د.أحمد القديدي: الحروب الأهلية العربية.. أسبابها وخفاياها
1 min readد.أحمد القديدي
انعقد خلال الأسبوع الماضي (مؤتمر ميونخ) للأمن العالمي في دورته التاسعة والخمسين وكان منبرا لقادة دول الناتو تداولوا فيه على الخطابة ليستشرفوا مصير الحرب الروسية الأوكرانية و كان كل من الرئيس الفرنسي (ماكرون) و المستشار الألماني (شولتز) أقرب هؤلاء القادة الى الاتجاه للمستقبل يستجوبان أحداثه المتوقعة و يقدمان للمؤتمرين رؤيتهما الشخصية لما عساه يكون بعد عام أو خمسة أعوام أو عشرين عاما في القارة الأوروبية و تميزت مداخلات الرجلين بالوضوح لكن مع جرعة ارتباك من هول الحرب و خوف من المجهول. ومن جهتي كمتابع هاو للإستشرافات المستقبلية أستنير دائما بما أعثر عليه من بحوث عربية تتسم بالجدية و تتميز بالطابع الأكاديمي لأنها تمنع التخبط الإيديولوجي الذي هو داء العقل العربي و استفدت جدا هذه الأيام من قراءة كتاب جديد للزميل الدكتور وليد عبد الحي صدر بعنوان (دراسة مستقبلية للعلاقات الدولية: نماذج تطبيقية) وهو باحث أكاديمي متعمق في علمه يصل الى استنتاجات موضوعية في مجال العلاقات الدولية دون الوقوع في مطبات الانحياز الأيديولوجي الذي يحجب الحقائق!
واخترت في هذا المقال أن أستعرض لقرائي الكرام بحثا اشترك في كتابته خبراء عرب هم: ندى غانم و أحمد زكي و أحمد أبو بكر و محمد الحسين يحمل هذا العنوان (الحروب الأهلية العربية : قراءة استشرافية) يبدأ فيه الأساتذة المحترمون بالتأكيد على أن العالم العربي تظلله ثقافة جامعة (يقصدون طبعا اشتراك الأمة العربية في الدين و اللغة و جينات التاريخ و عدم التفكك الجغرافي) و يشيرون الى أهم عوامل التفرقة و الشقوق التي يتسلل منها أعداء الأمة لبث الفوضى و زعزعة تلك الوحدة فيكتبون: ” إلا أن العديد من بلدان العالم العربي لديها تعددية عرقية ودينية ومذهبية شكلت مبرراً للأنظمة الاستبدادية التي حكمت دولها بالقبضة الأمنية تحت حجة حماية الدولة من التفكك والانهيار وكذلك شكل ملف الأقليات مدخلا دائما للتدخلات الأجنبية والضغط السياسي (بدعوى حماية الأقليات و التي لم تشعر أنها أقليات إلا بعد أن نفخ الاستعمار فيها فوارق طبيعية تعايش أهلها مع الأغلبيات في أمن و احترام متبادل طيلة قرون) و يقدم الباحثون قراءة مختصرة لأسباب ونتائج بعض الحروب الاهلية في العالم العربي أولها في السودان وكذلك محاولة لاستشراف شبح الحرب الأهلية في سوريا.
ففيما يتعلق بالحرب الأهلية السودانية … شهد السودان حرباً أهلية ممتدة خلفت وراءها ما يقرب من المليونين قتيل وبلداً تمت تجزأته مؤخراً إلى دولتين تواجهان خطر الحرب الشاملة.
السبب الأول والأهم هو أن السودان بلد متعدد الأعراق والأديان وبعد انتشار الإسلام في شماله أصبح منقسما عرقيا ودينيا وجغرافيا إلى شمال فيه عرب مسلمون وجنوب به أفارقة مسيحيون وخليط من ديانات أخرى وتميز هذا البلد بالتنوع العرقي حيث تكون من حوالي 19 جماعة عرقية مختلفة وحوالى 600 جماعة عرقية فرعية. ورغم التعدد العرقي للجنوب إلا أنه توحد في مواجهة الشمال الذي يمثل الثقافة العربية الإسلامية حيث رأى الجنوبيون أنفسهم أفارقة بشرتهم سوداء تجمعهم المسيحية كوسيلة لمجابهة الإسلام “رغم عدم اعتناق كل الجنوبيين للمسيحية”. السبب الثاني اقتصادي فالسودان من أكثر الدول التي تعاني من غياب العدالة الاجتماعية في تقسيم الثروة فالجنوب يعانى من غياب الخدمات الأساسية والبنية التحتية مقارنة بالشمال الذى استحوذت حكوماته على الحكم وبالتالي على توزيع الثروات وكذلك فإن اكتشاف البترول في الجنوب فترة السبعينيات كان له أثر كبير على تأجج الصراع.
