه هذا السمت أو يجحده هذه السيرة الطيبة المليئة بالانجازات والتتويجات والتكريمات، سواء في بلده أو في ربوع أمته الممتدة من المحيط إلى الخليج، ويكفي أن نذكر هنا أنه كان عضوا في مجمع اللغة العربية وبالقاهرة، والحاصل على أعلى أوسمة دولته الفخرية.
كان الشاذلي القليبي، كدأب عدد من قيادات جيله، مصرﱠا طيلة حياته على أن لا تشغله المسؤولية السياسية عن ممارسة دوره الثقافي في القراءة والكتابة والتفكير والتنظير، وقد كان حسب ما تواتر عنه متمسكا بصفته ك”كاتب” أولا، قبل أن يكون وزيرا أو ديبلوماسيا كبيرا أو حتى أمينا عاما للجامعة العربية. لقد استمر سي الشاذلي في البحث والنشر والتدوين إلى أن فارقته المنية رحمه الله، وكان في هذا مؤمنا بما آمن به من تأثﱠر بهم على مرﱠ القرون، من ابن خلدون إلى بورقيبة، أن المرء ليس إلا أثرا من بعده، وأن الإنسان يموت وتبقى كلماته المكتوبة من بعد موته شاهدا لا يموت.
لقد ترك الشاذلي القليبي للمكتبة التونسية والعربية عديد المؤلفات، في قضايا الأمة الإشكالية والمعاصرة، من قبيل العلاقة بين الوطن والدين، والعروبة والإسلام، وفلسطين، والعلاقات البينية العربية العربية، ووحدة الأمة، والنهوض والتقدم والتنمية الإقتصادية، والحوار العربي الأفريقي، والمتغيرات الإقليمية والدولية، ومشكلات المرأة والأقليات في الوطن العربي، وكانت كتاباته تتسم بقدر لا بأس به من الجرأة والنقد والتجديد، وهو ما أوقعه أحيانا في مطبﱠات ومشاكل بحكم موقعه السياسي، وخصوصا منصبه كأمين عام للجامعة العربية، وقد كان بهذه السيرة مخلصا لروح مدرسته التونسية الخلدونية والإصلاحية، مثقفا ألقي به في جحيم السياسة.
لا أحد ينكر اليوم، أن عقد الثمانينات من القرن الماضي، كان العقد الأكثر بؤسا وشقاء على مستوى تقلﱠب العلاقات الإقليمية وهول التحولات الدولية. لقد حملت الثمانيات في رحمها نذر انهيار عالم وولادة عالم جديد، حيث ستنهار في أواخر هذا العقد الفريد المنظومة ثنائية الأقطاب، لتتبلور منظومة تقودها الولايات المتحدة ابتداء من مطلع التسعينات، ستعلن عن نفسها بالحرب المشنﱠة على العراق بعد تحرير الكويت، وستتأكد بفرض الحصار على هذا البلد العربي الهام الذي سيدفع خلال السنوات اللاحقة غاليا ثمن مغامرات رئيسه صدام حسين وحروبه التي لن تنتهي حتى برحيله عن هذه الدنيا، وقد تولى الشاذلي القليبي مسؤوليته العربية السامية بين دمارين تعرضت لهما الأمة العربية، الأول عندما قرر الرئيس المصري محمد أنور السادات السير وحيدا وتوقيع اتفاقية سلام مع اسرائيل، والثاني عندما غزا الديكتاتور العراقي جارته الكويت في سابقة شائنة لم يسبق للعرب أن شهدوها منذ نكبة فلسطين سنة 1948، وعلى هذا النحو وجد الرجل نفسه يلاحق محن العرب الأقسى، حتى أعلن عدم قدرته على المواصلة، وغادر وفي قلبه حرقة على أمته.
لقد شكﱠل الراحل عبرة حياته الحافلة بالأحداث، منذ ولادته بين الحربين العالميتين، وحتى إدراكه الحرب العالمية الثالثة، حرب الكورونا، حالة نموذجية لمثقف مصلح ساهم في تحرر بلده من المستعمر، وبناء دولته الوطنية المستقلة، وتقلب أنظمته السياسية من نظام الحاكم الأوحد والحزب الوحيد إلى نظام ديمقراطي ناشئ يتلمس خطاه بصعوبة، وفي جحيم السياسة يناضل ذوو المرجعية الفكرية والأخلاقية الصلبة من أجل أن لا تجرفهم رياح السموم السياسية بعيدا عن القيم والمبادئ التي تربوا عليها، فتراهم كمن يمسك بين يديه جمرة، يقبضون على حقائق الوطن يخشون ضياعها..رحم الله سي الشاذلي، ورحم جميع المصلحين والبناة.