د.خالد شوكات: الانحراف الدستوري..!؟
د.خالد شوكات
جميع التيارات السياسية معرّضة للانحراف ومؤهلة للإصلاح، والتيار الدستوري الذي يحتفل بمرور مائة عام وعام على تأسيس أوّل أحزابه هذه الأيام، شهد طيلة مسيرته عديد الانعطافات والانحرافات، الايجابية والسلبية على السواء، في تصدّيه لمعارك الوطن الكبرى الثلاث على الأقل: التحرر الوطني والدولة المستقلة والإصلاح السياسي الديمقراطي، وما يزال إلى اليوم يواجه مثل هذه التحديات ذات الصلة الوثيقة بدوره وووظيفته واستمراريته.
ثلاثة أيام فقط بعد نجاح الثورة في الإطاحة بنظام الرئيس بن علي، وتحديدا يوم 17 جانفي 2011، طالبت في مقال منشور في احدى كبريات الصحف العربية بعدم حظر حزب التجمع الدستوري الديمقراطي ومنحه فرصة اعادة البناء وفقا لشروط النظام الديمقراطي الجديد، ولو استمع لنصحيتي حينها ونصحية غيري ربما، لكنّا جنبنا بلادنا أزمات لاحقة ابرزها حالة عدم الاستقرار السياسي والانفلات الفكري، ولكن ذلك لم يحدث للاسف.
وكنت أقول وما ازال في سياق السجال الفكري المفتوح مع بقية التيارات الفكرية والسياسية التونسية التي تشكل المشهد العام، الاسلامية واليسارية والقومية العربية وغيرها، أن الديمقراطية اكتشاف جماعي تونسي لا يجب ان يزايد فيه احد على الاخر، وان السبق في المطالبة بدمقرطة النظام السياسي في تونس تعود في واقع الامر الى التيار الليبرالي والإصلاحي داخل حزب الدستور، فأحمد التليلي واحمد المستيري ومجموعته (ومن بينها الرئيس الباجي قائد السبسي) ومحمد مزالي ورفاقه كانوا في طليعة من نادى من التونسيين بنظام سياسي ديمقراطي تعددي حقيقي، بينما كانت جميع التيارات والاحزاب المعارضة الى نهاية السبعينيات ربما تحمل مشاريع شمولية وتحلم بالاستعاضة عن النظام البورقيبي بنظام شيوعي او بعثي او ناصري او اسلامي لا صلة له بالديمقراطية التعددية.
وفي الموقف من الثورة الاخيرة ومسار الانتقال الديمقراطي، انقسم الدساترة بين تيار يرى في الثورة فرصة لإعادة بناء النظام السياسي والحزب الدستوري على اسس ديمقراطية تجنب البلاد والحزب معا نهاية مأساوية أو مغامرة مخيفة غير محمودة العواقب، وتيار اخر “رجعي” يقيم أطروحته على قاعدة الحنين الى الماضي ويستثمر الكلفة الاقتصادية الباهضة للتحول الديمقراطي في محاولة للوصول الى السلطة من جديد والعودة ربما الى نظام التسلط الفردي الشمولي، حد الانحراف بالفكرة الدستورية الى فكرة فاشية وهو ما لم يعرفه الحزب منذ تأسيس اول نسخه سنة 1920.
إن الاطروحة التي تبناها الرئيس الباجي قائد السبسي وحاول تضمينها في رؤية حركة نداء تونس وبرنامجها هي محاولة لتجسيد التوجه الاول، اي الانخراط في الحركة الثورية العامة والعمل على تحويلها الى مشروع اصلاحي والاندماج في مسار الانتقال الديمقراطي، بل العمل على قيادة هذا المسار والمساهمة في انقاذه حتى استكمال جميع محطاته، وقد حاولت حركة نداء تونس الى نهاية 2016 وحتى سقوط حكومة الحبيب الصيد تقريبا، الاضطلاع بدور الشريك الاساسي في مسيرة الانتقال الديمقراطي، غير ان مكر التاريخ كان بالمرصاد، وعبر اخطاء صغيرة كان لها أثر كبير جرى إنهاء هذه التجربة القائمة على قراءة صحيحة لسياق التاريخ وتطبيق لم يرق الى مستوى القراءة دفع الأحداث في غير الاتجاه السليم.
ان انتكاس التجربة الندائية فتح الباب لغلبة الاطروحة المنحرفة، ذات الملامح الرجعية والشعبوية والفاشية، على شريحة كبيرة من الجمهور الدستوري، وغلّب الرؤية المتطرفة على الرؤية الوسطية والمعتدلة والواقعية التي لطالما اتسم بها التيار الدستوري في مراحل النضال الوطني جميعها، وستكون نتيجة هذا الانحراف الخطير محددة لمستقبل التيار الدستوري، الذي ما تزال جل قيادته الكبرى صامتة في انتظار تحركها المفترض لإنقاذ السفينة الدستورية والوطنية على السواء، ذلك ان الدساترة كانوا اباء الحركة الاصلاحية والديمقراطية وهذه حقيقة تاريخية لا ينكر سوى جاحد.