د.خالد شوكات: الأفكار الكبرى للتنمية
1 min readد.خالد شوكات
السؤال الذي يجب أن نبقيه مطروحا وأن نجد له جوابا سريعاً ومقنعاً، بعد أن تهدأ الأحوال بفضل كفاءة الرجال، من الأمن والحرس الوطني والجيش، واقتناع شبابنا بان التخريب والتحطيم ليست الوسائل المناسبة لتحقيق الغايات، هو كيف السبيل إلى الخروج من هذه الدائرة الجهنمية والعودة بقطار البلاد إلى سكّة التنمية دون ان تخسر طبيعتها الديمقراطية المكتسبة، ذلك أنه لا سبيل -باجماع المفكرين والخبراء وكل ذوي الاراء- إلى استقرار الديمقراطية دون تحقيق التنمية الاقتصادية وانجاز دولة الرفاه الاجتماعي.
والحقيقة التاريخية الثابتة منذ ظهور الدول، أن الديمقراطية تحتاج التنمية للاستقرار والاستمرار، ولكن التنمية أقل حاجة للديمقراطية، ولهذا فان هذه الايدي التي خرجت لتسرق وتحطم وتخرب المنشآت العامة والخاصة، إنما خرجت لأن أيديها لم تشغل بطاعة العمل والبناء، وان غالبيتها لم تعرف من الأنظمة الا هذا النظام الديمقراطي المتعثر منذ عشر سنوات، ولهذا فهي عاجزة عن المقارنة بين فضائل الحرية ومساوئ القمع والاستبداد، ولم تدرك مصافّ النخبة حتى تكون مطالبة بمنح مطلب الديمقراطية الاولوية على حساب مطلب المستقبل والعيش الكريم، او حتى مطلب الهوية ذلك انها لم تنشأ زمن الايديولوجيات الكبرى حتى تعنى كثيرا او قليلا بالمخاطر المحدقة بالمرجعية العربية الاسلامية للدولة القطرية الوطنية.
إن عودة مراكز القرار في الدولة والمجتمع الى العناية ب”الصغائر” على حساب “الكليات” و”التوجهات الكبرى”، وعودتها الى منطق الغنيمة والصراع على تقاسم الوظائف السامية، فضلا عن تشبّثها بذات المفاهيم والوسائل الموروثة من زمن النظام السابق وقد كان جزء منها سبباً في انهياره، الى جانب تمثيلها لذات المصالح الاقتصادية المحتكرة للسوق والثروة والممانعة في احترام التنافسية الحقيقية لدواعي حزبية وانتخابية ضيقة، كل ذلك سيعني مزيدا من مراكمة الأخطاء وتعقيد الأزمة والدفع بالمنظومة نحو نهايتها، وبالتالي المقامرة بتجربة الانتقال الديمقراطي والمغامرة بهذه الديمقراطية الناشئة.
علينا الاعتراف بهذه الورطة الناجمة عن ضعف الوعي لدى القوى السياسية الرئيسية في بلادنا بأهمية المسألة التنموية، خصوصا حركة النهضة الاسلامية التي تحملت المسؤولية اكثر من سواها، في عيون الناس على الاقل، وذلك قياسا بمن سبق له تولي المسؤولية، سواء الزعيم الحبيب بورقيبة الذي لم يجد غضاضة في مد يده الى احد خصومه السياسيين السابقين وهو الاستاذ احمد بن صالح، لا لشيء الا لان هذا الاخير كان الوحيد الذي يملك رؤية وبرنامجا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية لبلد غادر لتوه الحالة الاستعمارية ولا يملك من الموارد الا نزراً قليلا، ولم يكن بورقيبة او حتى بن صالح من ذوي التكوين الاقتصادي او الخبرة في التنمية، فالأول كان محاميا والثاني كان مدرسا للغة العربية، ولكن كلاهما كان مدركا لاهمية النمو الاقتصادي والاجتماعي لتثبيت اركان النظام السياسي الجمهوري الوليد.
أما الرئيس بن علي الذي يملك تكوينا عسكريا وأمنيا، فقد كان بحسه المخابراتي مدركا تماما لقاعدة الحكم الاولى، فعندما يُحسِّن الحاكم من مستوى عيش غالبية المواطنين ويفتح لهم افاقا للرفع من مستوى دخلهم ورفاهيتهم، فانهم سيتجاوزون غالبا عن سيرته التسلّطية في الحكم وسيولون وجوههم عن خطابات معارضيه مهما كانت مقنعة، فترتيب الاولويات عند الجماهير ليس نفسه عند النخب كما أسلفنا، بل ان جزءا كبيرا من هذه النخب سيعرض خدماته على الحاكم المستبد تحت مبرّرات شتى، ومن هنا نجاح صاحب التحوّل (المبارك) كما كان يقال، في استقطاب غالبية النخب المستقلة من التكنوقراط، الذين ساهموا معه طيلة عشريتين في تحقيق نسب نمو سنوي حوالي خمسة بالمائة، فضلا عما يجلبه الاستقرار السياسي مثلما هو معروف، من نجاعة في جلب الاستثمارات وتطوير البنى التحتية وارتفاع نسب الاستهلاك والتصدير، وهي محركات النمو الدارجة للاقتصاد.
إن المطلوب من أهل الحل والعقد في هذه الديمقراطية الفتّية، ومن اجل انقاذها من هذا المصير البائس المحدق بها، هو الوقوف وقفة حازمة مع النفس واستخلاص العبر من حركة الاحتجاجات الاخيرة، التي أنذرت بتحول أزمة البلاد الى أزمة امنية، وهي اخطر انواع الأزمات لو نعلم، اذ الأمن مطلوب لذاته كما يقول الفقهاء، ومن هنا أهمية العودة الى الجادة والنظر مليّاً في الافكار الكبرى من اجل مشاريع تنموية كبرى وحدها التي يمكن ان تجعل اعناق الامة مشرئبة نحو الاعلى، ووحدها التي يمكن ان تفجر الطموح المطلوب في الشعب وتستثمر في الامل وترمم الثقة بين المجتمع والدولة. وغالبا ما تحتاج الافكار والمشاريع الكبرى الى استقرار سياسي لن يحدث الا في ظل وجود أغلبية قوية حاكمة ذات تفويض انتخابي واضح، وهذه هي خارطة الطريق التي اقترحها، ولا ارى سواها لكي لا تتدحرج كرة الثلج أكبر وتتحول سريعاً الى لعبة قاتلة لا يمكن ايقافها لا قدر الله، فلنعد جميعا الى جادة الطاعة نشغل بها ايدينا حتى لا نشغل لا قدر الله بما لا يسر ولا ينفع.