السبب الثالث هو الاستعمار ثم الاستقلال بدون توافق فقد عمل الاستعمار البريطاني على تسييس الخلافات الدينية والعرقية وفصل الشمال عن الجنوب وتم تشجيع نشر المسيحية ومنع أي مظاهر عربية أو إسلامية في الجنوب مع العلم أن الفصل (شبه العنصري و الإثني) من قبل الاستعمار البريطاني قام بسبب رؤية الجنوب كجزء من المستعمرات الإفريقية بينما الشمال هو جزء من الشرق الأوسط العربي وأيضاً بغاية خلق حاجز بين الشمال والجنوب يعمل على منع الانتشار الإسلامي والخوف من قيام حركات شعبية مقاومة للاحتلال كالثورة المهدية.
وتحقق الاستقلال عن بريطانيا في 1956 دون وجود ترتيبات مؤسسية كافية أو وجود توافق وطني بين الشمال والجنوب حول نظام الدولة حيث رأى الجنوبيون أن النظام الفيدرالي هو الحماية الوحيدة لهم من التبعية للشمال ورأى الشماليون أن الفيدرالية هي الخطوة الأولى نحو الانفصال وأن الحكم يجب أن يظل مركزيا. تجدر الإشارة أن نظام الحكم في السودان لم يشهد استقراراً منذ الاستقلال وذلك لتعدد قيام الانقلابات العسكرية مع غياب الديموقراطية الأمر الذي أدى إلى تفاقم الصراعات مع الجنوب وغياب صيغة مقبولة للتشارك في الحكم و كانت الحرب الأهلية الأولى 1955- 1972 حين بدأت شرارة الحرب بين الشمال والجنوب قبيل تحقيق الاستقلال من بريطانيا وفى ظل الخوف من عدم الحصول على حكم ذاتي بيد أن البداية الحقيقية للحرب الأهلية كانت في 1964 بعد اتباع الفريق ابراهيم عبود أول رئيس للسودان برنامجاً لأسلمة وتعريب الجنوب طبقا لاعتقاده أن توحيد السودانيين تحت هوية واحدة هو السبيل لتعزيز وحدة السودان وخلق هوية وطنية.
وحلل الباحثون من جهة ثانية ظاهرة تفكك الدولة السورية وشبح الحرب الأهلية حيث بات مصطلح “الحرب الأهلية” مصطلحاً مفتاحياً حال ذكر الثورة السورية مما يثير التساؤل حول ارتباط الحرب الأهلية بشعب سوري لم يعرفها قبلاً رغم تركيبته المتنوعة التي طالما اعتبرت مصدر ثراءٍ لا تناحر وسفك دماء.
وحاول الباحثون في سطور قليلة تسليط الضوء على الواقع السوري واحتمال نشوب حرب أهلية فيه وأسبابها وما قد يترتب عليها. يمثل فهم تركيبة النظام السوري مدخلاً هاماً لفهم الحالة السورية فقبل عام 1970 عانت سوريا من عدم الاستقرار كنتيجة لتكرار الانقلابات العسكرية منذ انقلاب حسني الزعيم 1949 والتي كان انقسام الجيش عاملاً أساسياً فيها علاوة على تناحر النخب السياسية إلا أنه وبوصول حافظ الأسد للسلطة في 1970 قام بتدعيم نظام حكمه عن طريق الاعتماد بشكل أساسي على تنظيم اعتبره أغلب السوريين (طائفيا) ففي حين تصل نسبة المسلمين السنة حوالي 70% إضافة لأقليات أخرى درزية وإسماعيلية علاوة على أقليات مسيحية تقدر بحوالي 10%، هذا على صعيد التنوع الطائفي أو المذهبي أما على الصعيد العرقي فيوجد في سوريا ما تتراوح نسبته بين (7 – 10)% من عوامل قد تدفع في هذا الاتجاه العامل الأول يتعلق بادعاءات النظام بأن الداعين للثورة عملاء مأجورون لبث الفتنة والحرب الأهلية في البلاد، وصولاً للاستخدام المفرط للعنف ضد المدنيين الأمر الذي قاد لانشقاقات في الجيش النظامي السوري وتكوين ما يسمى بـ “الجيش السوري الحر” الذي يتكون من الضباط المنشقين والمدنيين المسلحين هذا إلى جانب نحو 200 إلى 300 فصيل مسلح في المناطق المحلية الأمر الذي يجعل السلاح في يد الجميع مما يجعل نزع السلاح من أيدي الفصائل عملية عسيرة ويعيد للأذهان سيناريو الاقتتال الليبي وسلاح حزب الله.