4 يناير 2025

د‭.‬خالد‭ ‬شوكات: الانتقال الديمقراطي والسرديات المجروحة

1 min read

د‭.‬خالد‭ ‬شوكات

منح‭ ‬الانقلاب‭ ‬على‭ ‬مسار‭ ‬الانتقال‭ ‬الديمقراطي‭ ‬الذي‭ ‬نفذه‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬قيس‭ ‬سعيد‭ ‬يوم‭ ‬25‭ ‬جويلية‭/‬يوليو‭ ‬2021،‭ ‬فرصة‭ ‬لمراجعة‭ ‬العشرية‭ ‬الأولى‭ ‬لهذا‭ ‬المسار‭ ‬ونقدها‭ ‬ورسم‭ ‬الرؤية‭ ‬المستقبلية‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬إذ‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬لهذا‭ ‬الانقلاب‭ ‬أن‭ ‬يحدث‭ ‬لو‭ ‬لا‭ ‬مجموعة‭ ‬الأخطاء‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬ارتكبت‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬تحمل‭ ‬مسؤولية‭ ‬إدارة‭ ‬المسار،‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬الحاكم‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬المعارض،‭ ‬ففي‭ ‬السياقات‭ ‬الديمقراطية‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬المسؤولية‭ ‬تشاركية‭ ‬وتبعاتها‭ ‬مشتركة‭. ‬

إن‭ ‬الجهود‭ ‬المبذولة‭ ‬لاستعادة‭ ‬المسار‭ ‬الطبيعي‭ ‬للانتقال‭ ‬الديمقراطي،‭ ‬وايقاف‭ ‬التمشي‭ ‬الانقلابي،‭ ‬تشكل‭ ‬جزءا‭ ‬لا‭ ‬يتجزأ‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية‭ ‬المستقبلية‭ ‬المنشودة،‭ ‬ولهذا‭ ‬يستوجب‭ ‬الموقف‭ ‬تقييم‭ ‬هذه‭ ‬الجهود‭ ‬وتقويمها‭ ‬ان‭ ‬بدا‭ ‬عليها‭ ‬الانحراف،‭ ‬فاستعجال‭ ‬إيقاف‭ ‬الانقلاب‭ ‬أو‭ ‬اختزال‭ ‬المعركة‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الإيقاف‭ ‬قد‭ ‬يقود‭ ‬إلى‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬وضع‭ ‬مشابه‭ ‬لذلك‭ ‬الذي‭ ‬أفرزه‭ ‬وبرره‭ ‬وقاد‭ ‬إليه،‭ ‬لأن‭ ‬نفس‭ ‬الأسباب‭ ‬غالبا‭ ‬ما‭ ‬تقضي‭ ‬إلى‭ ‬ذات‭ ‬النتائج،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬أهمية‭ ‬كل‭ ‬عمل‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬هذا‭ ‬الالتزام‭ ‬النضالي‭ ‬الميداني‭ ‬الهادف‭ ‬إلى‭ ‬تعبئة‭ ‬القوى‭ ‬الديمقراطية‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬التصدي‭ ‬للانقلاب،‭ ‬والاجتهاد‭ ‬الفكري‭ ‬الرامي‭ ‬إلى‭ ‬بلورة‭ ‬مشروع‭ ‬حضاري‭ ‬وطني‭ ‬يضمن‭ ‬عدم‭ ‬تكرار‭ ‬الأخطاء‭ ‬وتوافقا‭ ‬على‭ ‬قواعد‭ ‬جديدة‭ ‬للعبة‭ ‬وعقلا‭ ‬سياسيا‭ ‬جمعيا‭ ‬يرتب‭ ‬الأولويات‭ ‬بشكل‭ ‬صحيح‭. ‬

تطمح‭ ‬هذه‭ ‬الورقة‭ ‬إلى‭ ‬مساعدة‭ ‬القوى‭ ‬المناهضة‭ ‬للانقلاب‭ ‬والمؤمنة‭ ‬بضرورة‭ ‬استئناف‭ ‬مسار‭ ‬الانتقال‭ ‬الديمقراطي‭ ‬على‭ ‬بناء‭ “‬سردية‭ ‬جديدة‭” ‬للاجتماع‭ ‬السياسي‭ ‬الوطني،‭ ‬تساعد‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬الهدفين‭ ‬الأساسيين‭ ‬المعلنين،‭ ‬أي‭ ‬كسر‭ ‬الانقلاب‭ ‬وهزيمته،‭ ‬و‭ ‬الحيلولة‭ ‬دون‭ ‬تكرار‭ ‬الأخطاء‭ ‬الكبرى‭ ‬المسجلة‭ ‬خلال‭ ‬العشرية‭ ‬الأولى‭ ‬مع‭ ‬توافق‭ ‬أغلبي‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬مشروع‭ ‬حضاري‭ ‬وطني‭ ‬جديد‭ ‬يحقق‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والتنمية‭ ‬معا‭. ‬

