بن علي..بعيدا عن النوستالجيا والحقد الأعمى
1 min readبقلم: خالد شوكات
ما زلت اتذكر ذلك اليوم الذي قلت فيه خلال برنامج حواري على اذاعة IFM في شهر مارس 2016، عندما سئلت عن موقفي من الرئيس زين العابدين بن علي، “فرّج الله كربه ورد غربته، ذلك انني لا احترم الامم التي لا تحفظ كرامة زعمائها”. لقد تسبب ذلك التصريح في ما يشبه الزلزال على مستوى الرأي العام، اذ كيف يجرؤ وزير وناطق رسمي باسم حكومة ما بعد الثورة للإدلاء بتصريح كهذا. اشتعلت وسائل الاعلام في الداخل والخارج، واشتغلت الجماعات الفايسبوكية صباحا مساء، غالبيتها العظمى تستبيح عرضي وتشنِع بي، وبعض الكرونيكورات طالب باقالتي واعتبر قولي جريمة في حق الثورة التي جعلتني في ذاك الموقع الذي لم احلم به ولا استحقه حسب زعمه، واحد المواطنين اعترضني في محطة وقود وسألني عن الموعد الذي سأتقدم فيه باعتذاري للشعب الذي قمت بإهانته.
بعض زملائي في الحكومة حينها، وعدد من بينهم كان تجمعيا مسؤولا في حزب الرئيس بن علي، كان يتحاشى تلك الأيام مجالستي او الوقوف الى جانبي، ووحده رئيس الحكومة الحبيب الصيد وقف الى جانبي، بعد ان ارسلت له رسالة قدمت له خلالها استعدادي للاستقالة تحملا لمسؤوليتي كاملة، فكانت إجابته :” وماذا عساك قلت يا خالد، لو كفرت لوجدت من يقول ان هذا يدخل في خانة حرية المعتقد والضمير، ثم ان العفو من شيم الرجال وسلوك أبناء العائلات”.
مرّت العاصفة، ولم أكن اعلم انه خلال سنتين او ثلاث فقط من ذلك التصريح، سينقلب الحال تماما، لصالح الرئيس بن علي طبعا، واصبح من لا يجرؤ على مجرد ذكر اسمه في المجالس الخاصة، يمجّد عهده ويتبنى مشروع النوستالجيا السياسية المتصل به، في ضرورة العودة بنظام الحكم الى ما كان عليه الحال في زمانه.
وما لا اريد ان أنساه بهذه المناسبة، مناسبة مرور سنة على وفاته رحمه الله، ان الرئيس بن علي كان الوحيد ممن يفترض ان التصريح اياه يعنيهم، اتصل بي شاكرا وطلب منّيَ ان جئت السعودية حاجا او معتمرا، ان أزوره، ولم تتح الفرصة للاسف لأفعل. قال لي الرئيس بن علي في تلك المكالمة انه يعرف مواقفي الوطنية منذ زمن المعارضة وانه لم يستغرب ابدا صدور هذا التصريح منّيَ، مرددا على مسامعي “الشيء من مأتاه لا يستغرب”.
والحقيقة ان موقفي الذي اثار تلك الضجة المبكّرة، كان منسجما تماما مع مواقفي السابقة، سواء ايام المعارضة قبل الثورة، او مباشرة بعدها وحتى تهيأت لي فرصة المشاركة في الحكم لفترة قصيرة، والنزهاء الذين يعرفونني وليست لديهم غاية في النيل منّي لدوافع شخصية، يشهدون بالأمر، فقد كان خلافي الاساسي عندما كنت معارضا لنظام الرئيس بن علي، مع رفاقي واخواني المعارضين، انني لم اقتنع بالنظرية الكلاسيكية التي كان المعارضون الراديكاليون يرفعون شعاراتها، ويصورون عبرها صراعهم مع بن علي ونظامه، صراعا بين الحق والباطل، او صراع ملائكة وشياطين، ذلك ان العقل السياسي النسبي الذي اصبح صانعا لمواقفي وآرائي بعد مراجعات أوائل تسعينيات القرن الماضي، لم يجعلني قادرًا على رؤية نفسي او من هم مثلي ملائكة اصحاب حق مطلق ولا ان يجعل في ذهني بن علي واصحابه شياطين على ضلال مبين، وقد ثبت صحة هذا التقدير تماما بعد الثورة، وبعد ان مرت موجة الغضب تبين ان المعارضين السابقين ليسوا ملائكة فعلاً، وان بن علي وازلامه لم يكونوا بالمرة شياطين.
