28 ديسمبر 2024

د.خالد شوكات: الباجي قائد السبسي..بين زاويتين

د.خالد شوكات

نخصص‭ ‬هذا‭ ‬العدد‭ ‬الخاص‭ ‬من‭ ‬مجلة‭ ‬المصير‭ ‬لتأبين‭ ‬الرئيس‭ ‬الراحل‭ ‬الباجي‭ ‬قائد‭ ‬السبسي،‭ ‬الذي‭ ‬انتقل‭ ‬إلى‭ ‬جوار‭ ‬ربه‭ ‬في‭ ‬ذكرى‭ ‬عيد‭ ‬الجمهورية‭ ‬الأخير،‭ ‬يوم‭ ‬25‭ ‬جويلية‭ ‬2019،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬عهدته‭ ‬الرئاسية‭ ‬بأشهر‭ ‬قليلة،‭ ‬كأول‭ ‬رئيس‭ ‬للجمهورية‭ ‬الثانية‭ ‬التي‭ ‬أقيمت‭ ‬استنادا‭ ‬إلى‭ ‬مقتضيات‭ ‬دستور‭ ‬26‭ ‬جانفي‭/‬يناير‭ ‬2014،‭ ‬ولعل‭ ‬أجمل‭ ‬ما‭ ‬قيل‭ ‬في‭ ‬توديع‭ ‬المغفور‭ ‬له‭ “‬إنه‭ ‬دخل‭ ‬قصر‭ ‬قرطاج‭ ‬رئيسا‭ ‬وخرج‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬واراه‭ ‬محبوه‭ ‬الثرى‭ ‬زعيما‭”. ‬

سيكتب‭ ‬المؤرخون‭ ‬بلا‭ ‬شك‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الحقبة‭ ‬المفصلية‭ ‬والاستثنائية‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬تونس،‭ ‬وسيكتبون‭ ‬بالضرورة‭ ‬عن‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬مهندسيها‭ ‬ورموزها‭ ‬الأستاذ‭ ‬الباجي‭ ‬قائد‭ ‬السبسي،‭ ‬العابر‭ ‬للمراحل‭ ‬والمخضرم‭ ‬السيرة‭ ‬والمثير‭ ‬للجدل‭ ‬منذ‭ ‬ولج‭ ‬غمار‭ ‬السياسية‭ ‬بعد‭ ‬رجوعه‭ ‬إلى‭ ‬أرض‭ ‬الوطن‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬خمسينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬محاميا‭ ‬شابا‭ ‬مكلفا‭ ‬بالدفاع‭ ‬عن‭ ‬قضايا‭ ‬المجاهدين‭ ‬الذين‭ ‬اعتقلهم‭ ‬سلطات‭ ‬المستعمر‭ ‬وستحكم‭ ‬لاحقا‭ ‬على‭ ‬عدد‭ ‬منهم‭ ‬بالإعدام،‭ ‬ثم‭ ‬اضطلاعه‭ ‬بمسؤوليات‭ ‬سامية‭ ‬في‭ ‬الحقبة‭ ‬التأسيسية‭ ‬للدولة‭ ‬المستقلة،‭ ‬وتصديه‭ ‬لطلائع‭ ‬المعارضة‭ ‬الإصلاحية‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬نظام‭ ‬الحكم،‭ ‬ثم‭ ‬توليه‭ ‬رئاسة‭ ‬الحكومة‭ ‬التي‭ ‬حولت‭ ‬المشروع‭ ‬الثوري‭ ‬إلى‭ ‬مسار‭ ‬ناجح‭ ‬للانتقال‭ ‬الديمقراطي،‭ ‬فأي‭ ‬سياسي‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الرجل،‭ ‬وأي‭ ‬سيرة‭ ‬حافلة‭ ‬بالوقائع‭ ‬والأحداث‭ ‬والمواقف‭ ‬خلف‭ ‬وراءه‭ ‬وأي‭ ‬تأثير‭ ‬ترك‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬أتى‭ ‬من‭ ‬بعده. ‬

