عبد الحميد الجلاصي: الزمن ليس عاملا محايدا في الصراع السياسي
1 min readالاستاذ عبد الحميد الجلاصي
رئيس منتدى آفاق جديدة
في ان الزمن ليس عاملا محايدا في الصراع السياسي وصناعة موازين القوى وضرورة تجاوز النظرة المانوية للسياسة.
منذ انقلاب جويلية الماضي تستمر النقاشات في الساحة الوطنية و يهمني بالتحديد هنا النقاشات التي حصلت مباشرة او بصفة غير مباشرة بين الديموقراطيين، والتي عبر عنها أصحابها وكرروها في نصوص مكتوبة ومتماسكة.
والديموقراطية التي أقصدها هنا بسيطة بساطة الماء.
فهي اولا خلق التواضع و التنسيب ،ومن ثم لجم النفس على الاستعلاء على الاخرين والاستهزاء بأفكارهم و عقائدهم الى درجة تصل الى نفي حقهم في التعبير، انه خلق في منطقة حدها الاعلى التأله و حدها الأدنى قبول منزلة العبودية على حد تعبير الاستاذ مالك بن نبي. انها اقرار بالحق في التنوع واحترام له.
وهي ثانيا اقرار بعلوية الارادة الشعبية المعبر عنها في الانتخابات الدورية للفصل بين مختلف الاطروحات والمواقف و الترشيحات في كل ما يتعلق بادارة حياة المجموعة في مستوياتها المختلفة و الالتزام بنتائجها المعبرة عن الشرعية وترتيب الاوضاع على اساسها وضبط صيغ تسمح باللجوء لهذه الارادة في حالات استثنائية او طارئة.
لقد كانت لحظة 25جويلية كاشفة اذ بينت الفجوة بين الإسهال اللغوي في الانتساب للديموقراطية وحقيقة الانتساب لها في مؤشراتها البديهية.
ومع ذلك فقد فتحت نقاشات داخل الصف الديموقراطي بالتعريف التقريبي الذي ذكرناه في قراءة المشهد و تصنيف القوى اولا ،ثم بعد ذلك في اعتماد الاستراتيجية السياسية المناسبة والتكتيكات والتحالفات التي تحقق أهدافها العليا.
وفِي الحقيقة لم يكن الاشتغال في هذه المنطقة سهلا، اذ ان هذا التموقع الديموقراطي كان في ملتقى قصف من ثلاثة مصادر، وكأن أصحابه يسيرون في حقل الغام.
في الاشهر الاولى كان العالم مانويا،فيه قيس سعيد من جهة وحركة النهضة من جهة ،وفِي الاشهر الاخيرة دخلنا عقيدة التثليث بالتحاق الاتحاد العام التونسي للشغل ليصبح القانون الثالث ،ولا تستطيع الا ان تكون تابعا للاب او الابن او روح القدس.
اقصد بالنهضة هنا ،و كذلك اتحاد الشغل، محصلة القرار السياسي و الفاعلون فيه ،المتمايزة في تقديري عن دوافع واشواق القاعدتين النهضوية والنقابية.
في هذه الحركية الفكرية والسياسية قادتني وتقودني مجموعة خلاصات، و هي مهمة بالنسبة لي في فهم اللحظة الراهنة، وفي توقع المآلات القريبة، وفي التفكير بعيد المدى.
*اولا :التحليل السليم شرط أساسي من شروط اتخاذ الموقف السليم سواء في تحديد خارطة الفاعلين او تصنيفهم وفقا لمسطرة مضبوطة او توقع سلوكهم .
وفِي هذا السياق اظن ان احدى اخطاء العقل السياسي السائد (ما قبل 25 وما بعده ) عدم الانتباه الى خصوصية تفكير وتصرف الفاعل الاساسي قيس سعيد .ان استصحاب اساليب التحليل والتعاطي التي اعتمدت مع فاعلين من نمط الباجي قائد السبسي ومنصف المرزوقي وراشد الغنوشي و حسين العباسي ونجيب الشابي وحمة الهمامي وعبير موسي ادى الى اخطاء كارثيةفي الفهم و بالتالي الى اخطاء كارثية في التعامل .
*ثانيا: الموقف مضمون…. وتوقيت ايضا .
المواقف هي تعبير عن انحياز ما، وبالتالي فهي ليست محايدة بل هي تعبير الى انخراط في معسكر ما و بالتالي فهي عنصر أساسي من مكونات تشكيل موازين القوى في لحظة ما.
