د. خالد شوكات: الدستور.. مائة عام من حزب يشبه التونسيين
د. خالد شوكات
تخصّصُ المصير ملفّ عددها الثاني عشر، لتخليد الذكرى المائوية للحزب الحر الدستوري، الذي أسسّه الشيخ عبد العزيز الثعالبي وإخوانه ورفاقه في شهر مارس سنة 1920 واتخذ من النخلة رمزا كما يؤكد ذلك المؤرخون، النخلة رمز الْعِزَّةِ والشموخ والعطاء للإنسان والوطن.
حزب الدستور، وهو الحزب العربي الأعرق إلى جانب حزب الوفد المصري، كان في نشأته محصّلة لما سبقه من تجارب وتطوّرات خاضتها الحركة الإصلاحية والوطنية التونسية التي انطلقت عجلتها في الدوران منذ القرن التاسع عشر، على أكثر من صعيد، وفي مجالات متعددة، سياسية وفكرية ودينية وتشريعية واجتماعية واقتصادية، وكانت تطمح في البداية إلى تفادي الاستعمار والاجابة على سؤال التقدّم المطروح وما يزال، قبل أن تتحوَّل الى مجابهة الحماية والاحتلال والحفاظ على هوية الشعب الوطنية في عمقها العربي الاسلامي.
لا يمكن النظر إلى حزب الدستور إذًا، بمعزل عن حركة التاريخ الوطني الحديث والمعاصر، كما لا يمكن النظر أيضا إلى هذه التجربة الحزبية الفريدة من نوعها على الصعيدين العربي والافريقي بعيدًا عن خصائص مؤسسيه، خصوصا الشيخ عبد العزيز الثعالبي، هذه الشخصية الوطنية والاصلاحية الاستثنائية التي ظلمها التاريخ حيّة وميّتة، لم تنل العناية العلمية الكافية، كما جرى استهدافها طيلة السنوات الماضية لأسباب “سياسوية” وأيديولوجية لا صلة للحقيقة أو للشيخ بها.
عندما نتحدّث عن حزب الدستور، لا مناص من التوقّف عند جملة من النقاط الأساسية التي بمقدورنا إيجازها كالآتي:
أوّلاً: مصطلح “الدستور” الذي ميّز الفكر السياسي التونسي عن غيره، بشكل مبكّر عن سائر أقطار الأمّة، فمنذ منتصف القرن التاسع عشر أصرّت النخب التونسية على فرض “مشروطية” على الحاكم الذي كانت صلاحياته مطلقة. ابتدأت المحاولة الاولى عند تشريع الباي “عهد الأمان” كأوّل وثيقة دستورية، ثمّ الدستور التونسي الأول لسنة 1861 (الاول من نوعه في العالم العربي الاسلامي)، الذي أوقف العمل به سنة 1864، ثم استؤنف العمل باحكامه لاحقا. وقد استمر المطلب الدستوري ضاغطا ومؤثرا حتى وصل ذروته مع تأسيس الحزب الدستوري مباشرة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.
ثانيا: مصطلح “الحر” الذي تضمّن بعدين أساسيين، هما “الحرّية” التي تشير إلى الجانب السياسي، أي المطالبة بمزيد من الحقوق للتونسيين، والدعوة التدريجية الى الاستقلال وانهاء معاهدتي الحماية، باردو والمرسى، لسنتي 1881 و1883، وكذلك “التحرّر” و”التحررٌية”، بمعنى المضي في طريق الاصلاح الديني والفكري، ورفع الحواجز أمام مشاريع التحديث التربوي والاجتماعي.
ثالثا: مصطلح “الحزب” الذي جاء مجاراة لتطوّر الأشكال التنظيمية السياسية، من حالة “الجماعة” المستمدة من الادبيات الدينية خلال القرن التاسع عشر (الافغاني وجماعته)، إلى “الحركة” في حالة حركة الشباب التونسي التي تأسست على أيدي الأخوين باش حامبه ومجموعة من الوطنيين الشبّان من بينهم الشيخ الثعالبي سنة 1907، ويعتبرها المؤرخون المقدّمة الفكرية والسياسية المباشرة للحزب الحر الدستوري.
