1 يناير 2025

 د.خالد شوكات: الديمقراطية..كحالة مزاجية!؟

1 min read

 د.خالد شوكات

تعزز الأحداث التي تعيش الديمقراطية الناشئة في تونس على وقعها منذ سنوات، أنّها “حالة دراسية” (case study) حقيقية، لما تتّسم به من فرادة وامتياز يستدعي الحيرة البحثية ويشجّع الخبراء والدارسين المهتمين بالفكر الديمقراطي على تناولها، سواء في سياق خاص أو في إطار مقارن، بالنظر الى خروجها الواضح عن القواعد والخصائص التي لطالما ميزت البلدان الديمقراطية.

والواضح أن هذه الديمقراطية الناشئة قد أضحت وهي تشرف على الاحتفال بالذكرى العاشرة لانطلاق مسارها، مهددة في وجودها واستمراريتها وقدرتها على الصمود في وجه الاعاصير التي تواجهها، رغم تهوين بعض انصارها من أمر “التحدي الوجودي” الذي تواجهه، مستعينين بمنطق “التدافع” الذي يرتبط بصراع القديم والجديد في مستوى المفاهيم والسلوك والمصالح، لكن هذا المنطق لا يبدو قويا بما يكفي لطمأنة القلقين على هذا التجربة الفريدة من نوعها، والتي أفلتت بالكاد من حصاد الربيع العربي المر، الذي تحوّل معه العالم العربي الى مجال للفتن الداخلية والحروب الأهلية كما لم يكن في اي مرحلة من مراحل تاريخه السابق.

خارج مربّع الاعتدال الأصوات التي تشيطن الديمقراطية والتي تطالب بعودة الديكتاتورية ولا تتردد في تمجيد الطغاة والمستبدين السابقين أو المعاصرين الماسكين بالحكم في دول الجوار، لم تعد أصواتا خافتة وخجولة، بل اصبحت أصواتا عالية تصدح بكل وقاحة معلنة عن نفسها حتى داخل مؤسسات الحكم الديمقراطي، فيما تظهر الأصوات الديمقراطية عاجزة ومترددة وغير واثقة، في بلد لا رعاية ديمقراطية له بل ان أعداء الديمقراطية هم من يجدون رعاة اقوياء في المنطقة، وهذا ما يخالف الحالات المقارنة في اوربا مثلا، فألمانيا ما بعد النازية وجدت رعاية لديمقراطيتها الجديدة من الحلفاء، وهي من قام برعاية الديمقراطية الفتّية في اوربا الشرقية عندما ترنحت بعد عشر سنوات من سقوط جدار برلين، ولو لا الدور الألماني لانحرفت قافلة التحول الديمقراطي في بلدان تلك المنطقة، بل ان البعض لا يتردد في القول بانحراف بعضها كما هو حال “المجر” التي اصبحت تحت حكم رجل قوي رغم هذا الدور الألماني.

ما هو مفترض في الممارسة الديمقراطية ان تمنح الحكم غالبا لقوى الوسطية والاعتدال، من اليمين واليسار، وهذا هو احد اهم ضمانات اشتغالها واستمراريتها وقدرتها على تحقيق التداول السلمي على السلطة، لكن هذا ليس هو حال التجربة التونسية التي تدحرجت باستمرار وعلى مر السنوات العشر الاخيرة التي سار فيها قطار الانتقال الديمقراطي، من مربع الوسطية والاعتدال الى مربع التطرف والانقسام، وهو ما يتجلى بوضوح في طبيعة المجالس البرلمانية المتعاقبة، فهذا البرلمان الحالي هو مثال حيٌّ وساطع لصراع الأجنحة الراديكالية لجميع العائلات السياسية، اجنحة تتمترس وراء خطوط ايديولوجية عالية الحواجز وتتبادل القصف الكلامي خارج كل الاعراف المألوفة في الديمقراطية وترفض الاعتراف بحق بعضها في الوجود، بل تجعل عنوان فوزها السياسي نفي الاخر واقصاؤه، وهو ما يضيّق من مساحة التوافق الضروري للإصلاح المطلوب الى ابعد حد، بل يكاد يعدمه، فمراجعة القانون الانتخابي كمدخل لاصلاح النظام السياسي مثلا، تظهر شيئا فشيئا شبه مستحيلة، وهو ما يعني عمليا مزيدا من توريط الديمقراطية.

