يتّسم الانتقال الديمقراطي بالبطء في إحداث التغيير المطلوب في حياة الشعوب التي اختارته سبيلا للتحول من نظام سياسي استبدادي إلى نظام حرّ وتعددي وعادل، ذلك أن وسائله في التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي ليست راديكالية، فهو يبغي فرض الحرية دون ارتكاب مزيد من المظالم عبر الانتقام والتشفي والاقصاء، وهو يتطلع الى العدالة الاجتماعية وانصاف المهمشين دون الهجوم على الأغنياء والبورجوازيين، وهو يرنو الى تحرير المبادرة الاقتصادية دون تجريد المبادرين الموجودين في السوق من حقهم في الاستمرارية، ولكن الانتقال الديمقراطي وان طالت مدة تحقيقه لأهدافه لا ينساها كما لا ينسى خوض معاركه الاساسية ومن أهمها معركة التنافسية، باعتبارها التعبير الأكثر عمقا عن التحول الديمقراطي.
بمراجعة تاريخ الديمقراطية الحديثة والمعاصرة، علينا ان نتوقّف عند بعض حقائقها الكبرى، وفي مقدمتها حقيقة أنها جاءت كمخلص للبلدان التي تبنتها من الصراع الايديولوجي، صراع الحقائق الكبرى والكلّيات المطلقة الذي لا ينتهي، إلى التنافس النسبي على برامج التنمية والتقدم والرفاه الاجتماعي، فمن رضي الانخراط في النظام الديمقراطي كان شرط السماح له بذلك خلعه لسردياته الكبرى وتبنيه للمناهج النسبية في طرح البرامج والأفكار التي تنفع الناس في معاشهم من صحة وتعليم وضريبة ونقل ورفاهية. أما الحقيقة الثانية وهي الأهم في سياق موضوعنا الحالي، فتتمثل في الارتباط شبه العضوي بين النظام الديمقراطي واقتصاد السوق القائم على حق المبادرة الفردية والتعايش الممكن بدرجات متفاوتة بين مختلف القطاعات العمومية وشبه العمومية والخاصة والتعاونية، ومن هنا ارتباط النضال من اجل الديمقراطية غالبا بالقوى البورجوازية والبورجوازية الصغيرة التي لطالما عانت من الثقافة الإقطاعية للطبقة الحاكمة واحتكار الحكّام لآلية توزيع الثروة والنشاط الاقتصادي، وكذلك مطالبة النخبة البورجوازية كبيرها وصغيرها، او من يمثل مطامحها السياسية باحترام قواعد التنافسية وضمان حياد الدولة ومؤسساتها الإدارية ازاء الصفقات العمومية وإيجاد قضاء مستقل وقوي ونزيه يحمي حقوق المتخاصمين والمتنازعين.
ونحن في منتصف المسار ان كنّا متفائلين طبعاً، ذلك ان التحول من ديمقراطية ناشئة إلى ديمقراطية مستقرّة يقتضي بحسب الحالات المقارنة بين العشرين والثلاثين عاما، بدأت تلوح في أفقنا ما يمكن تسميته ب” أم معارك الانتقال الديمقراطي”، معركة “التنافسية” الشرسة أو ما اصطلح عليه عندنا ب”نظام الرخص/التراخيص المسبقة”، الذي جعل الاقتصاد التونسي حكرا على حوالي أربعمائة عائلة لا تريد أن ينافسها على الكعكة أحد، وترفض اي عملية إصلاح جذري على الصعيد المالي والاقتصادي والاداري من شأنه أن يحرر المبادرة فعليا وان يفرض قواعد التنافسية الحقيقية مثلما هو معمول بها في البلدان ذات الاقتصاد الحر والنظام الديمقراطي العريق.
