د.خالد شوكات: الإخوان المسلمون والسياسة..حسابات الربح والخسارة؟
د.خالد شوكات
في غضون خمس سنوات تكون جماعة الإخوان المسلمين قد بلغت من عمرها القرن، فقد تأسست في مثل هذا الشهر مارس/آذار سنة 1928، وكان مؤسسها الشيخ حسن البنّا في أواخر العشرينات من عمره حينها، وكذلك حال إخوانه الذين أسسوا معه الجماعة، جماعة من الشباب حزّ في نفوسهم سقوط الخلافة سنة 1924، على أيدي مصطفى كمال وجماعته، ممن قرروا تحويل وجهة تركيا نحو الغرب والعلمانية، وإعطاء ظهرهم للشرق والعالم الاسلامي بعد قرون من قيادة اسطنبول والخلفاء العثمانيين له.
تزامن ظهور جماعة الإخوان المسلمين مع ظهور أهم الأحزاب السياسية والتيارات الفكرية العاملة في الساحة العربية إلى اليوم، مثل الأحزاب الشيوعية والأحزاب القومية العربية، البعثية والناصرية، والأهم هي الأحزاب الوطنية الليبرالية مثل حزب الوفد في مصر وحزب الدستور في تونس وما شابهها من احزاب اصلاحية تبنت في غالبيتها الأساليب النضالية السياسية السلمية في تحقيق أهدافها في التحرر الوطني واخراج المستعمر الانجليزي والفرنسي من بلدانهم، مستفيدة بالأساس من مناخ الحريات الذي وفّرته الأنظمة الملكية الحاكمة، خصوصا في فترة ما بين الحربين العالميتين..
لم تحد جماعة الإخوان المسلمين منذ نشأتها في أواخر عشرينيات القرن العشرين وحتى السبعينيات منه، عن هذا المنهج السلمي تقريبا، بل إنّها لم تقم بطرح نفسها كحزب سياسي غايته الوصول إلى الحكم إلّا مؤخرا، وتمسكت في الغالب بطابعها الدعوي الاصلاحي الشامل الذي يتجاوز حدود مصر بلد التأسيس، إلى جل البلدان العربية، المجاورة والبعيدة على السواء، سواء تحت الاسم نفسه، أو باتخاذ أسماء أخرى بحسب السياقات الوطنية وما تقتضيه من تكيّف مع الخصوصيات المجتمعية، وما تزال العلاقة بين الجماعة الأم في مصر والفروع في مختلف الاقطار العربية تشكّل مجالا للجدل السياسي ومبحثا إشكاليا للنقاش الفكري والسجال النظري.
تماما كما شكّلت العلاقة بين الدعوي الاصلاحي والسياسي السلطوي في سيرة جماعة الإخوان المسلمين، احدى أهم الاشكاليات المطروحة التي شغلت الباحثين والمؤرخين، ناهيك عن الأوساط السياسية بين أصحاب الشأن والأصدقاء والخصوم، فتعدد تجارب الإخوان وتباين سيرهم بحسب الدول التي عاشوا فيها، غذّت عشرات الأسئلة الكبرى، وساهمت في صدور آلاف الكتب والدراسات والمقالات، وما تزال تغذّي النقاش والحوار والمخيال، بين إخوان قرروا التحوّل نهائيا إلى أحزاب سياسية تتطلع إلى الوصول للحكم، بل وصلت إليه جزئيا أو كليا في أكثر من بلد عربي، وإخوان تمسّكوا بطابع الجماعة الدعوي الإصلاحي وامتنعوا عن العمل السياسي وكل ما من شأنه أن يجرّهم إليه من أسباب الصدام والمواجهة مع الأنظمة الحاكمة والسلطات السائدة.
من الإشكاليات التي اعترضت سبيل جماعة الإخوان المسلمين عبر مسارها الطويل الذي أشرف على قرن من الزمان، موقفها من “العنف” أو وسائل التغيير العنيف بشكل عام، ومنه حمل السلاح في وجه الحكّام، وقد بدأت هذه الإشكالية في الظهور منذ أربعينيات القرن الماضي، عندما اتهمت الجماعة عبر ما سيعرف ب”الجهاز الخاص”، باغتيال رئيس الوزراء النقراشي باشا، وهو ما تسبب في اغتيال مرشد الجماعة ومؤسسها حسن البنا وهو لم يبلغ الخمسين من عمره بعد. وقد بلغ اتهام الجماعة بالعنف منتهاه اثر حادث المنشية في الاسكندرية عندما اتهمت الجماعة بمحاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر سنة 1954. وهو ما دفع باتجاه حملة اعتقالات واسعة طالت قادة الإخوان من مختلف الصفوف والزج بهم في السجن لسنوات، بل إعدام أحد أهم رموزهم “سيد قطب” صاحب الكتاب الشهير “معالم في الطريق” وتفسير “في ظلال القرآن”.