لقد كنت من قلة قليلة من طلبة الاتجاه الاسلامي المنفيين، عبرتْ صراحة عن اعتراضها المبكر على المواجهة غير العادلة بين نظام الرئيس بن علي والإسلاميين. لقد كانت مواجهة ضد المصلحة الوطنية وضد الأطراف التي انخرطت فيها. كانت مأساة حقيقية للاسلاميين وعائلاتهم، قبل ان تتحول المأساة وما تزال لتطال بن علي نفسه واصحابه وعائلاتهم، ولهذا لما عبرت عن تعاطفي في بداية 2016 مع الرئيس بن علي، كان تعاطف الخبير بالمآسي الانسانية جراء هذه المعركة السياسية الخاطئة ورغبة منّي في المساهمة في إنهاء المأساة المهزلة او التخفيف من اثارها على الاقل.
وانا اعارضه، كنت احاول دائما ان اكون موضوعيا (لا ذاتيا في تقييمه)، وكنت أجاهد نفسي حتى لا اجعل لمعاناة عائلتي ووالدي ووالدتي وإخوتي، الذين قاسوا لسنوات عذاب الملاحقة الأمنية والتضييق الاقتصادي والحرمان من حقوق المواطنة، تأثيرا على حكمي عليه وعلى نظامه. كنت استحضر تاريخ الحكم العربي الاسلامي البعيد والقريب، وكانت قناعتي انه كان اقرب الى الحاكم الصالح بمنطوق الاحكام السلطانية للماوردي، خصوصا وانني على قناعة بان بدائله لن يكونوا افضل اداءًا منه حتى لو زعموا أسمى انواع الطهورية، فالحكم ليس إرادة ذاتية فحسب وإنما تحكمه سياقات تاريخية وثقافية ومصالح اقتصادية واجتماعية لا يمكن تهميشها، وهو ما تجلى للعقلاء اكثر بعد الثورة، ولم يكن لديهم مشكل في نقد انفسهم واعلان مراجعاتهم.
لقد بدأتُ المعارضة مبكرا، اخذتها عن والدي اطال الله عمره منذ زمن بورقيبة، ولم يكن زين العابدين في نظري البديل المناسب للزعيم بورقيبة. كنت اميل دائما الى شخصيات من قبيل محمد مزالي واحمد بن صالح واحمد المستيري والباجي قائد السبسي لخلافة بورقيبة، وما كان واردا في ذهني ان يتولى جنرال أتى من بعيد جدا زمام الامور بعد رجل في قيمة المجاهد الاكبر وقامته المديدة، لكنّهُ أتى وتلك إرادة الله السارية عاى موضوع الحكم وغيره، فهذا الحكم لا تضبطه قواعد الرياضيات حتى يكون منطقيا في من يتولون قيادة البلدان والشعوب، بل ان اغلب الحكام جاءت بهم الصدف المحضة، لكن حكم بن علي وان كان في جزء منه انعكاس لشخصيته العسكرية الأمنية التي لا ترتاح للسياسيين والمثقفين، فانه في جزئه الاخر كان امتدادا للحكم البورقيبي بنقاط قوته وضعفه.
على الصعيد الشخصي رحل بن علي وذمته بين يدّي رب عادل رؤوف رحيم، اما على صعيد الحكم فمسيرته وعهده وزمانه وانجازاته وإخفاقاته وامتداداته ومفاهيمه التي ما تزال تتحكم في جزء من العقل السياسي الجمعي ورجاله الذين حورب القادة فيهم لكن كثيرا منهم ما يزالون يحكمون، ان لم يكونوا هم الحاكمين اليوم فعلا، فيجب ان يكون كل ذلك مجالا للتقييم الموضوعي الرصين بعيدا عن ضغوطات النوستالجيا الواهمة او إكراهات الحقد والثأر والأوجاع الذاتية، مع إيماني بانه ليس بمقدورنا ان نمنع الشعوب في المراحل الانتقالية خاصة من هذا وذاك.
رحم الله الرئيس بن علي، فقد أكد لي في تلك المكالمة الهاتفية اليتيمة التي جرت بيننا بعد التصريح اياه: “ان تونس عنده اهم من نفسه، وان اهم ما يرجوه ان تظل تونس بخير”. فلتكن تونس بخير رجاءًا.