د.خالد شوكات: الباجي قائد السبسي..بين زاويتين
د.خالد شوكات
نخصص هذا العدد الخاص من مجلة المصير لتأبين الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، الذي انتقل إلى جوار ربه في ذكرى عيد الجمهورية الأخير، يوم 25 جويلية 2019، وقبل أن يتم عهدته الرئاسية بأشهر قليلة، كأول رئيس للجمهورية الثانية التي أقيمت استنادا إلى مقتضيات دستور 26 جانفي/يناير 2014، ولعل أجمل ما قيل في توديع المغفور له “إنه دخل قصر قرطاج رئيسا وخرج منه إلى حيث واراه محبوه الثرى زعيما”.
سيكتب المؤرخون بلا شك عن هذه الحقبة المفصلية والاستثنائية في تاريخ تونس، وسيكتبون بالضرورة عن أحد أهم مهندسيها ورموزها الأستاذ الباجي قائد السبسي، العابر للمراحل والمخضرم السيرة والمثير للجدل منذ ولج غمار السياسية بعد رجوعه إلى أرض الوطن في بداية خمسينيات القرن الماضي محاميا شابا مكلفا بالدفاع عن قضايا المجاهدين الذين اعتقلهم سلطات المستعمر وستحكم لاحقا على عدد منهم بالإعدام، ثم اضطلاعه بمسؤوليات سامية في الحقبة التأسيسية للدولة المستقلة، وتصديه لطلائع المعارضة الإصلاحية من داخل نظام الحكم، ثم توليه رئاسة الحكومة التي حولت المشروع الثوري إلى مسار ناجح للانتقال الديمقراطي، فأي سياسي كان هذا الرجل، وأي سيرة حافلة بالوقائع والأحداث والمواقف خلف وراءه وأي تأثير ترك على من أتى من بعده.
***
ثمة أمران أحب أن أساهم بهما في توجيه اهتمام الباحثين والمؤرخين وسائر المهتمين بحركة الفكر الوطني التونسي، فيما يتصل بحياة الزعيم الراحل الباجي قائد السبسي، الأمر الأول عرفاني لا يخضع لمقاييس العلوم العقلية، وينتمي إلى ذات مقولة “العناية الإلهية” التي لطالما قرعت لأجلها، فقد شاءت الأقدار أن تهب الرجل تميزا وفرادة في بدايته ونهايته، ذلك أن والدته رحمها الله وهي ابنة الشيخ ابن جعفر قد جاءها المخاض في زاوية الولي الصالح “سيدي أبو سعيد الباجي (رض)، ولهذا حمل اسم “سلطان البحار” وقد كان من العارفين بالله المرابطين على ثغور بلاد المسلمين، وكان مقصد السالكين والعلماء من المتصوفة من شتى أصقاع الدنيا، وكان من أبرز زواره الشيخان العالمان الجليلان القطبان الأكبران مولانا محي الدين بن عربي صاحب الطريقة الأكبرية و سيدي أبو الحسن الشاذلي صاحب الطريقة الشاذلية رضي الله عنهما، وفي زاوية هذا الأخير بمقبرة الجلاز سيدفن الباجي قائد السبسي لتكون حياته بين زاويتين في الولادة والوفاة، فأي عناية إلهية هذه وأي لطف ومحبة.
***
أما الأمر الثاني، وهو دنيوي خالص، فله صلة وثقى بالوظيفة التي سخر لها الباجي قائد السبسي منذ كان عمره خمسة وأربعون عاما، وهي النضال من أجل نظام سياسي ديمقراطي في بلاده، التي قيض له الله أن يساهم في جميع معاركها الكبرى السابقة، معركة إخراج المستعمر وتحرير الوطن، ومعركة بناء الدولة الوطنية المستقلة، ففي مذكراته أو شهادته للتاريخ أكد الأستاذ أحمد المستيري “أن أول من صدع بمطلب الإصلاح السياسي في مؤتمر الحزب الاشتراكي الدستوري في حضرة الزعيم بورقيبة سنة 1971، كان الباجي قائد السبسي”، وقد دفع سي الباجي ثمن مواقفه الإصلاحية والديمقراطية غاليا، بأن أبعد ما يقارب تسع سنوات عن إدارة الشأن العام، ولم يتولى الوزارة إلا في حكومة الأستاذ محمد مزالي سنة 1981، وقد كانت حكومة حاملة لأجندة إصلاحية ديمقراطية أيضا، وقد شغل طيلة عقد السبعينيات مواقع قيادية في أول حركة معارضة ديمقراطية منشقة عن الحزب الحاكم وهي “حركة الديمقراطيين الاشتراكيين”، ومن آثاره الديمقراطية أيضا رئاسة تحرير مجلة “الديمقراطية” الصادرة في نفس عقد السبعينيات باللغة الفرنسية، وكذلك رئاسته أول برلمان منتخب بعد وصول الرئيس بن علي للسلطة، وذلك لمدة سنتين بين 1989 و1991، قبل أن يدرك رحمه الله أن مشروع الرجل في الحكم لا يتفق مع سيرته النضالية ورؤيته لما يجب أن يكون عليه نظام الحكم ومبادئه التي لطالما التزم بها منذ انخرط في مشروع الوطن والدولة المعاصرين، وهكذا ذهب الرجل إلى بيته ليقضي عقدين من الزمان على هامش السلطة، تحتاط منه ويحتاط منها، حتى اندلعت ثورة 17 ديسمبر 2010، التي أثبتت صحة تقديراته وحكمة مواقفه، وليكتب فصلا جديدا في مسيرته بعد أن ظن الناس أنه طوى صفحة الحكم للأبد، ولينهض كطائر العنقاء من بعيد، يحفظ آثار المعارك الكبرى السابقة ويرسم آثار معارك جديدة ظل يخوضها إلى فجر الليلة التي سيودع فيها هذه الفانية. وقد يظن البعض أن بين الأمرين حاجز، لكنني أظن أن كلا الأمرين واحد، تحكمهما زاويتان في الأرض وفي السماء.