د.أحمد القديدي: مجلة (الفكر) في ذكراها 64: أسسها الإستقلال وقتلها الإستبداد!
1 min readد.أحمد القديدي
المجلات الثقافية والأدبية فخر الأمم وأحيي بهذه المناسبة قطر على استمرار صدور مجلة (الدوحة) والكويت على تواصل صدور مجلة (العربي) فهي منارات تعلم منها ملايين شباب العرب ولكن أم هذه المجلات العربية بعد (الهلال المصرية) هي مجلة (الفكر) التونسية التي نحتفل اليوم بذكرى ميلادها الرابعة والستين وهي المجلة الرائدة التي أوقفها نظام الإستبداد والجهلوت يوم انتصابه في تونس في نوفمبر 1987 كأنما شعر أن الفكر عموما يهدد الطغيان!
لم ينس بعض المثقفين التوانسة هذا الشهر مجلة مجاهدة في ذكرى بعثها عام (1956) وهي مجلة (الفكر) التي أسسها و أدارها الوزير المثقف محمد مزالي رحمة الله عليه على مدى ثلاثين عاما و نفس هذه الذكرى هي أيضا – ويا لبؤس الثقافة- ذكرى موت المجلة سنة 1987 حين وصل زين العابدين الى السلطة فتوقف إصدارها وإلى الأبد.
وكنت أنا صحبة الصديق محمد مزالي في منفانا الباريسي بإرادة الحكام الجدد الذين أبعدونا و قتلوا المجلة شعرنا في منفانا أنذاك أن صفحة نيرة من الفكر التونسي والعربي طويت بأيدي الذين أعطوا بعد نفينا للثقافة معاني أخرى إقتصرت على الرقص والغناء ودق الطبول وهز البطون حتى سمعنا عن الدكتورة فلانة في فنون الرقص والدكتور فلان في النوتة الموسيقية و قلنا في منفانا أن زمننا نحن انقضى و مضى ورحم الله إمراء عرف قدر نفسه وانسحب (أو سحبوه) خارج الوطن وخارج ثقافته الجديدة المبشر بها في عهد التحول.
كانت مجلة (الفكر) منارة بشهادة عدد كبير من الباحثين إحتضنت إنتاج الكتاب التوانسة والمغاربيين والعرب وقامت بأداء رسالة تاريخية وهي تعريف المغاربيين بقضية فلسطين وبالكتاب المشارقة وتعريف أشقائنا المشارقة بالفكر المغاربي وبقضية تحرير الجزائر ولم تكن الجزائر استقلت بعد بل دشن المجاهدون فيها عهد المقاومة المسلحة المباركة كما أن تونس والمغرب لم يستكملا بعد مقومات إستقلالهما. فكانت (الفكر) رسالة شهرية جريئة في الوطنية والكفاح إلى جانب دفاعها المستميت عن اللغة العربية وأصالة شعوبنا وأداة التعريف بأمجادنا والتبشير بتحررنا الكامل ثقافيا وحضاريا رغم تصادمها مع التوجهات التغريبة البورقيبية السائدة رسميا.
ثم إن (الفكر) لم تتردد في نشر النصوص الأدبية الأكثر طلائعية وإبداعا رغم تصادمها مع التوجهات التقليدية السائدة أدبيا فكسرت (الفكر) بعض أصنام القديم الموروث المتداول لتساند نصوص كتاب مجددين ثبت مع الزمن أنهم يعبرون بصدق عن روح العصر وضمير أمتهم أمثال البشير خريف وعز الدين المدني والحبيب الزناد وفضيلة الشابي والطاهر الهمامي وفريد غازي وغيرهم كثيرون ممن لا أستطيع ذكرهم و تعدادهم.
و هؤلاء هم أباء الطليعة الأدبية الراهنة التي ما تزال تبدع ولا بد من القول أننا عندما فتحنا عيوننا نحن جيل ما بعد الإستقلال أدركنا بأن خطر الذوبان في الثقافة الغربية الطاغية يهدد كيان لغتنا وحضارتنا فوعينا بهذا الخطر المحدق منذ فجر الإستقلال فأسسنا تيارا تأصيليا ينادي بالتعريب و يرفض التغريب داخل الحزب الدستوري إذ لم يكن متاحا تأسيس أحزاب أخرى و كان زعيم هذا التيار هو المناضل الوطني محمد مزالي رحمة الله عليه و قد إجتمعنا حوله في مجلة الفكر التي ظلت تصدر لواحد وثلاثين عاما من 1956 إلى 1987إغتنمنا شخصية محمد مزالي وهو المولود في مدينة المنستير مسقط رأس بورقيبة وتاريخه حافل بالإنجازات وخدمة الدولة في عهد بورقيبة بوزارة التربية ثم الدفاع الوطني ثم الصحة فبادرنا على مدى خمسة أعوام إلى ما سميناه تعريب التعليم حيث أعلينا من شأن اللغة العربية وأثرينا برامج التعليم في كل المراحل بعباقرة الإسلام في العلوم والآداب والفنون والفلسفة والسياسة بينما لم يتعلم جيلنا نحن سوى جون جاك روسو و فولتير و فيكتور هيغو إمعانا في تغريبنا وتقليص معرفتنا لتاريخنا وبالتالي نشأ جيلنا و هو جاهل تقريبا بكل ما و من صنع هويته وأسس حضارته فقد غادر الإستعمار أرضنا وظل مستعبدا أرواحنا ووجداننا.
وشاء الله أن يعين محمد مزالي رئيسا للحكومة سنة 1980 فبدأت السيوف الإستعمارية الجديدة تشحذ لذبحنا بإعانة أعوان الإستعمار الثقافي و الإقتصادي في الداخل فنالنا ما نال كل صاحب مشروع تحريري من الإضطهاد والملاحقات والمنافي و السجون غفر الله لمن شردنا وأجهض رسالة التغيير و التأصيل.
وفي الحقيقة حين نقرأ الواقع الراهن في بلادي نعتقد إعتقاد المؤمنين بأن هذه الرسالة لم تجهض حيث عادت مشكلة الحضارة تطفو على سطح الخطاب السياسي. و هذه اللحظة التاريخية من حياة الشعوب وصفها محمد عابد الجابري بأنها فرصة إلتقاء الماضي بالمستقبل حين نوظف تراكم التجارب القومية لصناعة المستقبل على ضوئها لا بمعزل عنها ولا ضدها وهو الخيار الأخطر. ليس من الأمانة العلمية أن نعلن إنفرادنا نحن العرب بإستعادة الوعي بقضية الحضارة وملف الهوية فالعالم من حولنا شرقا و غربا أصبح طارحا لهذه المعضلات الإنسانية مع إختلاف المنطلقات و تباين الأهداف.
فالغرب المنتصر عسكريا وسياسيا تقوده الولايات المتحدة الأمريكية طرح قضية الحضارة من زاوية حماية مصالحه الإسترتيجية والإقتصادية وضمان مناطق نفوذه السياسي وتوسيع تأثيره الثقافي أي الحضاري في النهاية وذلك بالترويج لنظرية تفوق الحضارة الغربية الليبيرالية العلمانية على ما سواها ودعوة الأمم الأخرى للإستسلام الحضاري والتسليم بأن حضارة الغرب هي الأعلى.