الحزب الحر الدستوري التونسي: تاريخ حافل.. في كلمات
1 min readأ. رشيد الذوادي
تونس درة الدهر
تونس في مجالها الجغرافي والفكري وفي تراثها المنطوي والمنزوي حينما نريد الحديث عنها وتقديمها للغير، نقول عنها هي: مرآة تنعكس عليها صور من الحياة، والكثير من صفحات التاريخ الذي يمتعنا بمذاقه بوصفه وقودا للوطنية والمشاعر الصادقة.
ومن هنا كان علينا استحضار ما نستمد منه الخلاصات والقصاصات والكلمات التي تمتزج مع الحياة، لنكتسب لها عمرا جديدا يعلي شأنها في موازين العقل والمروءة وبعد النظر وسداد الرأي.
فتونس، هي بلد مغاربي، وعربي، ومتوسط، مرصع بجواهر العقيدة والكرم والوطنية الموزونة بميزات الشرع المحمدي، والحافل بكل ما يتمايز به الحاضر بالماضي.. هي وطن عجيب يشكد ببهاء مدنه، وبما يروى عنه من تأثر كبير في المتوسط، وفي رحاب الرباطات والمساجد الضخمة كجامعي (عقبة) بالقيروان و(الزيتونة) بتونس العاصمة.. كما يشدك أيضا إشعاع أبنائه في مجالات الثقافة والتأصيل والسياسة والقضاء العدلي، والتشريع القانوني، ووضع القوانين طبق روح العصر وما يتماشى وعادات البلاد وأعرافها.
وتونس في مجال صنع النهضة الفكرية والعلمية وفيما ينزع نحو سياقات التفكير السوي والحرية والإشادة بها، لها تاريخ طويل في صميم قصة كفاح الإنسان وأدائه الكامل.
واكتسب أبناء هذا الوطن عبر ترحال الزمن حسن التصرف، ومسؤولية تدعيم مما هو نافع ومفيد فيما يخص تدعيم حق العروبة، وفهم مقاصد الدين الإسلامي، وصون كلمة الحق..
ورأينا في هذا الشأن أعلاما عديدين تضلعوا في اللغة والفقه والمعارف.. فهذا فقيه إفريقية بلا منازع الإمام سحنون صاحب “المدونة”.. وهذا القاضي عبد السلام سعيد التنوحي المولود بالقيروان عام 202هـ(817م) ويومها كان أحد أقطاب الشريعة والدين يوم كان للقيروان عز وسؤدد ودار لطلبة المغرب العربي الكبير وهذا هو محمد بن سحنون المتوفى بالساحل التونسية سنة 256هـ (869م).. والرجل كما نعلم كان عالما مقتدرا حزنت عليه القيروان يوم دفنه، حيث أغلقت الدكاكين والأسواق أياما حزنا شديدا، وضربت القباب على قبره أربعة أشهر باليل والنهار إلى أن حل الشتاء البارد(1)..
وكذا كان الشأن بالنسبة إلى المرب الذائع الصيت أبو الحسن القابسي (935-1012م) ولهذا المثقف- كما روي عنه- نشاط في التدريس والتأليف.. مما جعل صاحب كتاب (مسالك الأبصار) يقول عنه: “كان حافظا للحديث والعلل”. وابن خلكان قال عنه: “إنه كان إماما في علم الحديث ومتونه”(2)..
وهذا القلصادي، وابن خلدون، وابن رشيق، وعلي بن زياد (تـ182-798م) وأعلام أخر من شيوخ الزيتونة وخريجيها ممن باشروا التدريس والقضاء الشرعي ووضعوا القوانين طبق روح العصر كمحمد الفاضل ابن عاشور وعبد العزيز جعيط.
إذن.. فتونس هي تلك في القرون التي خلت.. وتلك هي صورتها في أروقة الأيام.. هي وطن معشوق منذ العصور السحيقة.. وترى في هذا الوطن نفسك وأجدادك، وسلسلة من القطع الأثرية الفريدة، أو النادرة من العصور القديمة، وصولا إلى العهود الإسلامية في عملية مراقبة دائمة ضمن تواريخ الأجيال والحكام والقادة.. وأيضا ضمن مراحل المقاومة الشعبية ضد الاستعمار الفرنسي الذي أدت سياسته الشنيعة إلى تفقير الشعب، وإذلاله، والتنكيل به، ومحاولة تعطيل مساراته في التحرر والانعتاق حسب رغبة المعمرين وغلاة الاستعمار.
المقاومة الوطنية
والمقاومة الوطنية هي سلسلة متصلة الحلقات عبر فيها الشعب عن رفضه لمعاهدتي (باردو) و”المرسى)، وابتدأت حركات المقاومة بمعارضة محمد العربي زروق، حيث كان موقفه مشرفا للتونسيين، وخفوا من الاضطهاد لجأ إلى (إسطنبول) وقضى بها سبع سنوات ثم انتقل في نهايتها إلى (المدينة المنورة) وبقي بها إلى أن توفي عام 1902م.