‭ -1 ‬الثورة‭ ‬والانتقال‭ ‬الديمقراطي‭:‬

لعل‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬المعضلات‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬واجتها‭ ‬الأطراف‭ ‬المعنية‭ ‬بالشأن‭ ‬الوطني‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬14‭ ‬جانفي‭/‬يناير‭ ‬2011،‭ ‬هي‭ ‬الاختلاط‭ ‬المفاهيمي‭ ‬واللبس‭ ‬الناتج‭ ‬عن‭ ‬الخلط‭ ‬بين‭ ‬مقاربتي‭ “‬الثورة‭” ‬و‭”‬الانتقال‭ ‬الديمقراطي‭”‬،‭ ‬أو‭ ‬بين‭ ‬المسارين‭ “‬الثوري‭” ‬و‭”‬الانتقالي‭”‬،‭ ‬وهو‭ ‬الخلط‭ ‬الذي‭ ‬سيتسبب‭ ‬في‭ ‬إرباكات‭ ‬كثيرة‭ ‬وأخطاء‭ ‬متعددة‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬العشرية،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬يدفع‭ ‬بعضهم‭ ‬إلى‭ ‬ترتيب‭ ‬أحكام‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ “‬ثوري‭” ‬على‭ ‬موضوع‭ ‬يتعلق‭ ‬ب‭”‬الانتقال‭ ‬الديمقراطي‭” ‬أو‭ ‬العكس‭ ‬حيث‭ ‬تصدر‭ ‬أحكام‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬ديمقراطي‭ ‬على‭ ‬قضايا‭ ‬وإشكاليات‭ ‬ثورية‭ ‬بامتياز‭. ‬

ومما‭ ‬يجدر‭ ‬الانتباه‭ ‬إليه‭ ‬والتوقف‭ ‬عنده‭ ‬مليا،‭ ‬أن‭ ‬الانقسام‭ ‬الفكري‭ ‬والسياسي‭ ‬انطلق‭ ‬منذ‭ ‬اللحظات‭ ‬الأولى‭ ‬لسقوط‭ ‬نظام‭ ‬الرئيس‭ ‬بن‭ ‬علي،‭ ‬بين‭ ‬من‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬ثورة‭ ‬مكتملة‭ ‬الأركان،‭ ‬وبين‭ ‬من‭ ‬يرها‭ ‬جيلا‭ ‬جديدا‭ ‬من‭ ‬الثورات‭ ‬اتسمت‭ ‬بها‭ ‬حقبة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬جدار‭ ‬برلين‭ ‬وانهيار‭ ‬المنظومة‭ ‬الشيوعية‭ ‬وسطوع‭ ‬فجر‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين،‭ ‬ومن‭ ‬يعتقد‭ ‬أنها‭ ‬انتفاضة‭ ‬أو‭ ‬هبة‭ ‬شعبية‭ ‬بلا‭ ‬برنامج‭ ‬محدد‭ ‬أو‭ ‬قيادة‭ ‬واضحة،‭ ‬وقد‭ ‬شكل‭ ‬هذا‭ ‬التباين‭ ‬في‭ ‬التشخصين‭ ‬مدخلا‭ ‬لانقسامات‭ ‬أخرى‭ ‬فرعية‭ ‬ومزايدات‭ ‬سياسية‭ ‬لم‭ ‬تنقطع‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬وتوجهات‭ ‬مختلفة‭ ‬لم‭ ‬يتمكن‭ ‬أصحابها‭ ‬من‭ ‬التوافق‭ ‬على‭ ‬أرضية‭ ‬مشتركة‭ ‬صلبة‭ ‬تتطلبها‭ ‬الحوكمة‭ ‬الجيدة‭ ‬للمسار‭ ‬المترتب‭ ‬عن‭ ‬الظاهرة‭ ‬أيا‭ ‬كان‭ ‬توصيفها‭ ‬أو‭ ‬تسميتها‭. ‬

وبهذا‭ ‬الصدد‭ ‬من‭ ‬الأهمية‭ ‬بمكان‭ ‬بيان‭ ‬بعض‭ ‬الفوارق‭ ‬الأساسية‭ ‬بين‭ ‬المقاربتين،‭ ‬أي‭ “‬الثورة‭” ‬و‭”‬الانتقال‭ ‬الديمقراطي‭”‬،‭ ‬فالثورة‭ ‬مسار‭ ‬عميق‭ ‬يتجاوز‭ ‬السياسي‭ ‬إلى‭ ‬الحضاري،‭ ‬أما‭ ‬الانتقال‭ ‬الديمقراطي‭ ‬فهو‭ “‬آلية‭ ‬للتغيير‭ ‬السياسي‭” ‬هدفها‭ ‬الاستعاضة‭ ‬عن‭ ‬نظام‭ ‬استبدادي‭ ‬أو‭ ‬تسلطي‭ ‬فردي‭ ‬بآخر‭ ‬ديمقراطي‭ ‬وتعددي،‭ ‬ولئن‭ ‬كانت‭ ‬الثورة‭ ‬معطا‭ ‬تاريخيا‭ ‬قديما،‭ ‬إذ‭ ‬الثورات‭ ‬مجال‭ ‬قرون‭ ‬من‭ ‬الزمان،‭ ‬فإن‭ ‬الانتقال‭ ‬الديمقراطي‭ ‬آلية‭ ‬تغيير‭ ‬معاصرة‭ ‬جاءت‭ ‬جراء‭ ‬خبرات‭ ‬تبلورت‭ ‬تدريجيا‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬واكتملت‭ ‬شروطها‭ ‬ومحدداتها‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬الحالي،‭ ‬وهي‭ ‬نتاج‭ ‬مقاربات‭ ‬عمل‭ ‬على‭ ‬تطويرها‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬العالمي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تجاربه‭ ‬المتعددة‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم،‭ ‬وساعدته‭ ‬عليه‭ ‬نخب‭ ‬الفكر‭ ‬العالمي‭ ‬الجديد‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى‭. ‬