المزاجية.. وحلّها مزيد من المزاجية إن التوقّف عند الميول الانتخابية المعلنة مؤخرا يكشف حجم الورطة التي دفع اليها النظام الديمقراطي الفتيّ، فحلّ الأزمة المستفحلة جراء التصويت المزاجي الذي ميّز الممارسة الانتخابية الماضية سنة 2019، وكان سببا في إفراز مؤسسات الحكم العاجزة، هو تصويت مزاجي أعلى سيفضي ان تحقّق الى ظهور مؤسسات اكثر عجزاً، وهو اقرب الى تجسيد المثل العربي القائل “كالمستجير من الرمضاء بالنّار”، فحل الشعبوية عند غالبية التونسيين بحسب نتائج سبر الاراء الاخيرة هو تعويض “الشعبوية” ب”الفاشية”، ومنح الاولوية لحزب منبوذ من جميع العائلات السياسية لن يتمكن ابدا من تشكيل ائتلاف حكومي في نظام لا يمكن لأي حزب ان يصل فيه للحكم بمفرده، وهو ما يعني دفع البلاد الى أزمة اشد بدل الأزمة الشديدة الراهنة.

إن الذين اخترعوا النظام الديمقراطي افترضوا بقاء الطبقة الوسطى في موقع أغلبي، ليس بالمعنى الاقتصادي والاجتماعي فحسب، بل وبالمعنى السياسي والفكري ايضا، كما افترضوا بقاء الممارسة العقلانية الضابط الاساسي للعملية الانتخابية، في مقابل أقلية “مزاجية” مقدور عليها، لكن هذا الافتراض بدا غير مضمون وهو ما أثبتته التجربة التونسية التي اتسع فيها نطاق المزاج على حساب العقل كلما ذهب التونسيون مرة جديدة الى صناديق الاقتراع، في حالة تبدو مع تقدم الزمن حالة هياج وهستيريا جماعية لا تصدق.

ولعل العنصر الجديد الطارئ الذي لم يأخذه الفكر الديمقراطي في الحسبان بعد، أو لم يأخذه بالأهمية الكافية على الاقل، هو العنصر الإعلامي والاتصالي الذي جعلته التكنولوجيا العصرية عاملا فاعلا ومهما ومحددا في الممارسة الديمقراطية عامة والعملية الانتخابية تحديدا، فالشعب لم يعد مادة “مواطنية عقلانية” كما كان لعقود خلت ربّما، إنما اضحى مادة “إعلامية اتصالية” تعبث بها مراكز النفوذ والتأثير والمصالح وتساهم في تشكيلها وفقا لتوجهات ليست محددة او معروفة دائما.

اجتماع الأضداد إن أخطر ما في موضوع الديمقراطية التونسية الناشئة، والتحدّي الوجودي الذي تعيشه، هو اجتماع أضداد واسع على إيذائها، وإلّا ما الذي يمكن ان يحشد في جبهة واحدة كل هذه الفؤوس والمعاول التي تحفر وتدق وتخرب جدار النظام الديمقراطي الهش اصلا جراء استفحال الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، حيث تضرب القوى الفاشية والشعبوية والفوضوية والمجالسية والنقابية و”الكناترية” و”السلفية الجهادية” في ذات الوقت هذا الجسد الديمقراطي المرهق والمثخن بالجراح.

إن هذا اللقاء المدهش للأضداد الأيديولوجية والسياسية والطبقية والمناطقية والجيلية (من اجيال) والاقليمية والدولية في مواجهة نظام ديمقراطي ناشئ لم يستكمل منظوماته الضرورية (احزاب قوية، وسائل اعلام مهنية، مجتمع مدني ناضج) ومؤسساته الحيوية(محكمة دستورية، قيادة فاعلة،..) ويعيش على وقع اثار جائحة دولية غير مسبوقة (كورونا..) أشبه ما يكون بالحرب العالمية، سيجعل قدرة الديمقراطية على الصمود والاستمرار أشبه بالمعجزة، ان تحققت فلن تكتفي تونس بالبقاء فريدة ومتميزة في محيطها المشدود شدا للاستبداد، بل ستقود سربها العربي الى الحداثة بجميع ابعادها، السياسية والتنموية والحضارية، فهل ستفلت الديمقراطية التونسية يا ترى من تحالف الأضداد الشِّرِّير هذا؟

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Copyright © All rights reserved. | Newsphere by AF themes.