إن التحول الديمقراطي كما قلنا دائما وبإصرار يشبه العناد، ليس مجرد تحوّل سياسي او دستوري او قانوني، بل هو تحول اقتصادي واجتماعي ايضا، فالحرية وان كانت مطلوبة لذاتها فهي ليست كافية لاستمرارية النظام الديمقراطي، فالديمقراطيات التي استقرت هي تلك التي تمكنت غالبا من ضمان الحرية وتحقيق دولة الرفاه معاً،
وهو ما عكسه الوعي الثوري في تونس مبكرا عندما جعل الثورة ثورة “حرية وكرامة”، أي ثورة من أجل النظام الديمقراطي ودولة الرفاه، ولئن قطعت تونس خطوات مقدرة في سبيلها الى تحقيق الهدف الاول، فإن مسيرتها في سعيها الى تحقيق الهدف الثاني تبدو متعسرة ومتعثّرة، ومردّ ذلك اضطرارها الى تأجيل خوض المعارك المرتبطة بهذا الهدف ومنحها الاولوية لمعارك الهدف الاول، لكن هذا التأجيل لا يمكن مواصلته الى ما لا نهاية، خصوصا اذا ما تبين ان عدم احراز تقدم على جبهة التنمية الاقتصادية والاجتماعية سيقود الى تقويض ما تحقق من نتائج إيجابية على جبهة التنمية السياسية، ولهذا ستكون معركة الانتقال الديمقراطي المستوجبة هي هذه المعركة التي يراد بها فتح آفاق واعدة امام الاقتصاد الوطني وخلق جيل جديد من المبادرين الاقتصاديين ورجال الاعمال في فضاء يتميز باحترام قواعد الحرية والعدالة والنزاهة والشفافية واللعب المفتوح وهو ما كان مفقودا خلال العقود الماضية زمن الأنظمة السابقة واستمر للاعتبارات التي أشير اليها بعد الثورة، ولكنه لا يمكن ان يستمر الى ما لا نهاية.
لقد كانت العملية الاقتصادية خلال نظامي بورقيبة وبن علي محكومة بهواجس سياسية اساسها الإبقاء على العملية الاقتصادية في خدمة اجندة السلطة وتحت رقابتها، خصوصا في ظل حرص الرئيسين على احتكار خاصية “الإغناء والإفقار”، وحتى يكون اصحاب الاعمال مدينون بثرواتهم للسلطان وحده، وان لا يتجاوزوا بالتالي المربعات التي يرسمها لهم، وخصوصا عدم انخراطهم في اي نشاط قد يقود الى معارضة النظام.
لقد قاد نظام إسناد الرخص والامتيازات والتسهيلات عبر العقود الى خلق نظام رأسمالي مشوه وبورجوازية مغشوشة مشوبة بروح الإقطاع، فقد كانت تونس في ظاهرها جزءا من العالم الحر، ولكنها في حقيقتها خصوصا الاقتصادية منها، كانت دولة اقرب في نظامها وطريقة تسييرها الى ما تبقى من أنظمة المنظومة الاشتراكية، فحتى قطاعها الخاص كان يتبع بشكل او باخر إرادة النظام والرئيس، سواء من حيث الموقف السياسي او تمويل الحزب الحاكم والمنظمات المرتبطة بالنظام وتنفيذ الإرادة الرئاسية.
ينتمي الفاعلون الاقتصاديون في القطاع الخاص التونسي اليوم غالبا إلى مجموعتين أساسيتين، احداهما تشكلت خلال الزمن البورقيبي والثانية تشكلت خلال زمن بن علي، وقد تمكن هؤلاء الفاعلون، او الجزء الاقوى فيهم من الاستفادة من الحرية التي منحها الانتقال الديمقراطي، في مضاعفة أنشطتهم وتوسيع دوائر نفوذهم الى مجالات لم يكن مسموح لهم التحرك فيها سابقاً، عندما كان الحاكم يوزع الارزاق والأسواق ويحدد مجالات الحركة، من قبيل وسائل الاعلام والاحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، دون خسارة الامتيازات والرخص والتسهيلات الممنوحة لهم سابقاً، وكان هذا مصدر اختلال وارباك للنظام الديمقراطي الناشئ وعرقلة لنموه الطبيعي، فمن يملك المال يطمح لامتلاك السلطة لامتلاك مال أكثر كما يقولون.
من حق الشباب الطموح اقتصاديا ان يأخذ فرصته ليكون منه رجال اعمال المستقبل، ومن حق المناطق الداخلية المهمشة ان يظهر فيها رجال اعمال من ابنائها يستثمرون فيها الافكار والثروة، ومن حق جميع المواطنين ان تكون لهم فرص متساوية في المبادرة الاقتصادية بعيدا عن نظام التراخيص والمحاصصات والامتيازات التي تشكل مدخلا للفساد وضمانا لديمومته في نفس الوقت، ودون ذلك ستظل الديمقراطية عرجاء. “الحرية والكرامة عندي سواء” مثلما قال أحدهم.