ولئن‭ ‬كان‭ ‬المسار‭ ‬الثوري‭ ‬مسارا‭ ‬مفتوحا‭ ‬في‭ ‬الزمان،‭ ‬قد‭ ‬يقتضي‭ ‬التمكين‭ ‬له‭ ‬قرونا،‭ ‬باعتباره‭ ‬مسارا‭ ‬أعمق‭ ‬من‭ ‬مجرد‭ ‬تغيير‭ ‬سياسي،‭ ‬يطال‭ ‬المفاهيم‭ ‬والوسائل‭ ‬والمصالح،‭ ‬فإن‭ ‬مسار‭ ‬الانتقال‭ ‬الديمقراطي‭ ‬يفترض‭ ‬به‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬محدودا‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الزمنية،‭ ‬ولكنه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأحوال‭ ‬يقتضي‭ ‬عقودا‭ ‬أيضا،‭ ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬الثورة‭ ‬ترنو‭ ‬إلى‭ ‬انتصار‭ ‬الجديد‭ ‬على‭ ‬القديم‭ ‬باعتبارها‭ ‬قطيعة‭ ‬بالمعنى‭ ‬الشامل،‭ ‬فإن‭ ‬الانتقال‭ ‬الديمقراطي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬توافق‭ “‬الجديد‭” ‬مع‭ “‬القديم‭”‬،‭ ‬وتعاون‭ “‬الجديد‭” ‬مع‭ “‬القديم‭”‬،‭ ‬وتشارك‭ “‬الجديد‭” ‬مع‭ “‬القديم‭”‬،‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬الديمقراطي‭ ‬التعددي‭ ‬المنشود،‭ ‬ومن‭ ‬مظاهر‭ ‬الخلط‭ ‬هنا‭ ‬ذلك‭ ‬الانطباع‭ ‬السائد‭ ‬بأن‭ ‬مشروع‭ “‬الانتقال‭ ‬الديمقراطي‭” ‬هو‭ ‬مسؤولية‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬تسميته‭ ‬ب‭”‬المنظومة‭ ‬الجديدة‭” ‬التي‭ ‬ترمز‭ ‬إلى‭ ‬الثورة‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ “‬منظومة‭ ‬قديمة‭” ‬تمثل‭ “‬الثورة‭ ‬المضادة‭”‬،‭ ‬ففي‭ ‬جنوب‭ ‬أفريقيا‭ ‬مثلا‭ ‬تعاون‭ ‬مانديلا‭ ‬والمؤتمر‭ ‬الأفريقي‭ ‬مع‭ ‬ديكليرك‭ ‬وحزبه‭ ‬الأبيض‭ ‬لتفكيك‭ ‬نظام‭ ‬الأبارتهايد‭ ‬وإقامة‭ ‬النظام‭ ‬الديمقراطي،‭ ‬وفي‭ ‬تشيلي‭ ‬تعاونت‭ ‬القوى‭ ‬الديمقراطية‭ ‬مع‭ ‬نظام‭ ‬الديكتاتور‭ ‬بيونيشيه‭ ‬لدمقراطة‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬سنتياغو،‭ ‬وفي‭ ‬أوربا‭ ‬الشرقية‭ ‬والوسطى‭ ‬تعاونت‭ ‬الأحزاب‭ ‬الشيوعية‭ ‬التي‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ “‬ديمقراطية‭ ‬اشتراكية‭” ‬مع‭ ‬قوى‭ ‬التغيير‭ ‬المدني‭ ‬والديمقراطي‭ ‬لانجاح‭ ‬مسارات‭ ‬الانتقال‭ ‬نحو‭ ‬أنظمة‭ ‬ديمقراطية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تحقق‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬اليابان‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬وفي‭ ‬كوريا‭ ‬الجنوبية‭ ‬وسائر‭ ‬النمور‭ ‬الآسيوية‭ ‬منذ‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭. ‬

وعند‭ ‬أي‭ ‬حديث‭ ‬عن‭ ‬الانتقال‭ ‬الديمقراطي‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬التوقف‭ ‬عند‭ ‬أربعة‭ ‬مضامين‭ ‬أساسية‭ ‬هي‭ ‬بمثابة‭ ‬الشروط‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬الالتزام‭ ‬بتحقيقها‭ ‬لكي‭ ‬تستجيب‭ ‬آلية‭ ‬التغيير‭ ‬السياسي‭ ‬المعتمدة‭ ‬لهذا‭ ‬التوصيف‭:  – ‬أولا‭: ‬الانتقال‭ ‬السلمي‭ ‬للسلطة‭ ‬والتداول‭ ‬اللاحق‭ ‬عليها،‭ ‬فالمدنية‭ ‬والسلمية‭ ‬ميزتان‭ ‬رئيسيتان‭ ‬ليس‭ ‬بالمقدور‭ ‬الاستغناء‭ ‬عنها،‭ ‬ولهذا‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ “‬الطابع‭ ‬اللاعنفي‭” ‬هو‭ ‬الغالب‭ ‬في‭ ‬سيرة‭ ‬جل‭ ‬التجارب‭ ‬والخبرات‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال،‭ ‬خلافا‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬معروفا‭ ‬في‭ ‬سير‭ ‬آليات‭ ‬التغيير‭ ‬الأخرى‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬الثورات‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬والانقلابات‭ ‬العسكرية‭. ‬