يمكن بالتاكيد تغيير المواقف حسبما تطورات الوقائع و تباين الرهانات والمصالح والتقديرات و لكن هذا لا يلغي ضرورة إصدار احكام بخصوص المواقف السابقة وتحمل مسؤوليتها من منظار التاريخ.
*ثالثا: المواقف تقاس بمآلاتها بقطع النظر عن نوايا أصحابها و لا بصياغاتها اللغوية.
نوايا الفاعلين مهمة في التقييم الاخلاقي وفِي المآل الأخروي اما في عالم الكون و الفساد فالمهم في الموقف السياسي اثاره و نتائجه.
*رابعا: الالتقاء في الموقف لا يعني بالضرورة وحدة الدوافع:
مساعي تشكيل المشهد بعد الانقلاب تقودها خلفية البحث عن الحد الأدنى المشترك، ولذلك لا تخفى التباينات في الدوافع و الأسقف على المنخرط و المتابع صلب الجبهات بصدد التشكل.
مثلا تعنيني هنا خاصة التباينات صلب الجهة الاكثر نشاطا في مقاومة الانقلاب (مواطنون ضد الانقلاب /المبادرة الديموقراطية،جبهة الخلاص). ففي قراءة تبسيطية اراها تتشكل من مكونين: الاول لا علاقة مباشرة له بادارة شؤون البلاد قبل 25 جويلية يقوده التزامه الديموقراطي،والثاني مكون تحمل مسؤولية رئيسية في ادارة شؤون الحكم قبل 25 وقد تختلط في دوافعه القناعة الديموقراطية بالموقف الطبيعي لكل صاحب سلطة ازيح بغير وجه حق من موقعه.
لكل مكون من هذين المكونين واجباته المخصوصة ويمكن لهذا التشكيل ان يتقدم اذا ترددالمكون شريك الحكم في تقديم قراءته للمرحلة السابقة واستخلاص الدروس منها وتحمل نصيبه من المسؤولية عند الاقتضاء،لعل ذلك يساعد على فك الحصار عن الشارع السياسي وبناء جسور مع الشارع الاجتماعي الحاسم والقادم.
*خامسا: الانقلابات لا تقاوم في التفاصيل و انما في الكليات:
صاحب السلطة هو دائما صاحب المبادرة ،وهو الذي يفرض اجندته ونسقه.
مشكلة المقاومات حينما تضيع البوصلة و تغفل ان الانقلاب هو بالتحديد تغيير لاأخلاقي وجذري للاوضاع وان مناقشته في التفاصيل هو بالضبط سقوط في فخه وتمكين له.
*سادسا: الحلول مرتبطة بشروط موضوعية وليس بتمنياتنا ورغباتنا .
احيانا نخلط بين التحليل بما هو نشاط عقلي يفترض فيه التحلي باقصى درجات الصرامة وان شئنا “التشاؤمية =غرامشي ” وبين رغباتنا و احيانا مخاوفنا “من “المجهول او الخوف “على “الدولة او الشعب او الثورة .
في الاخير يجب ان نذكر بَعضنا بمنزلتنا الانسانية ذات الحدود (للاسف )،كما يجب ان نذكر بَعضنا بوجود وضعيات لا تتوفر على حلول، وهذا تمرين معلوم في الرياضيات .وعدم وجود الحلول لا يعني بالضرورة الفراغ اذ تهتدي كل “السيستامات “دائما الى ترتيبات ما تعبر عن حالة توازن الانسداد تلك ،و لكنها ايضا تساهم لاحقا في تجاوز تلك الحالة و في اعادة الاعتبار للعقل في الفهم و في التوقع و اعادة الاعتبار للارادة كي تستعيد قدرتها على البناء ،وان تطلب ذلك وقتا ،ولكن ذلك لا يهم كثيرا اذ ان منطق زمنية المسارات الكبرى والطويلة مختلف عن منطق أعمارنا وقدرتنا كافراد .
*سابعا: اتحاد الشغل والصورة المركبة:
في يوم الإضراب العام ابدي بعض الملاحظات بشان موقع ودور الاتحاد العام التونسي للشغل (كإدارة وسياسة).
تسود سردية أسطورية لاتاريخية في النظر الى الاتحاد تروجها قيادات المنظمة عند التعبئة ويروجها بعض المتسيسين الباحثين عن مظلة تعوضهم ضعف الاحزاب التي يفترض ان تعبر عنهم، وبجانبها تروج نظرة وظيفية تعتبر الاتحاد حصنا يمكن ان يحمي الديموقراطية و العدالة الاجتماعية.
