28 ديسمبر 2024

الشيخ عبد العزيز الثعالبي مؤسس الحزب الحر الدستوري التونسي

1 min read

الراحل‭ ‬الأستاذ‭ ‬حمادي‭ ‬الساحلي

1‭ – ‬نسبه‭ ‬ونشأته‭:‬

ولد‭ ‬الشيخ‭ ‬عبد‭ ‬العزيز‭ ‬بن‭ ‬إبراهيم‭ ‬بن‭ ‬عبد‭ ‬الرحمان‭ ‬الثعالبي‭ ‬بمدينة‭ ‬تونس‭ ‬في‭ ‬15‭ ‬شعبان‭ ‬1293هـ‭(‬1‭) ‬الموافق‭ ‬للخامس‭ ‬من‭ ‬سبتمبر‭ ‬1876‭. ‬ونشأ‭ ‬تحت‭ ‬رعاية‭ ‬والده‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يشغل‭ ‬خطة‭ ‬عدل‭ ‬إشهاد،‭ ‬وجده‭ ‬المنحدر‭ ‬من‭ ‬أسرة‭ ‬جزائرية‭ ‬معروفة‭ ‬بالعلم‭ ‬والصلاح‭. ‬وعندما‭ ‬بلغ‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬اثني‭ ‬عشر‭ ‬عاما‭ ‬التحق‭ ‬بجامع‭ ‬الزيتونة‭ ‬المعمور،‭ ‬بعدما‭ ‬حفظ‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬وتعلم‭ ‬مبادئ‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬بالمدرسة‭ ‬الابتدائية‭. ‬فتلقى‭ ‬بالجامع‭ ‬الأعظم‭ ‬علوم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬والشريعة‭ ‬عن‭ ‬كبار‭ ‬أساتذة‭ ‬العصر‭ ‬الذين‭ ‬بلغوا‭ ‬غاية‭ ‬بعيدة‭ ‬في‭ ‬سعة‭ ‬العلم‭ ‬وتحقيق‭ ‬البحث،‭ ‬نخص‭ ‬بالذكر‭ ‬منهم‭ ‬المشايخ‭ ‬مصطفى‭ ‬بن‭ ‬خليل‭ ‬وحسين‭ ‬بن‭ ‬حسين‭ ‬إسماعيل‭ ‬الصفايحي‭ ‬ومحمد‭ ‬النجار‭ ‬وسالم‭ ‬بو‭ ‬حاجب‭.‬

ولما‭ ‬امتلأ‭ ‬وطابه‭ ‬علما‭ ‬واشتد‭ ‬نظره‭ ‬فهما،‭ ‬انقطع‭ ‬عن‭ ‬الدراسة‭ ‬قبل‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬شهادة‭ “‬التطويع‭”(‬2‭) ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يرى‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إليها،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يطمح‭ ‬إليه،‭ ‬بعدما‭ ‬اكتسب‭ ‬زادا‭ ‬ثقافيا‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬به،‭ ‬إنما‭ ‬هو‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬معترك‭ ‬الحياة‭ ‬والاتصال‭ ‬بأعلام‭ ‬النهضة‭ ‬الفكرية‭ ‬بتونس،‭ ‬وفي‭ ‬طليعتهم‭ ‬المرحوم‭ ‬البشير‭ ‬صفر‭. ‬فما‭ ‬إن‭ ‬غادر‭ ‬جامع‭ ‬الزيتونة‭ ‬حتى‭ ‬انضم‭ ‬إلى‭ ‬أركان‭ ‬الحركة‭ ‬الإصلاحية‭ ‬وانطلق‭ ‬يعمل‭ ‬لخدمتها‭ ‬وإعلاء‭ ‬كلمتها‭. ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬أخذ‭ ‬يحرر‭ ‬المقالات‭ ‬والفصول‭ ‬وينشرها‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬الصادرة‭ ‬آنذاك،‭ ‬وانتهى‭ ‬به‭ ‬الأمر‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬سنة‭ ‬1895‭ ‬إلى‭ ‬تأسيس‭ ‬جريدة‭ ‬عربية‭ ‬أطلق‭ ‬عليها‭ ‬اسم‭ “‬سبيل‭ ‬الرشاد‭” ‬وكرسها‭ ‬للوعظ‭ ‬والإرشاد‭ ‬والدعوة‭ ‬إلى‭ ‬الإصلاح‭.‬

ولكن‭ ‬السلطة‭ ‬الفرنسية‭ ‬لم‭ ‬ترض‭ ‬عن‭ ‬اتجاه‭ ‬تلك‭ ‬الجريدة،‭ ‬فقررت‭ ‬تعطيلها‭ ‬بعد‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬صدورها‭. ‬وعندما‭ ‬وجد‭ ‬الثعالبي‭ ‬نسفه‭ ‬عاطلا‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬بدون‭ ‬أي‭ ‬مورد‭ ‬رزق،‭ ‬فكر‭ ‬في‭ ‬الهجرة‭. ‬فتحول‭ ‬أولا‭ ‬إلى‭ ‬الجزائر‭ ‬مسقط‭ ‬رأس‭ ‬أجداده،‭ ‬وزار‭ ‬أهم‭ ‬مدنها‭. ‬ثم‭ ‬رجع‭ ‬إلى‭ ‬تونس‭ ‬والتمس‭ ‬من‭ ‬السلطة‭ ‬السماح‭ ‬له‭ ‬بالسفر‭ ‬إلى‭ ‬مصر،‭ ‬فلم‭ ‬تستجب‭ ‬لطلبه،‭ ‬وعند‭ ‬ذلك‭ ‬اضطر‭ ‬إلى‭ ‬مغادرة‭ ‬البلاد‭ ‬خلسة،‭ ‬والالتحاق‭ ‬بطرابلس‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬البحر‭.‬

وقد‭ ‬لفتت‭ ‬فصوله‭ ‬المنشورة‭ ‬في‭ ‬الصحافة‭ ‬الطرابلسية‭ ‬نظر‭ ‬الوالي‭ ‬التركي‭ ‬الذي‭ ‬أمره‭ ‬بمغادرة‭ ‬طرابلس‭ ‬في‭ ‬الحين،‭ ‬وذلك‭ ‬نزولا‭ ‬عند‭ ‬رغبة‭ ‬القنصلية‭ ‬الفرنسية‭ ‬هناك‭. ‬فتحول‭ ‬إلى‭ ‬بنغازي‭ ‬حيث‭ ‬تولى‭ ‬إلقاء‭ ‬بعض‭ ‬الدروس‭ ‬الخاصة‭ ‬التي‭ ‬درت‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬المال‭ ‬ما‭ ‬مكنه‭ ‬من‭ ‬السفر‭ ‬إلى‭ ‬اسطنبول‭ ‬والاتصال‭ ‬بثلة‭ ‬من‭ ‬علمائها‭ ‬ومفكريها‭.‬

ومن‭ ‬هناك‭ ‬انتقل‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬وأما‭ ‬بها‭ ‬فترة‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬قضاها‭ ‬بين‭ ‬متابعة‭ ‬بعض‭ ‬الدروس‭ ‬بالجامع‭ ‬الأزهر‭ ‬والاختلاط‭ ‬بالعلماء‭ ‬ورجال‭ ‬الفكر‭ ‬المصريين‭ ‬وفي‭ ‬طليعتهم‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭ ‬رائد‭ ‬الحركة‭ ‬الاصلاحية‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬المشرق‭. ‬ثم‭ ‬زار‭ ‬بعض‭ ‬البلدان‭ ‬العربية‭ ‬والأوروبية‭ ‬مثل‭ ‬سوريا‭ ‬والعراق‭ ‬وبلاد‭ ‬اليونان‭ ‬وإيطاليا‭ ‬والنمسا‭.‬

وفي‭ ‬سنة‭ ‬1902‭ ‬رجع‭ ‬إلى‭ ‬تونس‭ ‬بعد‭ ‬غيبة‭ ‬دامت‭ ‬حوالي‭ ‬سبع‭ ‬سنوات‭. ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬استقر‭ ‬به‭ ‬المقام‭ ‬بضعة‭ ‬أشهر،‭ ‬حتى‭ ‬عاوده‭ ‬الحنين‭ ‬إلى‭ ‬التجوال،‭ ‬فزار‭ ‬على‭ ‬التوالي‭ ‬الجزائر‭ ‬والمغرب‭ ‬وإسبانيا،‭ ‬ثم‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬الجزائر،‭ ‬فاتصل‭ ‬بالوالي‭ ‬العام‭ ‬الفرنسي‭ (‬جونار‭) ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬دعاة‭ ‬التقارب‭ ‬بين‭ ‬المسلمين‭ ‬والفرنسيين‭ ‬واقترح‭ ‬عليه‭ ‬مساعدته‭ ‬على‭ ‬إصدار‭ ‬جريدة‭ ‬عربية‭ ‬لبث‭ ‬الأفكار‭ ‬الإصلاحية‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬توجد‭ ‬فيه‭ ‬آنذاك‭ ‬مطبعة‭ ‬عصرية‭. ‬ورغم‭ ‬تشجيع‭ (‬جونار‭) ‬لهذه‭ ‬الفكرة‭ ‬فإنها‭ ‬لم‭ ‬تدخل‭ ‬حيز‭ ‬التطبيق‭.‬

2‭ – ‬دعوته‭ ‬الإصلاحية‭:‬

رجع‭ ‬الثعالبي‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬إلى‭ ‬تونس‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1904‭ ‬وأخذ‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬أفكار‭ ‬زعماء‭ ‬الاصلاح‭ ‬بالمشرق،‭ ‬أمثال‭ ‬جمال‭ ‬الدين‭ ‬الأفغاني‭ ‬ومحمد‭ ‬عبده‭ ‬ورشيد‭ ‬رضا،‭ ‬صاحب‭ ‬مجلة‭ “‬المنار‭” ‬والسعي‭ ‬إلى‭ ‬التعريف‭ ‬بنظرياتهم‭ ‬الداعية‭ ‬إلى‭ ‬النهوض‭ ‬بالأمة‭ ‬الإسلامية‭ ‬وتأسيس‭ ‬الحياة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬أصول‭ ‬الإسلام‭ ‬الأولى‭ ‬وتخليص‭ ‬العقيدة‭ ‬مما‭ ‬علق‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬خرافات‭ ‬وأوهام‭.‬