وحركات المقاومة تمثلت فيما بعد في جملة من المظاهرات الشعبية عند نصب تماثيل لغلاة الاستعمار كتمثال (جول فيري) رئيس وزراء فرنسا الذي تم احتلال البلاد في عهده، وتمثال (روسطان) بمتحف باردو، وتمثال (فيليب توما) بمحطة المتلوي(3).
كما تشكلت المقاومة ضد قوانين سلطة الاحتلال، وتم في هذا الشأن وتحديدا في 6 أفريل 1984 انعقاد أول اجتماع شعبي عام بضريح الشيخ محرز بن خلف واتفق المجتمعون فيه على تحرير عرضة قدمت إلى الباي (علي الثالث) وحرر هذه العريضة الشيخ محمد السنوسي رئيس تحرير صحيفة (الرائد الرسمي التونسي)(4).
وتقمصت حركة مقاومة المستعمر فيما بعد، في شكل كتل تجمعت حول صحف.. من بينها (صحيفة الحاضرة) لعلي بوشوشة، وصحيفتا (المنتظر) و(المبشر) للشيخ عبد العزيز الثعالبي، الذي أسس بد تعطيلهما جريدة (سبيل الرشاد)، ومن كبار من أدار هذه الصحف وكتب فيها: علي بوشوشة، ومحمد السنوسي، وعلي كاهية، والبشير صفر، والشاذلي زروق، والمكي بن عزوز، وحسين بن عثمان، والهادي السبعي، وعبد الرحمان الصنادلي، ومحمد السلامي وأضرابهم(5)..
ثم وعلى إثر تأسيس المدرسة الخلدونية سنة 1896 و(الجمعية الرياضية الإسلامية) وسفر الشيخ عبد العزيز الثعالبي 1898 إلى الشرق حيث قضى سبع سنوات هناك متنقلا بين مصر وإسطنبول والعراق وغيرها، وإثر رجعوه سنة 1902م أصدر علي باش حانبة (1879-1918م) في عام 1904 جريدة (التونسي) ومشروعها شكل تنظيما أطلق عليه (تونس الفتاة) ومن قادة هذا المشروع والصحيفة البشير صفر، ومحمد باش حانبة، وعلي بوشوشة، ومحمد الأصرم، وعبد الجليل الزاوش.. والجريدة في البداية صدرت باللغة الفرنسية، ثم أصبحت تصدر باللغتين العربية والفرنسية، وتولى الشيخ عبد العزيز الثعالبي تحرير النسخة العربية منها(6).
ومن هنا، كان انطلاق اليقظة بأوراقها المختلفة، وتم صدور الكثير من الكتابات التي تعبر عن مقاومة المحتل، وتأسست أحزاب آثرت المحافظة على المبادئ من بينها (حركة الشباب التونسي)، ثم (الحزب الدستوري التونسي) بزعامة الشيخ عبد العزيز الثعالبي في سنة 1920م.
والثعالبي كما هو معروف هو صاحب مجد في النضال الوطني والفكري، وتأثر في شبابه بصفوة من المقاومين الإسلاميين والعرب، أمثال جمال الدين الأفغاني، وعبد الرحمان الكواكبي، وشكيب أرسلا، الذي وصفه (فليكس فارس) بأنه “روح جميع الحركات التحريرية في العالم العربي”(7).
والحديث عن المجاهد الوطني عبد العزيز الثعالبي يحيلنا إلى الحديث عن (الحزب الحر الدستوري التونسي)، الذي كان مقره (مدينة تونس) وله فروع داخل البلاد.. ومن أهدافه:
أ- تحرير البلاد التونسية من العبودية..
ب- السعي إلى إقرار دستور، يضمن للأمة (الحكم الذاتي) وفقا لمبادئ العدل التي أقرتها واتبعتها كافة الأمم المتحضرة(8).
ج- التفريق بين السلط التنفيذية والقضائية والتشريعية، لضمان احترام حرية الفرد والمسكن، والاجتماع والملكية، والقول والكتابة والنشر، وجعلها حقوقا مقدسة للأفراد.
والملاحظ أن (الدستور) المطالب بتكوينه يقضي بـ:
1 – وجوب تفريق السلط.
2 – إبقاء السيادة في العائلة الحسينية.
3 – تكوين حكومة تتركب من وزراء يختارهم من يعينه (الباي) لتشكيل الوزارة التي تسند إليه رئاستها.
4 – الوزارة تكون مسؤولة أمام (الجمعية الوطنية التونسية)..
5 – الجمعية الوطنية ينتخب أعضاؤها من التونسيين.
6 – الناخب يشترط فيه أن يكون تونسيا وبلغ من العمر 21 سنة ويتمتع بحقوقه المدنية.
ويؤكد الدستور أيضا على ما يلي:
على الحكومة أن تحد ثمجالس عامة بمراكز الأعمال، كما يجب عليها أن تحدث مجالس بلدية في جميع أنحاء المملكة التونسية، وتحدث أيضا غرفا زراعية وتجارية من طرف التجار والمزارعين التونسيين(9)، وميزانية الدولة تصرف في المصالح العامة التونسية لا غير(10).