‭-‬ثانيا‭: ‬العدالة‭ ‬الانتقالية،‭ ‬التي‭ ‬تتضمن‭ ‬بدورها‭ ‬ثلاثة‭ ‬شروط‭ ‬هي‭ ‬الحقيقة‭ (‬يسميها‭ ‬بعضهم‭ ‬المحاسبة‭ ‬أو‭ ‬يعتبرها‭ ‬وسيلة‭ ‬لتحقيقها‭) ‬والإنصاف‭ ‬أو‭ ‬جبر‭ ‬الضرر‭ ‬والمصالحة‭ ‬الوطنية‭ ‬الشاملة‭.‬

‭-‬ثالثا‭: ‬النظام‭ ‬الديمقراطي‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬التعددية‭ ‬الفكرية‭ ‬والسياسية‭ ‬والضامن‭ ‬للحريات‭ ‬وحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬والتمكين‭ ‬لمبدأ‭ ‬السيادة‭ ‬الشعبية‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ ‬الانتخابات‭ ‬النزيهة‭ ‬والشفافة،‭ ‬وليس‭ ‬هناك‭ ‬صيغة‭ ‬واحدة‭ ‬لهذا‭ ‬النظام‭ ‬أو‭ ‬شكل‭ ‬موحد،‭ ‬فكل‭ ‬بلد‭ ‬مطالب‭ ‬بتفصيل‭ ‬النظام‭ ‬الذي‭ ‬يناسبه‭ ‬مع‭ ‬احترام‭ ‬الضوابط‭ ‬المذكورة‭. ‬

رابعا‭: ‬التنمية‭ ‬الشاملة‭ ‬والمستدامة،‭ ‬فكل‭ ‬ديمقراطية‭ ‬لا‭ ‬تنتج‭ ‬تنمية‭ ‬تطال‭ ‬جميع‭ ‬مواطنيها‭ ‬ومناطقها‭ ‬ولا‭ ‬تحترم‭ ‬البيئة‭ ‬وتحفظ‭ ‬حقوق‭ ‬الأجيال‭ ‬القادمة،‭ ‬هي‭ ‬ديمقراطية‭ ‬منقوصة‭ ‬وعرجاء‭ ‬وغير‭ ‬مقنعة‭. ‬

‭ ‬وتجدر‭ ‬الإشارة‭ ‬أخيرا،‭ ‬إلى‭ ‬ضرورة‭ ‬إيلاء‭ ‬الخصوصيات‭ ‬الثقافية‭ ‬والسياقات‭ ‬التاريخية‭ ‬وخصائص‭ ‬الشخصية‭ ‬الوطنية‭ ‬الأهمية‭ ‬التي‭ ‬تستحق،‭ ‬حتى‭ ‬يتجنب‭ ‬كل‭ ‬إسقاط‭ ‬مفاهيمي‭ ‬وتعسف‭ ‬ايديولوجي،‭ ‬في‭ ‬تحليل‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬المسارين‭ ‬الثوري‭ ‬والانتقالي،‭ ‬فلكل‭ ‬قاعدة‭ ‬استثناء،‭ ‬كما‭ ‬يحق‭ ‬للشعوب‭ ‬أن‭ ‬تنحت‭ ‬معالم‭ ‬تجاربها‭ ‬التاريخية‭ ‬الخاصة‭.   

‭ – 2 ‬سرديات‭ ‬العمل‭ ‬السياسي‭ ‬خلال‭ ‬العشرية‭:‬

خلال‭ ‬عشرية‭ ‬الانتقال‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬من‭ ‬14‭ ‬جانفي‭ ‬2011‭ ‬إلى‭ ‬غاية‭ ‬25‭ ‬جويلية‭ ‬2021،‭ ‬تبلورت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ “‬السرديات‭” ‬أو‭ “‬الروايات‭ ‬الفكرية‭ ‬والسياسية‭” ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مسؤولة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭ ‬عن‭ ‬إنتاج‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬السلوكيات‭ ‬والمواقف‭ ‬والظواهر‭ ‬والسير‭ ‬السياسية‭ ‬والحزبية،‭ ‬وكانت‭ ‬كذلك‭ ‬سببا‭ ‬في‭ ‬جل‭ ‬المشاكل‭ ‬والإخفاقات‭ ‬والإرباكات‭ ‬التي‭ ‬هددت‭ ‬بوقف‭ ‬المسار‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬لحظة‭ ‬فارقة،‭ ‬وانتهت‭ ‬بالمعنى‭ “‬التراكمي‭” ‬إلى‭ ‬التمهيد‭ ‬لهذا‭ ‬الانقلاب‭ ‬الذي‭ ‬ارتبط‭ ‬بدوره‭ ‬بإحدى‭ ‬هذه‭ ‬السرديات،‭ ‬وكان‭ ‬دالا‭ ‬على‭ ‬تهافتها‭ ‬جميعا،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬سرديته،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬إيجازه‭ ‬كما‭ ‬يلي‭: ‬