‭”‬وبدأ‭ ‬الناس‭ ‬يلتقطون‭ ‬من‭ ‬كلامه‭ ‬سقطات‭ ‬في‭ ‬مسائل‭ ‬الخلاف‭ ‬بين‭ ‬الصحابة‭ ‬والأولياء‭ ‬والكرامات‭ ‬ويشيعونها‭ ‬على‭ ‬وجهها‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬وجهها،‭ ‬حتى‭ ‬بلغت‭ ‬أسماع‭ ‬كبار‭ ‬الشيوخ‭ ‬الناقمين‭ ‬على‭ ‬التطور‭ ‬فأثارتهم‭ ‬ثورة‭ ‬أدمجت‭ ‬الخلدونية‭ ‬والمنار‭ ‬والثعالبي‭. ‬وتقدمت‭ ‬بدعوى‭ ‬إلى‭ ‬النيابة‭ ‬العمومية‭ ‬وجرت‭ ‬المرافعات‭ ‬والرعاع‭ ‬يترصدون‭ ‬الثعالبي‭ ‬في‭ ‬ذهابه‭ ‬إلى‭ ‬المحكمة‭ ‬ورجوعه،‭ ‬يهاجمونه‭ ‬بالسب‭ ‬والأذى،‭ ‬ثم‭ ‬حكم‭ ‬عليه‭ ‬بالسجن‭(‬3‭). ‬وقد‭ ‬أصدرت‭ ‬عليه‭ ‬المحكمة‭ ‬في‭ ‬23‭ ‬جويلية‭ ‬1904‭ ‬حكما‭ ‬بالسجن‭ ‬لمدة‭ ‬شهرين،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تلفظه‭ ‬بعبارات‭ ‬اعتبرتها‭ ‬منافية‭ ‬للدين‭ ‬الإسلامي‭.‬

وما‭ ‬إن‭ ‬غادر‭ ‬السجن‭ ‬حتى‭ ‬فكر‭ ‬في‭ ‬تأليف‭ ‬كتاب‭ ‬للرد‭ ‬على‭ ‬خصومه‭ ‬وإظهر‭ ‬الدين‭ ‬الإسلامي‭ ‬الحنيف‭ ‬في‭ ‬مظهر‭ ‬الدين‭ ‬المقام‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬الحرية‭ ‬والعدالة‭ ‬والتسامح،‭ ‬وإقامة‭ ‬الدليل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الإسلام‭ ‬في‭ ‬شكله‭ ‬الصحيح‭ ‬لا‭ ‬يتنافى‭ ‬مع‭ ‬المدنية‭ ‬الحديثة‭ ‬ولا‭ ‬يعوق‭ ‬التقدم‭.‬

ولم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬نشر‭ ‬ذلك‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬تونس،‭ ‬لأن‭ ‬خصومه‭ ‬مازالوا‭ ‬يتربصون‭ ‬به‭ ‬الدوائر،‭ ‬فقرر‭ ‬إصداره‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬باللغة‭ ‬الفرنسية‭. ‬وبما‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يجهل‭ ‬تلك‭ ‬اللغة،‭ ‬فقد‭ ‬كلف‭ ‬بنقل‭ ‬تأليه‭ ‬إلى‭ ‬اللغة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬صديقه‭ ‬الهادي‭ ‬السبعي‭ ‬المترجم‭ ‬بالمحكمة‭ ‬الابتدائية‭ ‬بتونس‭ ‬والمعروف‭ ‬بأفكاره‭ ‬التحررية،‭ ‬والمحامي‭ ‬سيزار‭ ‬بن‭ ‬عطار‭ ‬الذي‭ ‬دافع‭ ‬عنه‭ ‬أثناء‭ ‬محاكمته‭. ‬وقد‭ ‬صدر‭ ‬الكتاب‭ ‬بباريس‭ ‬سنة‭ ‬1905‭ ‬بعنوان‭: “‬روح‭ ‬التحرر‭ ‬في‭ ‬القرآن‭”(‬4‭).‬

وقد‭ ‬تضمن‭ ‬ذلك‭ ‬الكتاب‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬الأفكار‭ ‬الاصلاحية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬رائجة‭ ‬عهدئذ‭- ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬منها‭ ‬المتعلقة‭ ‬بتحرير‭ ‬المرأة‭ ‬المسلمة‭ ‬ومقاومة‭ ‬البدع‭ ‬والتمسك‭ ‬بالكتاب‭ ‬والسنة‭ ‬والدعوة‭ ‬إلى‭ ‬تخليص‭ ‬العقيدة‭ ‬الإسلامية‭ ‬مما‭ ‬اختلط‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬باطل‭ ‬مناف‭ ‬لروح‭ ‬التوحيد‭ ‬الخالص،‭ ‬مثل‭ ‬التقرب‭ ‬للمنتسبين‭ ‬إلى‭ ‬الصاح‭ ‬وعبادة‭ ‬الأضرحة‭ ‬والخضوع‭ ‬لأصحاب‭ ‬الكرامات‭(‬5‭).‬

3‭ – ‬انضمامه‭ ‬إلى‭ ‬حركة‭ ‬الشباب‭ ‬التونسي‭:‬

في‭ ‬ذلك‭ ‬التاريخ‭ ‬بالذات‭ ‬التحق‭ ‬المترجم‭ ‬له‭ ‬بـ‭”‬النادي‭ ‬التونسي‭” ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يضم‭ ‬نخبة‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬الفكر‭ ‬والأدب‭ ‬والسياسة‭ ‬أمثال‭ ‬علي‭ ‬باش‭ ‬حانبة‭ ‬وحسن‭ ‬قلاتي‭ ‬وخير‭ ‬الله‭ ‬بن‭ ‬مصطفى‭ ‬وعبد‭ ‬الجليل‭ ‬الزواش‭ ‬والصادق‭ ‬الزمرلي‭. ‬وساهم‭ ‬مساهمة‭ ‬فعالة‭ ‬في‭ ‬تأسيس‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المشاريع‭ ‬المنبثقة‭ ‬عن‭ “‬النادي‭ ‬التونسي‭” ‬مثل‭ “‬جمعية‭ ‬الآداب‭” ‬التمثيلية‭ ‬التي‭ ‬قدمت‭ ‬مسرحيتها‭ ‬الأولى‭ “‬صلاح‭ ‬الدين‭ ‬الأيوبي‭” ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1911‭ ‬بالمسرح‭ ‬البلدي‭ ‬بالعاصمة‭”(‬6‭).‬