‭***‬

ثمة‭ ‬أمران‭ ‬أحب‭ ‬أن‭ ‬أساهم‭ ‬بهما‭ ‬في‭ ‬توجيه‭ ‬اهتمام‭ ‬الباحثين‭ ‬والمؤرخين‭ ‬وسائر‭ ‬المهتمين‭ ‬بحركة‭ ‬الفكر‭ ‬الوطني‭ ‬التونسي،‭ ‬فيما‭ ‬يتصل‭ ‬بحياة‭ ‬الزعيم‭ ‬الراحل‭ ‬الباجي‭ ‬قائد‭ ‬السبسي،‭ ‬الأمر‭ ‬الأول‭ ‬عرفاني‭ ‬لا‭ ‬يخضع‭ ‬لمقاييس‭ ‬العلوم‭ ‬العقلية،‭ ‬وينتمي‭ ‬إلى‭ ‬ذات‭ ‬مقولة‭ “‬العناية‭ ‬الإلهية‭” ‬التي‭ ‬لطالما‭ ‬قرعت‭ ‬لأجلها،‭ ‬فقد‭ ‬شاءت‭ ‬الأقدار‭ ‬أن‭ ‬تهب‭ ‬الرجل‭ ‬تميزا‭ ‬وفرادة‭ ‬في‭ ‬بدايته‭ ‬ونهايته،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬والدته‭ ‬رحمها‭ ‬الله‭ ‬وهي‭ ‬ابنة‭ ‬الشيخ‭ ‬ابن‭ ‬جعفر‭ ‬قد‭ ‬جاءها‭ ‬المخاض‭ ‬في‭ ‬زاوية‭ ‬الولي‭ ‬الصالح‭ “‬سيدي‭ ‬أبو‭ ‬سعيد‭ ‬الباجي‭ (‬رض‭)‬،‭ ‬ولهذا‭ ‬حمل‭ ‬اسم‭ “‬سلطان‭ ‬البحار‭” ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬العارفين‭ ‬بالله‭ ‬المرابطين‭ ‬على‭ ‬ثغور‭ ‬بلاد‭ ‬المسلمين،‭ ‬وكان‭ ‬مقصد‭ ‬السالكين‭ ‬والعلماء‭ ‬من‭ ‬المتصوفة‭ ‬من‭ ‬شتى‭ ‬أصقاع‭ ‬الدنيا،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬زواره‭ ‬الشيخان‭ ‬العالمان‭ ‬الجليلان‭ ‬القطبان‭ ‬الأكبران‭ ‬مولانا‭ ‬محي‭ ‬الدين‭ ‬بن‭ ‬عربي‭ ‬صاحب‭ ‬الطريقة‭ ‬الأكبرية‭ ‬و‭ ‬سيدي‭ ‬أبو‭ ‬الحسن‭ ‬الشاذلي‭ ‬صاحب‭ ‬الطريقة‭ ‬الشاذلية‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنهما،‭ ‬وفي‭ ‬زاوية‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬بمقبرة‭ ‬الجلاز‭ ‬سيدفن‭ ‬الباجي‭ ‬قائد‭ ‬السبسي‭ ‬لتكون‭ ‬حياته‭ ‬بين‭ ‬زاويتين‭ ‬في‭ ‬الولادة‭ ‬والوفاة،‭ ‬فأي‭ ‬عناية‭ ‬إلهية‭ ‬هذه‭ ‬وأي‭ ‬لطف‭ ‬ومحبة‭.‬

