28 ديسمبر 2024

د.خالد شوكات: الخطيئة الأفريقية!؟

د.خالد شوكات

للقارة الأفريقية مشاكلها وقضاياها الكبرى والمعقّدة، وهي القارّة المظلومة التي عانت لقرون من وحشة العبودية وقسوة الحركة الاستعمارية وكثرة الصراعات البينية والحروب الأهلية والانقلابات العسكرية.. ولكنّها بالمقابل، كما يؤكد ذلك الخبراء، هي قارّة المستقبل بامتياز، فهي في غضون سنوات ستبلغ مليار نسمة ونيف، وهي الأغنى بالثروات الطبيعية عالميا، ومن هنا تسابق القوى الكبرى، سواء التقليدية منها أو الصاعدة، إلى مدّ الجسور معها، إذ ليس خافيا على أحد هذا الصراع المحتدم بين الغرب من جهة، أي الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، والشرق من جهة أخرى، أي الصين وروسيا، على ترسيخ الاقدام، خاصة في منطقة جنوب الصحراء، في مشهد يذّكر بأجواء الحرب الباردة تقريبا، ففي مالي وبوركينا فاسو المتجاورتين نفذ قادة عسكريون شباب انقلابين عسكريين وقاموا باخراج القوات الفرنسية من البلدين، في نبرة متصاعدة ضد القوة الاستعمارية السابقة ذات النفوذ والمصالح الكبرى في المنطقة، وتناقلت العديد من المصادر أخبارا تشير إلى أصابع روسية وراء الأمر، كما شهدت غينيا المجاورة انقلابا عسكريا مماثلا، ولو أن التورط الروسي فيها يبدو أقل، وفي كل الأحوال فإن المناخ السياسي في منطقة غرب أفريقيا يزداد عداء تجاه القوى الغربية خاصة، وهناك شعور متنام بالغبن حيال باريس خاصة، التي تشرف على اصدار العملة المتداولة في أكثر من اربعة عشرة بلدا في غرب ووسط القارة..
وقد تداول رواد قنوات التواصل الاجتماعي مؤخرا، فيديوين لزعيمين أفريقيين، الأول لرئيس الكونغو الديمقراطية وهو يخاطب الرئيس الفرنسي ماكرون بنبرة حادة ولغة قوية غير معتادة، يدعوه الى معاملة سويّة قائمة على الاحترام والندية، والثاني للرئيس الناميبي في لقاء مع السفير الألماني يلقّنه درسا في احترام السيادة الوطنية، وهو ما يؤشر إلى صحوة سياسية، تعود في جزء منها إلى الصحوة الديمقراطية التي شهدتها عديد الدول الافريقية والتي انبثقت عنها أنظمة سياسية جديدة ملتزمة بالتداول السلمي على السلطة وتنظيم انتخابات شفافة واحترام الحريات وحقوق الانسان وحفظ استقلالية القرار الوطني، وتبدو افريقيا جنوب الصحراء في هذا السياق افضل بكثير من المنطقة الشمالية للقارة، وهي المنطقة العربية، التي ترزح في مجملها تحت نير أنظمة فردية تسلطية أو أنظمة هجينة.
الأمر الذي يقال كذلك، أن التنافس على أفريقيا جنوب الصحراء لا يقتصر فقط على القوى الكبرى، بل إن قوى متوسطة من قبيل تركيا وايران والمغرب، أضحى لها حضور واضح وجلي خلال العقدين الأخيرين، جراء تبني هذه البلدان لاستراتيجية افريقية عقلانية وانسانية في نفس الوقت، حاولت تسخير عوامل متشابكة جامعة لعناصر تراثية ودينية وثقافية ومصالح تنموية حيوية، حيث تمكنت من القيام باختراقات ايجابية على الصعيد الثنائي والقاري، فتح آفاقا واعدة أمام هذه البلدان ليكون لها نصيب في الاسواق الافريقية.
أما على الصعيد التونسي، فإن الاختراق الافريقي خلال السنوات الماضية، فقد اعتمد على جهود فردية وفي اطار مشاريع القطاع الخاص، أكثر مما هو نتاج استراتيجية حكومية رسمية، وكان التقدير وما يزال أن الحضور التونسي في افريقيا قابل للتطور السريع والمردود الكبير، لو تظافرت الجهود الرسمية مع الجهود الفردية ، فالذهاب إلى افريقيا يقتضي خطة استراتيجية جامعة تضمن استثمارات في النقل الجوي والبحري والبري ومنظومة بنكية وتأمينية فاعلة وديبلوماسية اقتصادية نشيطة، وهو ما لم يحدث إلى الآن..
بل إن ما جرى مؤخرا، سواء من خلال التصريحات الرئاسية غير المسؤولة، أو الانفلاتات السلوكية العنيفة ازاء أفارقة جنوب الصحراء في البلاد التونسية، شكّل ضربة حقيقية ومغامرة شديدة الخطورة، لرصيد العلاقات التونسية الافريقية الذي بني على امتداد عقود، وهو رصيد يعود في جذوره الى حركة التضامن الافريقي سنوات الكفاح ضد المستعمر الاجنبي قبل موجة الاستقلالات التي شهدتها القارة بعد الحرب العالمية الثانية والى غاية سبعينيات القرن الماضي..
إن النكسة التي شهدتها العلاقات التونسية الأفريقية جرّاء عبثية المشهد السياسي في تونس، يقف على قدر كبير من الاستهانة المقصودة أو غير المقصودة، بردة الفعل الأفريقية، التي يمكن أن تذهب في قسوتها أشواطًا غير متوقعة، ليس فقط على الصعيد السياسي والدبلوماسي، على النحو الذي رصد في مواقف الاتحاد الافريقي الحادة وعدد من عواصم القارة السمراء، إنما على الصعيد الاقتصادي كذلك، حيث قد تلحق المبادلات التونسية الافريقية أضرارا فادحة، سواء باستثمارات تونسية نشيطة في عدد من الدول الافريقية، أو في نصيب المقاولات التونسية من السوق الافريقية في المدى القريب والمنظور..
وخلاصة القول أن زلّة اللسان الرئاسية قد تكون كلفتها أكبر بكثير من مجرّد تصريحات جزافية منفصلة من عقالها، تخاطب نفوسا لا تطربها إلا خطابات الشعبوية والعنصرية والكراهية وما شابهها.. لقد سبق للأفارقة في حملات جماعية خلال العقود الماضية أن كسروا حصارات دولية، كما جرى مع ليبيا القذافي مثلا، وبمقدورهم كذلك فرض حصارات حيال من يعتقدون أنه أساء إليهم، حتى لو كان شقيقا لهم ومن قارّتهم.. وفي الاسابيع الأخيرة استحضر الأشقاء الأفارقة جرّاء تصريحا سعيّد كل المشاهد السلبية التي حصلت في العلاقات بين جنوب القارة وشمالها، فيما كان المفروض أن نعمل سويّاً على استحضار المشاهد الايجابية التي من شأنها النهوض بالمبادلات والتعاون في مشاريع البنية التحتية والتنمية البشرية والتطوير العمراني والاقتصادي..لكن ماذا نفعل حين يغيب العقل ويحضر “الغِلّ” وقصر النظر..!!؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Copyright © All rights reserved. | Newsphere by AF themes.