وفي‭ ‬سنة‭ ‬1907‭ ‬انضم‭ ‬الثعالبي‭ ‬إلى‭ ‬الحركة‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬أنشأها‭ ‬الزعيم‭ ‬علي‭ ‬باش‭ ‬حانبة‭ ‬وأصبحت‭ ‬تعرف‭ ‬في‭ ‬الأوساط‭ ‬السياسية‭ ‬باسم‭ “‬حركة‭ ‬الشباب‭ ‬التونسي‭” ‬لتأثرها‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬نواحيها‭ ‬بحركة‭ ‬الشباب‭ ‬العثماني‭ ‬ومناصرتها‭ ‬لفكرة‭ ‬الجامعة‭ ‬الإسلامية‭.‬

وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬بسنتين،‭ ‬كلف‭ ‬الشيخ‭ ‬عبد‭ ‬العزيز‭ ‬الثعالبي‭ ‬برئاسة‭ ‬تحرير‭ ‬النشرة‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬جريدة‭ “‬التونسي‭” ‬الناطقة‭ ‬بلسان‭ ‬حركة‭ ‬الشباب‭ ‬التونسي‭(‬7‭).‬

وبمناسبة‭ ‬الاضراب‭ ‬الذي‭ ‬شنه‭ ‬طلبة‭ ‬جامع‭ ‬الزيتونة‭ ‬يوم‭ ‬15‭ ‬مارس‭ ‬1910‭ ‬للمطالبة‭ ‬بإصلاح‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬مؤسستهم،‭ ‬لم‭ ‬يتأخر‭ ‬الثعالبي‭ ‬عن‭ ‬مساندة‭ ‬الطلبة‭ ‬والدفاع‭ ‬عن‭ ‬مطالبهم‭ ‬المشروعة‭. ‬وقد‭ ‬تم‭ ‬بتلك‭ ‬المناسبة‭ ‬التلاحم‭ ‬والتآزر‭ ‬بين‭ ‬الشبيبة‭ ‬الزيتونية‭ ‬والشبيبة‭ ‬المدرسية،‭ ‬تحت‭ ‬لواء‭ ‬حركة‭ ‬الشباب‭ ‬التونسي‭.‬

وفي‭ ‬سنة‭ ‬1911‭ ‬بلغت‭ ‬تلك‭ ‬الحركة‭ ‬المباركة‭ ‬أوجها‭ ‬على‭ ‬إثر‭ ‬غزو‭ ‬إيطاليا‭ ‬للبلاد‭ ‬الطرابلسية،‭ ‬فأصدر‭ ‬علي‭ ‬باش‭ ‬حانبة‭ ‬يوم‭ ‬19‭ ‬أكتوبر‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬السنة‭ ‬جريدة‭ ‬عربية‭ ‬جديدة‭ ‬أسماها‭ “‬الاتحاد‭ ‬الإسلامي‭” ‬لمهاجمة‭ ‬الإيطاليين‭ ‬والدفاع‭ ‬عن‭ ‬المجاهدين‭ ‬الليبيين‭ ‬وجمع‭ ‬التبرعات‭ ‬لفائدتهم‭. ‬وقد‭ ‬كلف‭ ‬بإدارتها‭ ‬الشيخ‭ ‬عبد‭ ‬العزيز‭ ‬الثعالبي‭ ‬الذي‭ ‬اضطلع‭ ‬بالمهمة‭ ‬الملقاة‭ ‬على‭ ‬عاتقه‭ ‬على‭ ‬أحسن‭ ‬الوجوه‭.‬

واستغلت‭ ‬السلطة‭ ‬الفرنسية‭ ‬حوادث‭ ‬الزلاج‭ ‬الدامية‭ ‬التي‭ ‬اندلعت‭ ‬بتونس‭ ‬في‭ ‬7‭ ‬نوفمبر‭ ‬1911،‭ ‬لتعطيل‭ ‬جميع‭ ‬الصحف‭ ‬العربية،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬وبطبيعة‭ ‬الحال‭- ‬النشرة‭ ‬العربية‭ ‬من‭ “‬التونسي‭” ‬و‭”‬الاتحاد‭ ‬الإسلامي‭”‬،‭ ‬ولم‭ ‬تسمح‭ ‬بالصدور‭ ‬إلا‭ ‬لجريدة‭ ‬عربية‭ ‬واحدة‭ ‬وهي‭ ‬جريدة‭ “‬الزهرة‭” ‬شبه‭ ‬الرسمية‭.‬

ورغم‭ ‬ذلك‭ ‬فقد‭ ‬استمرت‭ ‬الحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬في‭ ‬نشاطها‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬جدت‭ ‬حوادث‭ ‬مقاطعة‭ “‬الترامواي‭” ‬خلال‭ ‬شهر‭ ‬فيفري‭ ‬1912‭. ‬فاتهمت‭ ‬حكومة‭ ‬الحماية‭ ‬علي‭ ‬باش‭ ‬حانبة‭ ‬وجماعته‭ ‬بإثارة‭ ‬الشغب،‭ ‬وقررت‭ ‬انتهاز‭ ‬تلك‭ ‬الفرصة‭ ‬للقضاء‭ ‬على‭ ‬حركة‭ ‬الشباب‭ ‬التونسي‭ ‬القضاء‭ ‬المبرم‭.‬