‭- ‬أولا‭: ‬سردية‭ ‬الثورة‭: ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تنطلق‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الانتفاضة‭ ‬الشعبية‭ ‬التي‭ ‬استجدت‭ ‬بين‭ ‬17‭ ‬ديسمبر‭ ‬2010‭ ‬و14‭ ‬جانفي‭ ‬2011،‭ ‬هي‭ ‬ثورة‭ ‬حقيقية‭ ‬مكتملة‭ ‬الأركان‭ ‬وإن‭ ‬افتقدت‭ ‬إلى‭ ‬قيادة‭ ‬وبرنامج‭ ‬محدد‭ ‬ومرجعية‭ ‬ايديولوجية‭ ‬معينة،‭ ‬وهي‭ ‬ثورة‭ ‬الحرية‭ ‬والكرامة،‭ ‬مضمونها‭ ‬يعبر‭ ‬عنه‭ ‬شعار‭ “‬شغل،‭ ‬حرية،‭ ‬كرامة‭ ‬وطنية‭”‬،‭ ‬وأن‭ ‬هذه‭ ‬الثورة‭ ‬قد‭ ‬جعلت‭ ‬النخب‭ ‬نوعين‭: “‬ثورة‭” ‬تعبر‭ ‬عنها‭ ‬القوى‭ ‬السياسية‭ ‬الجديدة‭ ‬ممثلة‭ ‬في‭ ‬غالبيتها‭ ‬في‭ ‬الأحزاب‭ ‬والتيارات‭ ‬المعارضة‭ ‬للنظام‭ ‬السابق‭ ‬بزمنيه‭ ‬البورقيبي‭ ‬والنوفمبري،‭ ‬و‭”‬ثورة‭ ‬مضادة‭” ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬ب‭”‬المنظومة‭ ‬القديمة‭” ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬في‭ ‬فلك‭ ‬الحزب‭ ‬الحاكم‭ ‬السابق‭ ‬وتوابعه،‭ ‬وأن‭ ‬مسار‭ ‬الانتقال‭ ‬الديمقراطي‭ ‬ليس‭ ‬سوى‭ ‬مناط‭ ‬صراع‭ ‬بين‭ ‬المنظومتين‭ ‬الجديدة‭ ‬والقديمة،‭ ‬وأنه‭ ‬أطوار‭ ‬متقلبة‭ ‬ومراحل‭ ‬متعددة‭ ‬بين‭ ‬الطرفين‭ ‬المتصارعين،‭ ‬مع‭ ‬اعتماد‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬على‭ ‬مساندين‭ ‬وداعمين‭ ‬في‭ ‬المحيطين‭ ‬الاقليمي‭ ‬والدولي‭. ‬ولكن‭ ‬الانقلاب‭ ‬أثبت‭ ‬التهافت‭ ‬النسبي‭ ‬لهذه‭ ‬السردية،‭ ‬حيث‭ ‬ناصر‭ ‬الكثير‭ ‬ممن‭ ‬كانوا‭ ‬يحسبون‭ ‬على‭ ‬المنظومة‭ ‬الجديدة‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬التيار‭ ‬الثوري‭ ‬الانقلاب،‭ ‬بل‭ ‬لعل‭ ‬بعض‭ ‬كان‭ ‬داعيا‭ ‬له‭ ‬ومنظرا‭ ‬لحصوله‭ ‬ومدافعا‭ ‬عن‭ ‬منفذه‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬بدوره‭ ‬يعتبر‭ ‬نفسه‭ “‬أحد‭ ‬كبار‭ ‬الثوار‭” ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ “‬الثائر‭ ‬الصادق‭ ‬الوحيد‭”‬،‭ ‬وبالمقابل‭ ‬أظهرت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الشخصيات‭ ‬المحسوبة‭ ‬على‭ “‬المنظومة‭ ‬القديمة‭” ‬اعتراضها‭ ‬الشديد‭ ‬على‭ ‬الانقلاب‭ ‬وتمسكها‭ ‬بالمسار‭ ‬الانتقالي‭ ‬الديمقراطي‭ ‬وانخراطها‭ ‬في‭ ‬مبادرات‭ ‬مناهضته‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬إيقافه‭ ‬والتعاون‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إبطال‭ ‬مفعوله‭ ‬في‭ ‬أسرع‭ ‬وقت‭.‬

‭- ‬ثانيا‭: ‬سردية‭ ‬الدولة‭: ‬وهي‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تبنتها‭ “‬الحركة‭ ‬الفاشية‭” ‬التي‭ ‬صورت‭ ‬الثورة‭ ‬باعتبارها‭ ‬مؤامرة‭ ‬خارجية‭ ‬على‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬التونسية،‭ ‬برعاية‭ “‬أمريكية‭ ‬غربية‭” ‬وتنفيذ‭ ‬من‭ “‬الحركة‭ ‬الإسلامية‭ ‬وتوابعها‭”‬،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬المشهد‭ ‬منقسما‭ ‬بين‭ “‬الوطنيين‭” ‬و‭”‬الخونة‭”‬،‭ ‬وأن‭ ‬الصراع‭ ‬يقتضي‭ ‬تكتل‭ ‬هؤلاء‭ ‬الوطنيين‭ ‬في‭ ‬جبهة‭ ‬متماسكة‭ ‬بقيادة‭ ‬فردية‭ ‬خالصة‭ ‬لإنقاذ‭ ‬الدولة‭ ‬والوطن‭ ‬وتفكيك‭ ‬المؤامرة‭ ‬واستعادة‭ ‬تونس‭ ‬ممن‭ ‬اختطفها‭. ‬وقد‭ ‬كشف‭ ‬الانقلاب‭ ‬على‭ ‬مسار‭ ‬الانتقال‭ ‬الديمقراطي‭ ‬أيضا‭ ‬مدى‭ ‬هشاشة‭ ‬وهزال‭ ‬هذه‭ ‬السردية،‭ ‬حيث‭ ‬بدا‭ ‬المشروع‭ ‬السياسي‭ ‬المرتبط‭ ‬بها‭ ‬مجرد‭ ‬آلية‭ ‬تتداخل‭ ‬في‭ ‬تحريكها‭ ‬أطراف‭ ‬داخلية‭ ‬وخارجية،‭ ‬تتناقض‭ ‬مصالحها‭ ‬مع‭ ‬نجاح‭ ‬التجربة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬الواعدة،‭ ‬وقد‭ ‬وجدت‭ ‬في‭ “‬الفاشية‭” ‬التي‭ ‬تزعم‭ ‬الانتصار‭ ‬للوطن‭ ‬والدولة‭ ‬عصبية‭ ‬صالحة‭ ‬لإضعافهما‭ ‬معا‭. ‬