وعلى الرغم من ادعاء بعض المصادر من أن عبد الناصر كان إخواني النشأة، وأن انقلاب 1952 ضد النظام الملكي كان بمباركة الجماعة وتأييدها، إلا أن الصراع الناصري الإخواني لاحقا سيمثّل منعرجا خطيرا في مسار الجماعة، وهو ما سيتجلّى في حدوث نقلتين كبيرتين، الأولى داخلية بانشقاق داخل الجماعة سيظهر خصوصا في السبعينيات، مع نشأة الجماعات الجهادية، كالجماعة الاسلامية وجماعة التكفير والهجرة وغيرها، والتي ستبرز أعمالها العنيفة باغتيال السادات والذهاب الى أفغانستان في اطار الجهاد ضد السوفيات والمساهمة لاحقا في نشوء تنظيم القاعدة وسائر التنظيمات التي اتخذت من الارهاب أداة لتحقيق أهدافها في اقامة الدولة الاسلامية الموعودة.
أما النقلة الثانية، فقد كانت نتاج الحملة القمعية الواسعة بهجرة كثير من القيادات الإخوانية إلى دول الخليج، وخصوصا المملكة العربية السعودية، وما نتج عن ذلك من زيجة بين الفكرين “الإخواني” و”الوهّابي”، الأمر الذي تسبّب لاحقا في ظهور الأفكار الأكثر راديكالية، خصوصا تلك التي تعلّقت بمواضيع الخلافة والحاكمية والجهاد.
لكن الواضح، رغم هذه الانحرافات التي حصلت في أطراف الجماعة لا مركزها، أن مسار الإخوان المسلمين الرئيسي ظلّ متشبّثا بالطابع السلمي، فغالبية التجارب الحزبية التي وقفت تنظيمات الجماعة وراءها، قبلت بقواعد اللعبة الديمقراطية وانخرطت فيها، بل تحمّست لها واعتبرت نفسها مؤتمنة عليها، مثلما هو الحال في جلّ الدول التي طالتها حركة الربيع العربي، حيث بدا الاسلاميون الأكثر التزاما بقيم الديمقراطية والأكثر انخراطا في العملية الانتخابية والأكثر حرصا على اعتماد نتائجها، وقد يقول البعض هنا بأن مردّ الأمر شعبية الحركات الاسلامية وثقتها بالفوز الانتخابي، لكن الواقع يثب ان الاسلاميين قبلوا بنتائج الانتخابات حتّى بعد خسارتهم لها، سواء في الكويت والأردن مثلا، أو في تونس والمغرب وموريتانيا كذلك، كما أن الحكم الظنّي غير مقبول عقلانيا ومنطقيا.
بالمقابل، يرى بعض المفكرين والنشطاء الإسلاميين أن تحوّل الحركات الاسلامية الى احزاب سياسية، وتخلّي عدد منها عن طابعه الدعوي الاصلاحي أضعف الجماعة والأمّة معا، لأن ممارسة الحكم غالبا ما كانت مغامرة غير محدودة العواقب وقد تكون نتائجها كارثية بالمعنيين الأخلاقي والحضاري، وأن النقد والمراجعة يؤكد هذه النتيجة، وأن الأمر يقتضي انسحابا استراتيجيا يعيد للجماعة موقعها الريادي فكريا ومعنويا ويجعلها اقدر على تحقيق غايات الأمة قياسا إلى خيار السلطة التي هي مفسدة في كل الأحوال.
وما يخلص إليه، أن الجماعة بعد كل هذه الهزات والازمات والتجارب والنجاحات والهزائم والانحرافات على مدار ما يزيد عن التسعة عقود، في أمس الحاجة إلى حركة تقييمية كبرى، في حجم المرحلة وتحدّياتها، تخرج من خلالها بخلاصات رئيسية في تقويم مسارها والقيام بدورها على ضوء مصالح الأمة الأساسية.. هذه الأمّة المركزية في التاريخ والجغرافيا، والتي لم تتخلى عن هويتها ورسالتها منذ قيامها.