وفي‭ ‬فجر‭ ‬يوم‭ ‬13‭ ‬مارس‭ ‬1912‭ ‬ألقت‭ ‬السلطات‭ ‬الفرنسية‭ ‬القبض‭ ‬على‭ ‬سبعة‭ ‬من‭ ‬قيادة‭ ‬الحركة‭ ‬وأبعدت‭ ‬أربعة‭ ‬منهم‭ ‬خارج‭ ‬تراب‭ ‬المملكة‭ ‬بدون‭ ‬محاكمة‭ ‬وهم‭: ‬علي‭ ‬باش‭ ‬حانبة‭ ‬وعبد‭ ‬العزيز‭ ‬الثعالبي‭ ‬ومحمد‭ ‬نعمان‭ ‬وحسن‭ ‬قلاتي‭.‬

فتحول‭ ‬الثعابي‭ ‬صحة‭ ‬علي‭ ‬باش‭ ‬حانبة‭ ‬إلى‭ ‬فرنسا،‭ ‬حيث‭ ‬حاولا‭ ‬الاتصال‭ ‬بكبار‭ ‬المسؤولين‭ ‬الفرنسيين‭ ‬لتعريفهم‭ ‬بالقضية‭ ‬التونسية‭ ‬على‭ ‬وجهها‭ ‬الحقيقي‭. ‬ولكنهما‭ ‬لم‭ ‬يجدا‭ ‬آذانا‭ ‬صاغية،‭ ‬فقررا‭ ‬السفر‭ ‬إلى‭ ‬تركيا‭ ‬لمواصلة‭ ‬نضالهما‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحرير‭ ‬وطنهما‭.‬

وبعد‭ ‬أشهر‭ ‬قليلة‭ ‬رفعت‭ ‬السلطات‭ ‬الفرنسية‭ ‬قرار‭ ‬الابعاد‭ ‬المتخذ‭ ‬ضد‭ ‬قادة‭ ‬حركة‭ ‬الشباب‭ ‬التونسي،‭ ‬فرجع‭ ‬المبعدون‭ ‬إلى‭ ‬ديارهم،‭ ‬ما‭ ‬عدا‭ ‬علي‭ ‬باش‭ ‬حانبة‭ ‬الذي‭ ‬قرر‭ ‬الاستقرار‭ ‬نهائيا‭ ‬بتركيا‭. ‬أما‭ ‬الثعالبي‭ ‬فإنه‭ ‬لم‭ ‬يرجع‭ ‬إلى‭ ‬تونس‭ ‬إلا‭ ‬إثر‭ ‬اندلاع‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية،‭ ‬حيث‭ ‬استغل‭ ‬فرصة‭ ‬وجوده‭ ‬بالخارج‭ ‬للقيام‭ ‬برحلة‭ ‬طويلة‭ ‬عبر‭ ‬العالم،‭ ‬فزار‭ ‬على‭ ‬التوالي‭ ‬تركيا‭ ‬ومصر‭ ‬واليمن‭ ‬وسيلان‭ ‬والهند‭ ‬وسنغفورة‭ ‬وأندونيسيا‭ ‬والصين‭ ‬وبرمانيا،‭ ‬ثم‭ ‬قفل‭ ‬راجعا‭ ‬إلى‭ ‬تونس‭ ‬في‭ ‬غضون‭ ‬سنة‭ ‬1914‭(‬8‭).‬

4‭ – ‬تأسيس‭ ‬الحزب‭ ‬الحر‭ ‬الدستوري‭ ‬التونسي‭ (‬1919‭ – ‬1922‭)‬

لقد‭ ‬ركدت‭ ‬الحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬التونسية‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬بسبب‭ ‬ظروف‭ ‬الحرب،‭ ‬وذلك‭ ‬طوال‭ ‬الفترة‭ ‬الممتدة‭ ‬من‭ ‬1914‭ ‬إلى‭ ‬1918‭. ‬وما‭ ‬إن‭ ‬وضعت‭ ‬الحرب‭ ‬أوزارها‭ ‬حتى‭ ‬أقدم‭ ‬الوطنيون‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬تنظيم‭ ‬صفوفهم‭ ‬وجمع‭ ‬شملهم‭ ‬وضبط‭ ‬مطالبهم‭ ‬محاولين‭ ‬الاستفادة‭ ‬قدر‭ ‬الإمكان‭ ‬من‭ ‬المبادئ‭ ‬الأربعة‭ ‬عشر‭ ‬التي‭ ‬أعلن‭ ‬عنها‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬ويلسن‭ ‬إثر‭ ‬انتهاء‭ ‬الحرب،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬المبدأ‭ ‬المعترف‭ ‬بحق‭ ‬الشعوب‭ ‬في‭ ‬تقرير‭ ‬مصيرها‭.‬

ثم‭ ‬قرروا‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬الأمر‭ ‬أن‭ ‬يعهدوا‭ ‬بمهمة‭ ‬عرض‭ ‬القضية‭ ‬التونسية‭ ‬على‭ ‬حكومة‭ ‬باريس،‭ ‬إلى‭ ‬عناية‭ ‬الشيخ‭ ‬عبد‭ ‬العزيز‭ ‬الثعالبي‭ ‬الذي‭ ‬أصبح،‭ ‬بعد‭ ‬وفاة‭ ‬المرحوم‭ ‬علي‭ ‬باش‭ ‬حانبة‭ ‬في‭ ‬تركيا‭ ‬سنة‭ ‬1918،‭ ‬زعيم‭ ‬الحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬بلا‭ ‬منازع‭.‬