‭- ‬ثالثا‭: ‬سردية‭ ‬الفساد‭: ‬وهي‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تتبناها‭ “‬النزعة‭ ‬الطهورية‭” ‬التي‭ ‬صورت‭ ‬الواقع‭ ‬بعد‭ ‬الثورة‭ ‬باعتباره‭ ‬مجالا‭ ‬للصراع‭ ‬بين‭ “‬الفاسدين‭” ‬و‭”‬الطاهرين‭”‬،‭ ‬وأن‭ “‬الفساد‭” ‬ظاهرة‭ ‬سياسية‭ ‬واقتصادية‭ ‬واجتماعية‭ ‬بلغت‭ ‬مداها،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬تجد‭ ‬أثرا‭ ‬له‭ ‬تحت‭ ‬كل‭ ‬حجر‭ ‬وعند‭ ‬كل‭ ‬زاوية،‭ ‬وفي‭ ‬مجتمع‭ “‬ريعي‭” ‬يميل‭ ‬إلى‭ ‬الكسب‭ ‬السهل‭ ‬وتراجعت‭ ‬بين‭ ‬أبنائه‭ ‬قيمة‭ “‬العمل‭” ‬والسعي‭ ‬إلى‭ ‬خلق‭ “‬الثروة‭”‬،‭ ‬وفي‭ ‬سياق‭ ‬فرضت‭ ‬فيه‭ ‬أجندات‭ ‬خارجية‭ ‬عبر‭ ‬مجتمع‭ ‬مدني‭ ‬وظيفي‭ ‬هش‭ ‬إسقاطات‭ ‬مستوردة،‭ ‬وجد‭ ‬خطاب‭ ‬مكافحة‭ ‬الفساد‭ ‬والفاسدين‭ ‬هوى‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬المواطنين،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬ساعد‭ ‬على‭ ‬ترتيب‭ ‬الأولويات‭ ‬السياسية‭ ‬الوطنية‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬خاطئ،‭ ‬حتى‭ ‬اضطرت‭ ‬جل‭ ‬القوى‭ ‬السياسية،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوسطية‭ ‬والمعتدلة،‭ ‬إلى‭ ‬مجاراة‭ ‬الخطاب‭ ‬الطهوري‭ ‬،‭ ‬وأوقع‭ ‬البلاد‭ ‬في‭ ‬شرور‭ ‬كبيرة،‭ ‬برزت‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬نتائج‭ ‬الانتخابات‭ ‬التشريعية‭ ‬والرئاسية‭ ‬لسنة‭ ‬2019،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مقدمة‭ ‬للانقلاب‭. ‬ولكل‭ ‬متفحص‭ ‬في‭ ‬الأرقام،‭ ‬سيجد‭ ‬أن‭ ‬الفساد‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬معضلة‭ ‬فعلا،‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يتقدم‭ ‬على‭ ‬أولويات‭ ‬أخرى‭ ‬ذات‭ ‬أهمية‭ ‬أكبر‭ ‬في‭ ‬ضمان‭ ‬تدفق‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والتنمية‭ ‬معا،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬تونس‭ ‬مثلا‭ ‬هي‭ ‬البلد‭ ‬الأقل‭ ‬فسادا‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬المغاربية،‭ ‬وواحدة‭ ‬من‭ ‬أفضل‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬ترتيبا‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬مكافحة‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭.‬

‭- ‬رابعا‭: ‬سردية‭ ‬الانقلاب‭: ‬وهي‭ ‬سردية‭ ‬مزيج‭ ‬من‭ ‬السرديات‭ ‬الآنفة‭ ‬الماضية،‭ ‬فصاحب‭ ‬الانقلاب‭ ‬لطالما‭ ‬ادعى‭ ‬أنه‭ ‬يمثل‭ ‬الرؤية‭ ‬الثورية‭ ‬النقية،‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬مخططات‭ ‬أهل‭ ‬الثورة‭ ‬المضادة‭ ‬ممن‭ ‬أحلوا‭ ‬14‭ ‬جانفي‭ ‬مكان‭ ‬17‭ ‬ديسمبر،‭ ‬وصادروا‭ ‬المشروع‭ ‬الثوري‭ ‬الحقيقي‭ ‬الممثل‭ ‬في‭ ‬شعار‭ “‬الشعب‭ ‬يريد‭”‬،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬كونه‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬يقود‭ ‬الحرب‭ ‬ضد‭ ‬أعداء‭ ‬الدولة‭ ‬والمتآمرين‭ ‬عليها‭ ‬ممن‭ ‬عملوا‭ ‬على‭ ‬اختطافها‭ ‬من‭ ‬الداخل‭ ‬وتخريب‭ ‬مؤسساتها‭..‬إلخ،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬زعمه‭ ‬أنه‭ “‬أطهر‭ ‬الطاهرين‭” ‬وأن‭ ‬مشروعه‭ ‬استعادة‭ ‬أموال‭ ‬الشعب‭ ‬المنهوبة‭ ‬وإعادتها‭ ‬إليه‭..‬ألخ‭. ‬وقد‭ ‬تبين‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الانقلاب‭ ‬وما‭ ‬يليه،‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬لا‭ ‬يتجاوز‭ ‬هلوسات‭ ‬وشقشقة‭ ‬لفظية‭ ‬وأوهام‭ ‬غير‭ ‬قابلة‭ ‬للتنفيذ‭ ‬ومجرد‭ ‬دعاية‭ ‬شعبوية‭ ‬رثة‭. ‬