‭***‬

أما‭ ‬الأمر‭ ‬الثاني،‭ ‬وهو‭ ‬دنيوي‭ ‬خالص،‭ ‬فله‭ ‬صلة‭ ‬وثقى‭ ‬بالوظيفة‭ ‬التي‭ ‬سخر‭ ‬لها‭ ‬الباجي‭ ‬قائد‭ ‬السبسي‭ ‬منذ‭ ‬كان‭ ‬عمره‭ ‬خمسة‭ ‬وأربعون‭ ‬عاما،‭ ‬وهي‭ ‬النضال‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬نظام‭ ‬سياسي‭ ‬ديمقراطي‭ ‬في‭ ‬بلاده،‭ ‬التي‭ ‬قيض‭ ‬له‭ ‬الله‭ ‬أن‭ ‬يساهم‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬معاركها‭ ‬الكبرى‭ ‬السابقة،‭ ‬معركة‭ ‬إخراج‭ ‬المستعمر‭ ‬وتحرير‭ ‬الوطن،‭ ‬ومعركة‭ ‬بناء‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬المستقلة،‭ ‬ففي‭ ‬مذكراته‭ ‬أو‭ ‬شهادته‭ ‬للتاريخ‭ ‬أكد‭ ‬الأستاذ‭ ‬أحمد‭ ‬المستيري‭ “‬أن‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬صدع‭ ‬بمطلب‭ ‬الإصلاح‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬مؤتمر‭ ‬الحزب‭ ‬الاشتراكي‭ ‬الدستوري‭ ‬في‭ ‬حضرة‭ ‬الزعيم‭ ‬بورقيبة‭ ‬سنة‭ ‬1971،‭ ‬كان‭ ‬الباجي‭ ‬قائد‭ ‬السبسي‭”‬،‭ ‬وقد‭ ‬دفع‭ ‬سي‭ ‬الباجي‭ ‬ثمن‭ ‬مواقفه‭ ‬الإصلاحية‭ ‬والديمقراطية‭ ‬غاليا،‭ ‬بأن‭ ‬أبعد‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬تسع‭ ‬سنوات‭ ‬عن‭ ‬إدارة‭ ‬الشأن‭ ‬العام،‭ ‬ولم‭ ‬يتولى‭ ‬الوزارة‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬حكومة‭ ‬الأستاذ‭ ‬محمد‭ ‬مزالي‭ ‬سنة‭ ‬1981،‭ ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬حكومة‭ ‬حاملة‭ ‬لأجندة‭ ‬إصلاحية‭ ‬ديمقراطية‭ ‬أيضا،‭ ‬وقد‭ ‬شغل‭ ‬طيلة‭ ‬عقد‭ ‬السبعينيات‭ ‬مواقع‭ ‬قيادية‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬حركة‭ ‬معارضة‭ ‬ديمقراطية‭ ‬منشقة‭ ‬عن‭ ‬الحزب‭ ‬الحاكم‭ ‬وهي‭ “‬حركة‭ ‬الديمقراطيين‭ ‬الاشتراكيين‭”‬،‭ ‬ومن‭ ‬آثاره‭ ‬الديمقراطية‭ ‬أيضا‭ ‬رئاسة‭ ‬تحرير‭ ‬مجلة‭ “‬الديمقراطية‭” ‬الصادرة‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬عقد‭ ‬السبعينيات‭ ‬باللغة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬وكذلك‭ ‬رئاسته‭ ‬أول‭ ‬برلمان‭ ‬منتخب‭ ‬بعد‭ ‬وصول‭ ‬الرئيس‭ ‬بن‭ ‬علي‭ ‬للسلطة،‭ ‬وذلك‭ ‬لمدة‭ ‬سنتين‭ ‬بين‭ ‬1989‭ ‬و1991،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يدرك‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬أن‭ ‬مشروع‭ ‬الرجل‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬لا‭ ‬يتفق‭ ‬مع‭ ‬سيرته‭ ‬النضالية‭ ‬ورؤيته‭ ‬لما‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬عليه‭ ‬نظام‭ ‬الحكم‭ ‬ومبادئه‭ ‬التي‭ ‬لطالما‭ ‬التزم‭ ‬بها‭ ‬منذ‭ ‬انخرط‭ ‬في‭ ‬مشروع‭ ‬الوطن‭ ‬والدولة‭ ‬المعاصرين،‭ ‬وهكذا‭ ‬ذهب‭ ‬الرجل‭ ‬إلى‭ ‬بيته‭ ‬ليقضي‭ ‬عقدين‭ ‬من‭ ‬الزمان‭ ‬على‭ ‬هامش‭ ‬السلطة،‭ ‬تحتاط‭ ‬منه‭ ‬ويحتاط‭ ‬منها،‭ ‬حتى‭ ‬اندلعت‭ ‬ثورة‭ ‬17‭ ‬ديسمبر‭ ‬2010،‭ ‬التي‭ ‬أثبتت‭ ‬صحة‭ ‬تقديراته‭ ‬وحكمة‭ ‬مواقفه،‭ ‬وليكتب‭ ‬فصلا‭ ‬جديدا‭ ‬في‭ ‬مسيرته‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ظن‭ ‬الناس‭ ‬أنه‭ ‬طوى‭ ‬صفحة‭ ‬الحكم‭ ‬للأبد،‭ ‬ولينهض‭ ‬كطائر‭ ‬العنقاء‭ ‬من‭ ‬بعيد،‭ ‬يحفظ‭ ‬آثار‭ ‬المعارك‭ ‬الكبرى‭ ‬السابقة‭ ‬ويرسم‭ ‬آثار‭ ‬معارك‭ ‬جديدة‭ ‬ظل‭ ‬يخوضها‭ ‬إلى‭ ‬فجر‭ ‬الليلة‭ ‬التي‭ ‬سيودع‭ ‬فيها‭ ‬هذه‭ ‬الفانية‭. ‬وقد‭ ‬يظن‭ ‬البعض‭ ‬أن‭ ‬بين‭ ‬الأمرين‭ ‬حاجز،‭ ‬لكنني‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬كلا‭ ‬الأمرين‭ ‬واحد،‭ ‬تحكمهما‭ ‬زاويتان‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬وفي‭ ‬السماء‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Copyright © All rights reserved. | Newsphere by AF themes.