فتحول‭ ‬الثعالبي‭ ‬إلى‭ ‬باريس‭ ‬خلال‭ ‬شهر‭ ‬جويلية‭ ‬1919‭ ‬للاضطلاع‭ ‬بتلك‭ ‬المهمة‭ ‬التي‭ ‬أوضحها‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬رسائله‭ ‬المؤثرة،‭ ‬الموجهة‭ ‬إلى‭ ‬رفقائه‭ ‬في‭ ‬تونس،‭ ‬وقد‭ ‬جاء‭ ‬فيها‭ ‬بالخصوص‭ ‬ما‭ ‬يلي‭:‬

‭”‬لم‭ ‬أتحول‭ ‬إلى‭ ‬باريس‭ ‬للتنزه‭ ‬وطلب‭ ‬الراحة،‭ ‬بل‭ ‬إني‭ ‬مبعوث‭ ‬للقيام‭ ‬بمهمة‭ ‬كلفني‭ ‬بها‭ ‬شعبنا‭ ‬المضطهد،‭ ‬وهي‭ ‬لعمري‭ ‬مهمة‭ ‬شاقة‭ ‬وثقيلة‭ ‬على‭ ‬كاهلي‭.‬‭ ‬وهي‭ ‬تمثل‭ ‬في‭ ‬طرح‭ ‬القضية‭ ‬التونسية‭ ‬على‭ ‬بساط‭ ‬البحث،‭ ‬والشروع‭ ‬في‭ ‬التحدث‭ ‬في‭ ‬شأنها‭.‬

وإني‭ ‬أجهل‭ ‬مدى‭ ‬نجاحي‭ ‬في‭ ‬الاضطلاع‭ ‬بها،‭ ‬فإذا‭ ‬فشلت‭ ‬فإني‭ ‬سأهيم‭ ‬على‭ ‬وجهي‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬وسأغادر‭ ‬البلاد‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬أتمكن‭ ‬من‭ ‬خدمتها‭ ‬كما‭ ‬كنت‭ ‬أود،‭ ‬وسأقتصر‭ ‬على‭ ‬العمل‭ ‬لفائدة‭ ‬أسرتي‭ ‬التي‭ ‬ضحت‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬وطني‭ ‬العزيز،‭ ‬وأكون‭ ‬قد‭ ‬كرست‭ ‬لذلك‭ ‬الوطن‭ ‬ربع‭ ‬قرن‭ ‬من‭ ‬حياتي‭(‬9‭).‬

ولد‭ ‬تمثل‭ ‬نشاط‭ ‬الثعالبي‭ ‬منذ‭ ‬وصوله‭ ‬إلى‭ ‬باريس‭ ‬في‭ ‬إلقاء‭ ‬المحاضرات‭ ‬والخطب‭ ‬ونشر‭ ‬المقالات‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬الفرنسية‭ ‬المناصرة‭ ‬لقضايا‭ ‬الشعوب‭ ‬المولى‭ ‬عليها‭ ‬والاتصال‭ ‬بقادة‭ ‬الأحزاب‭ ‬السياسية‭ ‬وبالخصوص‭ ‬الحزب‭ ‬الاشتراكي،‭ ‬ورؤساء‭ ‬الجمعيات‭ ‬الثقافية‭ ‬والمنظمات‭ ‬الانسانية،‭ ‬مثل‭ ‬رابطة‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭.‬

وبالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬فقد‭ ‬سخر‭ ‬كل‭ ‬طاقته‭ ‬لتأليف‭ ‬كتاب‭ “‬تونس‭ ‬الشهيدة‭”(‬10‭) ‬بالتعاون‭ ‬مع‭ ‬المحامي‭ ‬التونسي‭ ‬المقيم‭ ‬بباريس‭ ‬الأستاذ‭ ‬أحمد‭ ‬السقا‭ ‬الذي‭ ‬تولى‭ ‬نقله‭ ‬إلى‭ ‬اللغة‭ ‬الفرنسية‭.‬

وقد‭ ‬أحرز‭ ‬الكتاب‭ ‬منذ‭ ‬صدوره‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬جانفي‭ ‬1920‭ ‬نجاحا‭ ‬باهرا‭. ‬ورغم‭  ‬مصادرته‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬السلطات‭ ‬الفرنسية،‭ ‬فقد‭ ‬انتشر‭ ‬بتونس‭ ‬في‭ ‬كنف‭ ‬السرية‭ ‬وزاد‭ ‬في‭ ‬حماس‭ ‬الوطنيين‭ ‬الذين‭ ‬تبنوا‭ ‬المطالب‭ ‬الواردة‭ ‬فيه‭ ‬وأجمعوا‭ ‬على‭ ‬بعث‭ ‬أول‭ ‬حزب‭ ‬منظم‭ ‬في‭ ‬تونس،‭ ‬برئاسة‭ ‬الشيخ‭ ‬عبد‭ ‬العزيز‭ ‬الثعالبي،‭ ‬وهو‭ ‬‭”‬الحزب‭ ‬الحر‭ ‬الدستوري‭ ‬التونسي‭” ‬الذي‭ ‬تم‭ ‬الإعلان‭ ‬عن‭ ‬تأسيسه‭ ‬يوم‭ ‬15‭ ‬جوان‭ ‬1920‭.‬