إن‭ ‬حقيقة‭ ‬مسار‭ ‬الانتقال‭ ‬الديمقراطي‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬رأيي‭ ‬خارج‭ ‬دوائر‭ ‬هذه‭ ‬السرديات‭ ‬المتهافتة‭. ‬

3- ‬ملامح‭ ‬سردية‭ ‬جديدة    

كانت‭ ‬الثورة‭ ‬التونسية‭ ‬حدثا‭ ‬مفاجئا‭ ‬للنخب،‭ ‬خصوصا‭ ‬نخب‭ ‬المجالات‭ ‬الثلاثة‭ ‬المعنية‭ ‬بإنجاح‭ ‬مسار‭ ‬الانتقال‭ ‬الديمقراطي،‭ ‬أي‭ ‬الأحزاب‭ ‬السياسية‭ ‬ووسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬ومنظمات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني،‭ ‬ففي‭ ‬مستوى‭ ‬الأحزاب‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬يفترض‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬ضمان‭ ‬جودة‭ ‬التوافقات‭ ‬والانتخابات‭ ‬وسائر‭ ‬المؤسسات‭ ‬الضرورية،‭ ‬كانت‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ “‬مشاريع‭ ‬أحزاب‭” ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬أحزاب‭ ‬حقيقية‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬صناعة‭ ‬القادة‭ ‬وتأطير‭ ‬الكفاءات‭ ‬وبناء‭ ‬برامج‭ ‬التنمية‭ ‬والتزام‭ ‬القواعد‭ ‬الأخلاقية‭ ‬في‭ ‬تسيير‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية،‭ ‬وفي‭ ‬مستوى‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬هيمنت‭ “‬الإثارة‭” ‬على‭ “‬الحقيقة‭” ‬و‭”‬الابتذال‭” ‬على‭ “‬الجدية‭” ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬النوعية‭ ‬من‭ ‬الوسائل‭ ‬الإعلامية‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬أسباب‭ ‬ترذيل‭ ‬المشروع‭ ‬الديمقراطي‭ ‬والعمل‭ ‬السياسي،‭ ‬أما‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬منظمات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬فقد‭ ‬طغت‭ “‬الوظيفية‭” ‬على‭ “‬النضالية‭” ‬و‭”‬التبعية‭” ‬على‭ “‬الاستقلالية‭” ‬ممن‭ ‬دفع‭ ‬إلى‭ ‬انخراط‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬هذه‭ ‬المنظمات‭ ‬في‭ ‬اسقاط‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬الواعدة‭ ‬بوعي‭ ‬منها‭ ‬أو‭ ‬دون‭ ‬وعي،‭ ‬فيما‭ ‬هي‭ ‬أكبر‭ ‬المستفيدين‭ ‬منها‭. ‬

لكن‭ ‬في‭ ‬قالب‭ ‬كل‭ “‬محنة‭” “‬منحة‭” ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬المثل‭ ‬العربي،‭ ‬فلأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬التونسية‭ ‬المستقلة،‭ ‬يشهد‭ ‬الاجتماع‭ ‬السياسي‭ ‬انقاسا‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ “‬الديمقراطية‭”‬،‭ ‬حيث‭ ‬يحدث‭ ‬الفرز‭ ‬بين‭ ‬القوى‭ ‬السياسية‭ ‬والمدنية‭ ‬على‭ ‬أساس‭ “‬الموقف‭ ‬من‭ ‬الانقلاب‭”‬،‭ ‬وتظهر‭ ‬ميادين‭ ‬النضال‭ ‬الميداني‭ ‬هذا‭ ‬الفرز‭ ‬بين‭ ‬المتشبثين‭ ‬بالخيار‭ ‬الديمقراطية‭ ‬وشرعية‭ ‬المؤسسات‭ ‬المنتخبة‭ ‬ودستور‭ ‬الجمهورية‭ ‬الثانية‭ ‬لسنة‭ ‬2014،‭ ‬وبين‭ ‬المساندين‭ ‬للانقلاب‭ ‬والمسايرين‭ ‬له‭ ‬والمستعدين‭ ‬للمساومة‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬الديمقراطي‭ ‬وقبول‭ ‬نظام‭ ‬سياسي‭ ‬استبدادي‭ ‬أو‭ ‬تسلطي‭ ‬فردي‭ ‬أو‭ ‬هجين‭ ‬من‭ ‬جديد‭. ‬