والاتحاد منظمة بشرية (للتذكير فقط) تختلط في ادائها ،مثل كل المنظمات العريقة والمتنوعة و الممتدة محطات التالق مع محطات اقل تألقا، وقد تقودها دوافع متباينة بين قاعدتها (التي تستعمل احيانا وقودا في معارك السلطة) وبين قيادتها وبين بيروقراطيتها الواسعة والتي تعاني أمراض سائر البيروقراطيات ،ولعل المنظمة لم تتخلص من ارث اوضاع الاستبداد حينماجمعت الى وظيفتهاالاجتماعية وظيفة الملاذ لعمل سياسي لم يجد الفضاء المناسب للتعبير عن نفسه بطريقة سليمة .هذاالدور “الحزبي “تواصل بعد الثورة ،وهذا من أمراضها. وفي هذا حديث طويل يحتاج الى هدوء ولكن يحتاج ايضا الى توضيح .فنقد الاداء السياسي للاتحاد او غيره لا يعني بحال التساهل مع مخططات الانقلاب استهدافه في مسعاه لابتلاع الدولة و كل الفضاء العام .
في التعامل مع 25جويلية وبعده اخطات قيادة المنظمة اخطاء استراتيجية تترتب عنها احكام لا يجب التردد في اطلاقها كي نتخلص من الرهانات الخاطئة .
-لقد اخطا الاتحاد قراءة شخصية سعيد (مثل غالب المشهد).
-ولقد راهن على ركوب الانقلاب لتحويله من انقلاب غبي الى انقلاب ذكي يستثمر خبرة تاريخية في التكتيك والمناورة. هذا يعني ان الاتحاد اختلف على سعيد على ارضية الانقلاب لا خارجها. هذا يعني ان الاتحاد منظمة غير ديموقراطية وفقا للمؤشرات التي وضعناها أعلاه .
-ولقد اتاحت الصراعات على الوصول الى المؤتمر وتمرير الفصل 20 للمنقلب زمنا للانقلابي ليتمكن (22سبتمبر والمرسوم 117 و 13 ديسمبر والأجندة).
-اخر بيان للهيئة الادارية كان خطأ استراتيجيا اخر .بقطع النظر عن الإنشاء هذا البيان هو عرض لصفقةعلى الانقلاب و هو انتقال من مقاربة ركوب الانقلاب الى مقاربة فسح المجال في السياسي و الانسحاب الى الاجتماعي.
مرة اخرى الانقلاب لا يقاوم في التفاصيل .الدولة مهددة ومن لم ينخرط في هذه المعركة لن يجني اي مكسب (تمرير المساواة في الارث عند بعض الصديقات،او التخلص من عبء الفصل الاول عند بعض الاصدقاء،او تخفيض سرعة بيع البلاد للمؤسسات الدولية).
مرة اخرى الخطا في قراءة شخصية سعيد يقود الى قراءة خاطئة والى مواقف خاطئة.
انا مع الدور الاجتماعي والنضال الاجتماعي للاتحاد ولكن سعيد يعول على التهرئة وعلى التجاهل .اليوم ارسل رسالتين. الاولى عدم ترؤسه لمجلس الوزراء وكأن لا شيء في البلاد ،والثانية تلك الصورة المستهترة لفريق الصدفة في القصبة.
لعلنا نحتاج الى كثير من الخيال لفهم “عقل” مغاير والتعامل معه.
*ثامنا :ماذا لو كان سعيد مطلبا خارجيا؟
لا استبعد ذلك.
-فبقطع النظر عن التفاصيل فان دستور سعيد (ولا علاقة له في تقديري لا بالصادق بلعيد ولا بأمين محفوظ) سيتجه الى نظام رئاسي ،وأسهل للقوى الخارجية صناعة شخص والمراهنة عليه من التاثير في خارطة برلمانية كما كان الشان في النظام السياسي منذ الثورة.
-وهذا الخيار من شانه ايضا ان يحد من التاثير السياسي للتيار المحافظ الذي سيتواصل حضوره دون اللجوء الى الخيارات الامنية و القضائية.
-كما ان سياسة تحجيم دور الأجسام الوسيطة سيطال اتحاد الشغل لمحاولة ارجاعه الى المربع النقابي،وهذا ايضا قد يكون شيئا مرغوبا من رعاة الديموقراطية في العالم .