وقد‭ ‬تمثل‭ ‬رد‭ ‬فعل‭ ‬الحكومة‭ ‬الفرنسية‭ ‬في‭ ‬إلقاء‭ ‬القبض‭ ‬على‭ ‬مؤلف‭ “‬تونس‭ ‬الشهيدة‭” ‬ونقله‭ ‬يوم‭ ‬28‭ ‬جويلية‭ ‬1920‭ ‬إلى‭ ‬تونس‭ ‬حيث‭ ‬اعتقل‭ ‬في‭ ‬السجن‭ ‬العسكري‭ ‬بتهمة‭ “‬التآمر‭ ‬على‭ ‬أمن‭ ‬الدولة‭”.‬

ولكن،‭ ‬اعتبارا‭ ‬لما‭ ‬أثاره‭ ‬ذلك‭ ‬الإجراء‭ ‬التعسفي‭ ‬من‭ ‬ردود‭ ‬فعل‭ ‬لدى‭ ‬الرأي‭ ‬العام،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬فقد‭ ‬اضطرت‭ ‬السلطات‭ ‬الفرنسية‭ ‬إلى‭ ‬الإذن‭ ‬بإطلاق‭ ‬سراح‭ ‬المتهم‭ ‬يوم‭ ‬أول‭ ‬ماي‭ ‬1921،‭ ‬بعدما‭ ‬ختم‭ ‬قاضي‭ ‬التحقيق‭ ‬البحث‭ ‬بالتصريح‭ ‬بعدم‭ ‬سماع‭ ‬الدعوى‭.‬

وما‭ ‬أن‭ ‬غادر‭ ‬الثعالبي‭ ‬السجن‭ ‬حتى‭ ‬أقبل‭ ‬بكل‭ ‬حماس‭ ‬على‭ ‬تركيز‭ ‬هياكل‭ ‬الحزب‭ ‬الناشئ‭ ‬والتعريف‭ ‬بمطالبه‭ ‬ونشر‭ ‬الدعوة‭ ‬لفائدته،‭ ‬سواء‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الخطب‭ ‬والمحاضرات‭ ‬أو‭ ‬بواسطة‭ ‬الفصول‭ ‬المنشورة‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬الجرائد‭ ‬الوطنية‭ ‬التي‭ ‬ظهرت‭ ‬للوجود‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬منذ‭ ‬سنة‭ ‬1920،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬مجلة‭ “‬الفجر‭” ‬الناطقة‭ ‬بلسان‭ ‬الحزب‭.‬

وقد‭ ‬حظيت‭ ‬الحركة‭ ‬الدستورية‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬وهلة‭ ‬بتأييد‭ ‬كافة‭ ‬القوى‭ ‬الحية‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬ومساندة‭ ‬الجالس‭ ‬على‭ ‬العرش‭ ‬محمد‭ ‬الناصر‭ ‬باي،‭ ‬فانتشرت‭ ‬انتشارا‭ ‬سريعا‭ ‬وأصبحت‭ ‬قوة‭ ‬جبارة‭ ‬تهدد‭ ‬النفوذ‭ ‬الفرنسي‭ ‬بالخطر‭.‬

ولكن‭ ‬لم‭ ‬تمض‭ ‬مدة‭ ‬طويلة‭ ‬على‭ ‬ميلاد‭ ‬الحزب‭ ‬الدستوري،‭ ‬حتى‭ ‬بدأت‭ ‬منذ‭ ‬أواخر‭ ‬1921‭ ‬تظهر‭ ‬الخلافات‭ ‬بين‭ ‬بعض‭ ‬قادته‭ ‬حول‭ ‬طرق‭ ‬العمل‭ ‬الواجب‭ ‬اتباعها‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬تحقيق‭ ‬المطالب‭ ‬الوطنية‭. ‬فبينما‭ ‬كانت‭ ‬الأغلبية‭ ‬الملتفة‭ ‬حول‭ ‬الشيخ‭ ‬عبد‭ ‬العزيز‭ ‬الثعالبي،‭ ‬ترى‭ ‬ضرورة‭ ‬المطالبة‭ ‬بالدستور‭ ‬والتمسك‭ ‬بالمطالب‭ ‬الواردة‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ “‬تونس‭ ‬الشهيدة‭”‬،‭ ‬كان‭ ‬الشق‭ ‬المعتدل‭ ‬الذي‭ ‬يتزعمه‭ ‬حسن‭ ‬قلاتي،‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬قبول‭ ‬الاصلاحات‭ ‬التي‭ ‬أعلن‭ ‬عنها‭ ‬المقيم‭ ‬العام‭ ‬لوسيان‭ ‬سان‭ ‬باسم‭ ‬الحكومة‭ ‬الفرنسية‭ ‬والمنحصرة‭ ‬في‭ ‬رفع‭ ‬الرقابة‭ ‬على‭ ‬الصحافة‭ ‬وتأسيس‭ ‬وزارة‭ ‬للعدل‭ ‬وتعويض‭ ‬المجلس‭ ‬الشوري‭ ‬بالمجلس‭ ‬الكبير،‭ ‬وانتهى‭ ‬الأمر‭ ‬بهذا‭ ‬الشق‭ ‬الأخير‭ ‬إلى‭ ‬الانفصال‭ ‬عن‭ ‬الحزب‭ ‬الدستوري‭ ‬وتأسيس‭ ‬حزب‭ ‬جديد،‭ ‬أطلق‭ ‬عليه‭ ‬اسم‭ “‬الحزب‭ ‬الإصلاحي‭”.‬