وتدفع‭ ‬سياقات‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الانقلاب‭ ‬السياسية‭ ‬والفكرية‭ ‬والحزبية‭ ‬والمدنية‭ ‬وغيرها،‭ ‬إلى‭ ‬إبراز‭ ‬ملامح‭ ‬سردية‭ ‬جديدة،‭ ‬يمكن‭ ‬تسميتها‭ ‬ب‭”‬السردية‭ ‬الديمقراطية‭” ‬الجامعة‭ ‬والمعبئة‭ ‬لأكبر‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬القوى‭ ‬المدنية‭ ‬والسياسية‭ ‬المؤمنة‭ ‬بما‭ ‬يلي‭: ‬

‭- ‬مناهضة‭ ‬الانقلاب‭ ‬باعتباره‭ ‬جريمة‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬الوطن‭ ‬والدولة‭ ‬والنظام‭ ‬الديمقراطي،‭ ‬وخيانة‭ ‬لدماء‭ ‬الشهداء‭ ‬عبر‭ ‬جميع‭ ‬معارك‭ ‬تونس‭ ‬الكبرى‭ ‬وثوراتها‭ ‬خالدة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحرية‭ ‬والاستقلال‭ ‬والعدالة‭ ‬وحقوق‭ ‬الانسان،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬كونه‭ ‬ضربا‭ ‬فاضحا‭ ‬وصارخا‭ ‬للمنظومة‭ ‬الأخلاقية‭ ‬ومصالح‭ ‬البلاد‭ ‬العليا‭ ‬وسمعتها‭ ‬الدولية‭ ‬واشعاعها‭ ‬الحضاري‭. ‬

‭- ‬إن‭ ‬الديمقراطية‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬كونها‭ ‬ضرورة‭ ‬دستورية‭ ‬وقانونية‭ ‬وسياسية،‭ ‬فهي‭ ‬ضرورة‭ ‬تنموية‭ ‬إذ‭ ‬قد‭ ‬تحقق‭ ‬بقية‭ ‬الانظمة‭ ‬تنمية‭ ‬ما،‭ ‬لكن‭ ‬النظام‭ ‬الديمقراطي‭ ‬وحده‭ ‬القادر‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬تنمية‭ ‬شاملة‭ ‬ومستدامة‭ ‬ومقنعة‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬الحرية‭ ‬والكرامة‭. ‬

‭- ‬إن‭ ‬استدامة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬تقتضي‭ ‬ناهيك‭ ‬عن‭ ‬النضال‭ ‬السياسي‭ ‬المخلص‭ ‬والمستمر‭ ‬ثورة‭ ‬ثقافية‭ ‬وفكرية‭ ‬وحضارية‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬وأن‭ ‬تعمل‭ ‬الدولة‭ ‬على‭ ‬توفير‭ ‬مقومات‭ ‬انجازها،‭ ‬بالشراكة‭ ‬مع‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬وسائر‭ ‬المؤسسات‭ ‬المعنية،‭ ‬خصوصا‭ ‬منها‭ ‬التربوية‭ ‬والإعلامية‭. ‬

‭- ‬لقد‭ ‬بينت‭ ‬الأزمة‭ ‬أن‭ ‬معركة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬معركة‭ ‬وطنية‭ ‬فحسب،‭ ‬إذ‭ ‬على‭ ‬الديمقراطيين‭ ‬التونسيين‭ ‬خوضها‭ ‬بأفق‭ ‬إقليمي‭ ‬ودولي،‭ ‬حيث‭ ‬بينت‭ ‬وقائع‭ ‬الانقلاب‭ ‬أن‭ ‬انكفاء‭ ‬تونس‭ ‬الديمقراطية‭ ‬على‭ ‬نفسها‭ ‬شجع‭ ‬قوى‭ ‬الاستبداد‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬على‭ ‬النيل‭ ‬منها،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬ضرورة‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬تونس‭ ‬قلعة‭ ‬تبشير‭ ‬بالديمقراطية‭ ‬وقاعدة‭ ‬للحركة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والمدنية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬خاصة،‭ ‬وبقية‭ ‬الدوائر‭ ‬المعنية‭ ‬عامة،‭ ‬وأن‭ ‬ترسم‭ ‬سياستها‭ ‬الخارجية‭ ‬وخططها‭ ‬الديبلوماسية‭ ‬ضمن‭ ‬هذا‭ ‬الأفق‭. ‬

‭- ‬وأخيرا،‭ ‬فقد‭ ‬تبين‭ ‬أن‭ ‬المعركة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الديمقراطية‭ ‬هي‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬معركة‭ ‬أكبر‭ ‬هي‭ ‬معركة‭ “‬استكمال‭ ‬الاستقلال‭” ‬وأن‭ ‬القوى‭ ‬الاستعمارية‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬تمانع‭ ‬في‭ ‬تحول‭ ‬مستعمراتها‭ ‬السابقة‭ ‬إلى‭ ‬النظام‭ ‬الديمقراطي،‭ ‬وأنها‭ ‬متمسكة‭ ‬ب‭”‬نظام‭ ‬الوكيل‭” ‬الحارس‭ ‬لمصالحها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يمنح‭ ‬المعركة‭ ‬بعدا‭ ‬وطنيا‭ ‬وحضاريا‭ ‬أعمق‭.  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Copyright © All rights reserved. | Newsphere by AF themes.