من الأمور الهامّة التي تتوجّب الإشارة إليها مسألتان، الأولى داخلية والثانية خارجية:
المسألة الداخلية: إنّه لا يمكن النظر إلى هوية الحزب الحر الدستوري بمعزل عن شخصية مؤسسه الرئيسي الشيخ عبد العزيز الثعالبي، والتي تميّزت بالخصائص نفسها تقريبا: شيخ زيتوني شديد الارتباط بهوية بلده وأمته العربية الاسلامية، متأثر بالافكار الاصلاحية الدينية التونسية (خير الدين، بيرم الخامس، عمر المحجوب..الخ) والعربية الاسلامية (الافغاني، عبده، رشيد رضا، ارسلان ..الخ)، له إسهامات نضالية ومؤلفات تترجم هذه السيرة، من بينها كتابه روح التحرر في القرآن وتونس الشهيدة، واصطدامه المتكرّر سواء بالسلطات الزمنية (المخزن، الحماية) أو السلطات الدينية (مشيخة الزيتونة، الجماعات المحافظة).
المسألة الخارجية: وتعني تفاعل تونس مع محيطها الاقليمي والدولي، فالنخب التونسية لم تكن بمعزل عن التأثر بنظيراتها العربية والغربية، ومن ذلك الاطروحة التي تشير الى ان تجربة حزب الدستور لم تكن سوى محاكاة تونسية لتجربة حزب الوفد المصرية (انظر مقال سناء مدللة بنضو في هذا الملف) التي نشأت سنة 1919، أي قبل حزب الدستور في تونس ببضعة أشهر. ولا شك أن الصلات الجدلية بين مصر وتونس كانت وما تزال ظاهرة تاريخية مؤثرة في الاتجاهين.
ثمّةَ أمرٌ في تجربة حزب الدستور لا يمكن إغفاله أبدًا، لفهم مرجعية هذا الحزب الخاصة والخلّاقة التي تجعله تعبيرة حقيقية عن العقل السياسي التونسي. لقد تأسس هذا الحزب بالمعنى التاريخي محاطا بثلاث تجارب تنظيمية وسياسية لكنّهُ تميّز عنها جميعاً: الحزب الشيوعي الذي انتصرت ثورته في روسيا لتوها (1917)، والاحزاب القومية المتشددة في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، سواء في العالم (بذور الفاشية والنازية..الخ) أو في المنطقة (حزب البعث..)، وأخيرا الحركات الدينية في المنطقة العربية والإسلامية (المهدوية، السنوسية، الاخوان المسلمون..الخ)، فضلا عن التجارب الوطنية التي أشير إليها سابقا. ولا شك أن التميز والاختلاف والقيمة المُضافة تعتبر مفاتيح لتفسير نجاح هذا الحزب نسبيا وقدرته على الاستمرار طيلة قرن من الزمان.
ولا شك أن مسألة الاستمرارية هذه، مبحث يستحقّ التنمية والتطوير والعناية، فقد استطاع هذا الحزب سنة 1934 تجديد نفسه وعقيدته واساليب عمله، على ايدي الزعيم بورقيبة ورفاقه، وتجاوز اختبارات كثيرة كادت تنهي وجوده سنوات 1955 و1987 و2011. كما قاد معارك تونس الكبرى في التحرر من الاستعمار وبناء الدولة الوطنية المستقلة واطلاق مشاريع التقدم والتنمية والمساهمة في اطلاق الحركة الحقوقية والنقابية والديمقراطية والمساهمة في مسار الانتقال الديمقراطي ما بعد الثورة.
وأخيرا، فإن سرّ حزب الدستور الأكبر يكمن بالأساس في أنه كان وما يزال الحزب الأشبه بالتونسيين، الأقرب لهم في مستوى طريقة التفكير والهوية والطموح الحضاري، والأكثر قدرة على ترجمة مصالح الأغلبية منهم والدفاع عنها، ومن هنا ادراكه المائوية.