د. أحمد القديدي: الرئيس ماكرون بين علمانية الجمهورية وأديان مواطنيه
د. أحمد القديدي
في الحقيقة لم يبتدع الرئيس ماكرون تلك الجدلية القديمة بل الأبدية التي انفردت بها فرنسا و المتمثلة في صراع قديم و دموي و مرير بين سلطة الملك و سلطة الكنيسة وهو صراع ورثته فرنسا عن الأمبراطورية الرومانية منذ اعتنق قيصر الروم (قسطنطين) الديانة المسيحية عام 312م و لقب نفسه بسيف السيد المسيح و يعرف المؤرخون كيف اضطهد هذا القيصر شعبه لإدخاله بالحديد و النار الى دين عيسى عليه السلام و مر التاريخ قرونا إلى أن وصلت أوروبا إلى عام 778م حين أعلن البابا (سيلفاستر) قيام ما سماه (مملكة المسيح) التي تجب ما قبلها و سعى أمبراطور فرنسا (شارلوماني) بعده إلى لبس الكسوة البابوية و كان ذلك في عهد هارون الرشيد الذي توسع في مرحلة خلافته العالم الإسلامي فنشأت في عهدهما “ثنائية قطبية” بلغة عصرنا لتكون الخلافة الإسلامية العباسية مقابل المملكة المسيحية الشارلومانية قوتين عظيمتين لا منازع لهما و ترتكزان معا على سلطة الديانتين و على مملكتين على رأسهما تاجان مرصعان بالأحجار الكريمة أو بالعمامة العباسية يمثل الأول الفرنسي كل الأمة المسيحية و يمثل الثاني كل الأمة الإسلامية (العصر العباسي) و يذكر التاريخ أن أمبراطور فرنسا و نصف أوروبا (شارلوماني) كان معجبا بالتقدم العلمي و الفكري للدولة العباسية من ذلك أن هارون الرشيد أهدى إلى نظيره الفرنسي أول ساعة من صنع الحرفيين البغداديين فاعتقد بلاط الأمبراطور حين سمعت الحاشية دقاتها أن خليفة المسلمين أهداهم ألة مسحورة!
وتمر القرون إلى سنة 1095م حين أصيبت الزراعات الأوروبية بأمراض نباتية قاتلة للمحصول فحدثت مجاعات و تأزمت الدول الأوروبية بسبب هيجان الشعوب و إعلان عصيانها فما كان من فرنسا إلا أن تفكر في حل هذه المعضلات بإرسال جيوش من “المتطوعين” إلى بيت المقدس بدعوى “تخليص أكفان السيد المسيح من أيادي الكفار” و الكفار كانوا هم المسلمين المسيطرين على الشرق الأوسط و درة التاج الروحي للأديان السماوية الثلاث (بيت المقدس).
وخطب البابا الفرنسي (يوربان الثاني) في جموع المسيحيين في كاتدرائية (كليرمون فيران) داعيا الأوروبيين إلى (الجهاد أي الحرب المقدسة) حيث بدأت الحملات الصليبية بتخريب القدس (1099) و احتلال ممالك إسلامية كانت مقسمة بين العرب و السلاجقة و لم تنته الحملات الصليبية الثمانية إلا عام 1271 مع مصرع ملك فرنسا في قرطاج بتونس وهو لويس التاسع الملقب بالقديس لويس!
ثم جاءت الحملات الإستعمارية لتكون الصدمة الثانية الأخطر بين الإسلام والنصارى وكانت المذابح الفظيعة ارتكبت ضد المسلمين وهي معروفة حيث استمرت إلى تحرير الجزائر والمغرب العربي عام 1962! ولعل أخرها أعوام 57 وما بعدها حين أرادت الحكومة الفرنسية تجريب قنبلتها الذرية ففجرتها في الصحراء الجزائرية مع جلب 48 مواطنا جزائريا مسلما ربطهم الجيش الاستعماري على أعمدة قريبا من موقع التفجير كفئران المخابر من أجل تحليل انعكاس الأشعة النووية على الإنسان!!!
وهذا لديهم لا يسمى إرهابا بل تجربة “علمية”! نعود إلى فرنسا التي حسمت ملف الصراع بين الكنيسة والسياسة عام 1905 بسن قانون الفصل بين الديني والدنيوي الذي كان وراءه (جول فيري شخصية سياسية متحمسة للإستعمار) لكن فرنسا ومعها المسلمون ظلوا يحتفظون في الذاكرة الجمعية بالتصادم الحضاري والديني والسياسي بين الغرب والإسلام و لم تمح من الذاكرتين تواريخ الحملات الصليبية و لا المظالم الإستعمارية و لا أيضا الحضور العسكري الراهن للقوات الفرنسية في عديد البلدان الإفريقية و لا مساندة الحكومات الفرنسية للدكتاتوريات العربية طيلة العقود الأخيرة فجاءت أحداث الرسوم الكاريكاتورية لتحرك اللهب الكامن تحت الرماد و فوجئت حكومة الرئيس ماكرون بتعاقب العمليات الإرهابية المدانة من قبل كل المسلمين لأن الإسلام هو الديانة الثانية في فرنسا بعد الكاثوليكية و يعيش في فرنسا حوالي 6 مليون مسلم و يتعرض كثير من شبابهم إلى ميز عنصري من طرف متعصبين يمينيين بسبب أسمائهم أو لون بشرتهم مع أنهم فرنسيون كغيرهم مما خلق مناخا من التوتر الاجتماعي غير المسبوق ترافقه تسابقات سياسوية غير شريفة نحو جلب أصوات اليمين المتطرف و أصيبت الطبقة السياسية برهاب من المسلمين تبرره جرائم قلة من الشباب الجاهل المغسولة عقولهم و المسلمون براء من جرائمهم.
الرئيس ماكرون في حديثه على قناة الجزيرة حاول تبرير موقفه وشرح عقيدة العلمانية الفرنسية إلا أن كثيرا من أصوات النخبة الفرنسية ورجال الكنيسة نددت بالإساءة للأديان باسم حرية التعبير! لأن هذا الخلط يشيع مناخ أزمة خطيرة وقطيعة إنسانية بين أفراد الشعب الفرنسي الواحد.