ولكن‭ ‬ذلك‭ ‬الحزب‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬استقطاب‭ ‬الجماهير‭ ‬الشعبية‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬وفية‭ ‬للثعالبي‭ ‬وحزبه‭. ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬تحول‭ ‬الحزب‭ ‬الإصلاحي‭ ‬إلى‭ ‬مجرد‭ ‬مجمع‭ ‬يضم‭ ‬عددا‭ ‬من‭ ‬القادة‭ ‬البورجوازيين‭ ‬بدون‭ ‬أنصار‭.‬

وعلاوة‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الانشقاق‭ ‬الذي‭ ‬أضر‭ ‬بالقضية‭ ‬الوطنية،‭ ‬أصيب‭ ‬الحزب‭ ‬الدستوري‭ ‬في‭ ‬صائفة‭ ‬سنة‭ ‬1922‭ ‬بوفاة‭ ‬المغفور‭ ‬له‭ ‬محمد‭ ‬الناصر‭ ‬باي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يحيط‭ ‬الحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬بعطفه‭ ‬ورعايته‭(‬11‭). ‬فاغتنم‭ ‬المقيم‭ ‬العام‭ ‬هذه‭ ‬الفرصة‭ ‬لشل‭ ‬الحركة‭ ‬والقضاء‭ ‬على‭ ‬رجالها،‭ ‬وذلك‭ ‬بإصدار‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأوامر‭ ‬الاستثنائية‭ ‬التي‭ ‬عطلت‭ ‬الصحف‭ ‬الوطنية‭ ‬ومنعت‭ ‬الاجتماعات‭ ‬العامة‭ ‬وسلطت‭ ‬أقسى‭ ‬العقوبات‭ ‬على‭ ‬المناضلين‭ ‬الدستوريين‭. ‬فاضطر‭ ‬رئيس‭ ‬الحزب‭ ‬إلى‭ ‬الهجرة‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬إلى‭ ‬المشرق‭.‬

المراجع‭:‬

1‭ – ‬حسبما‭ ‬ذره‭ ‬صاحب‭ ‬الترجمة‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ “‬سيرته‭ ‬الذاتية‭” (‬المركز‭ ‬القومي‭ ‬للتوثيق‭ ‬بتونس‭ -‬169‭-‬13‭-‬3‭-‬B‭). ‬أما‭ ‬العقيد‭ ‬بارون،‭ ‬فقد‭ ‬أشار‭ ‬في‭ ‬تقريره‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الثعالبي‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬مواليد‭ ‬1874‭. ‬انظر‭ ‬ملحق‭ ‬كتاب‭ “‬تونس‭ ‬الشهيدة‭” (‬الترجمة‭ ‬العربية‭) ‬دار‭ ‬الغرب‭ ‬الإسلامي،‭ ‬بيروت‭ ‬1984‭.‬

2‭ – ‬التطويع‭ ‬هي‭ ‬الشهادة‭ ‬المتوجة‭ ‬للدراسة‭ ‬بجامع‭ ‬الزيتونة‭ ‬آنذاك‭.‬

3‭ – ‬الفاضل‭ ‬بن‭ ‬عاشور،‭ ‬الحركة‭ ‬الأدبية‭ ‬والفكرية‭ ‬في‭ ‬تونس،‭ ‬الدار‭ ‬التونسية‭ ‬للنشر،‭ ‬1983،‭ ‬ص74‭.‬

4‭ – ‬العنوان‭ ‬الفرنسي‭ ‬للكتاب‭ ‬هو‭: (‬L’esprit Libéral du Coran‭).‬

5‭ – ‬يراجع‭ ‬بالخصوص‭ ‬تقرير‭ ‬العقيد‭ ‬بارون،‭ ‬المرجع‭ ‬المذكور‭.‬

6‭ – ‬المنصف‭ ‬شرف‭ ‬الدين،‭ ‬تاريخ‭ ‬المسرح‭ ‬التونسي،‭ ‬ص30،‭ ‬تونس،‭ ‬1972‭.‬

7‭ – ‬صدرت‭ ‬النشرة‭ ‬الفرنسية‭ ‬من‭ ‬جريدة‭ ‬التونسي‭ ‬يوم‭ ‬7‭ ‬فيفري‭ ‬1907‭ ‬وصدرت‭ ‬النشرة‭ ‬العربية‭ ‬يوم‭ ‬8‭ ‬نوفمبر‭ ‬1909‭.‬

8‭ – ‬انظر،‭ ‬سيرة‭ ‬الثعالبي‭ ‬الذاتي‭ (‬باللغة‭ ‬الفرنسية‭)‬،‭ ‬المرجع‭ ‬السابق‭.‬

9‭ – ‬رسالته‭ ‬المؤرخة‭ ‬في‭ ‬27‭ ‬أوت‭ ‬1919،‭ ‬انظر‭ ‬تقرير‭ ‬العقيد‭ ‬بارون‭ (‬المرجع‭ ‬المذكور‭).‬

10‭ – ‬العنوان‭ ‬الفرنسي‭ ‬هو‭: (‬La Tunisie Martyres ses Revendications‭).‬

11‭ – ‬توفي‭ ‬محمد‭ ‬الناصر‭ ‬باي‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬جويلية‭ ‬1922‭ ‬وخلفه‭ ‬ابن‭ ‬عمه‭ ‬محمد‭ ‬الحبيب‭ ‬باي‭ ‬الذي‭ ‬عرف‭ ‬مدة‭ ‬توليه‭ ‬العرش‭ ‬بولائه‭ ‬للسلطة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬رغم‭ ‬صداقته‭ ‬للشيخ‭ ‬عبد‭ ‬العزيز‭ ‬الثعالبي،‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬وليا‭ ‬للعهد‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Copyright © All rights reserved. | Newsphere by AF themes.