ومؤسس (الحزب الدستوري) هو الشيخ عبد العزيز الثعالبي وهو من مواليد (حي الحلفاوين) (1879-1944م)، ونشأة هذا الزعيم كما يذكر المؤرخ أنور الجندي في كتابه (عبد العزيز الثعالبي رائد الحرية والنهضة الإسلامية) في ص10 كانت نشأة وطنية: “نشأ وتعلم في كنف جده عبد العرحمان الثعالبي القاضي المجاهد الجزائري الذي هاجر إلى تونس ترفعا واعتزازا عن أن يعمل للفرنسيين، فورث عنه أخلاقه العالية ومبادئه السامية، فحفظ القرآن بكتاب (حومة الأندلس) ودرس النحو والعقائد والآداب، ودخل (مدرسة باب سويقة) الابتدائية في تونس بعد أن نال شهادتها، ثم التحق بجامع الزيتونة فقضى فيه سبع سنوات وتخرج منه سنة 1896 حاملا (شهادة التطويع)، وأخذ يتردد على المدرسة الخلدونية متبعا الدراسات العالية..”(11).
الثعالبي.. المفكر
والحديث عن الثعالبي ينقلنا إلى الحديث عن منابع فكره من خلال القراءات الأخلاقية للتاريخ، ومن خلال كتاباته ومقالاته ومؤلفاته كـ: “تونس الشهيدة” و”روح التحرر في القرآن”، فهو الكاتب المفكر الذي يتكلم بأفكار جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعلي يوسف، والكواكبي.. كما يقول محمد الفاضل ابن عاشور.
وهو المفكر والرحالة الذي أحد ثدويا في كل بلاد زارها.. رحل إلى المشرق العربي، وزار الهند وأندونيسيا، وتركيا، وإيران، وأفغانستان وكان في كل دولاته يحمل رسالة كبرى قوامها كما يقول المفكر أنور الجندي: “اليقظة والتجمع والالتقاء الروحي والفكري للعالم الإسلامي، وإبلاغ كلمة المغرب إلى المشرق في مجال الحرية والكفاح”(12).
الحزب الحر الدستوري الجديد
والحزب الحر الدستوري الطي تجدد في قصر هلال سنة 1937م وقاده نخبة من المثقفين التونسيين من بينهم: الحبيب بورقيبة، ومحمود الماطري، والبحر قيقة، والطاهر صفر، قاد حركة المقاومة ضد المستعمر، وخاض معارك شتى للقضاء على مخططات النفوذ الفرنسي، كما واجه صور التغريب بكل أشكاله، وحمى تونس من النجنيس وقادها إلى النضال، وإلى قضية التراب مع بلدان المغرب العربي، وساند قضايا تحرير المرأة وأداءها.
ومن اهتمامات هذا الحزب وأهدافه حينما استقلت تونس عام 1956م أنه أولى عنايته بما يلي:
* أولا: الاهتمام بالتعليم ونشره ودعم المرعفة والصحة في كامل البلاد.
* ثانيا: دعم فكر التحرر من أغلال الفرنسية.
* ثالثا: عمل على تونسة الإدارة وتوجيه الأجيال إلى ما يشدها إلى المقومات.
هذا الحزب جابه معارك عديدة كـ: أحداث 9 أفريل 1938م، ومعركة التحرير التي انطلقت بخطاب الزعيم بورقيبة يوم 13 جانفي 1952 من بنزرت ثم معركة الجلاء عن هذه المدينة سنة 1962م.
ويشهد التاريخ بأن زعماء هذا الحزب، وكوادره الوطنية، بذلوا كل جهد لإرساء تقاليد حققت أمنيات الزعماء والشهداء، وذكرتنا بآثارنا وبتاريخنا القائم على المبادئ وبما أحدثته الأقلام والعقول، للارتقاء بهذا البلد العربي.
الهوامش
1) (قطائف الأيام): محمد الصادق عبد اللطيف ط. تونس 2019م ص5 وما بعدها.
2) المرجع نفسه ص55.
3) (تونس عبر التاريخ): أحمد عامر ط. تونس 1960م ص359.
4) المرجع نفسه ونفس الصفحة، و(أبطال وشهداء): لرشيد الذوادي ط. بنزرت 1968 ص16.
5) المرجع نفسه ص361.
6) المرجع نفسه ص363.
7) (الفكر والثقافة المعاصرة): أنور الجندي ط. مصر 1965م ص122.
8) (تونس الشهيدة): لعبد العزيز الثعالبي ط. بيروت 1984م ص359 وما بعدها.
9) المرجع نفسه ص161.
10) المرجع نفسه ص362.
11) (عبد العزيز الثعالبي رائد الحرية والنهضة الإسلامية): ط. بيروت 1984م ص10 وما بعدها.
12) (الفكر والثقافة المعاصرة): أنور الجندي ص124، و(رواد الإصلاح: رشيد الذوادي) ط. 3 مصر 2002 ص104 وما بعدها.